الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

أيام الله تعالى.. تذكير الناس بها (1)


د. إبراهيم بن محمد الحقيل

 الحمد لله الخلاق العليم؛ له في خلقه شئون وآيات، وله في عباده أحوال وتقلبات؛ فيعز ويذل، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، ويرفع ويضع {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} [الرعد:39] نحمده لذاته ولجميل أسمائه وأوصافه، وحكيم أقداره وأفعاله، ونشكره أن الملك ملكه، وأن الأمر أمره، وأن القدر قدره، لم يكل ذلك إلى أحد من خلقه، وإلا لضاع الخلق وضلوا وظلموا، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أحصى خلقه كلهم، وعلى مقتضى حكمته ورحمته دبرهم، ولا يخرج عن تدبيره أحد منهم{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ علم الناس دينهم، ووعظهم بكتابهم، وبين لهم أحكامهم، وذكرهم بأيام ربهم، فلا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من مرور الأيام عظات وعبرا، ومما بقي من أعماركم زادا تجدونه لكم ذخرا، والزموا الطاعات بتقدم أعماركم؛ فإن الجياد المضمرة تزيد سرعتها عند بلوغها النهاية، فأسرعوا إلى لقاء ربكم باكتساب الحسنات، وأحسنوا الختام؛ فإنما الأعمال بالخواتيم.
 أيها الناس: التذكير بأيام الله تعالى تذكير بما أمر الله تعالى به، وبما فعله رسله عليه السلام حين ذكروا أقوامهم بأيام ربهم سبحانه وتعالى. وأيام الله تعالى تشمل نعمه سبحانه فيهم، وعذابه لأعدائهم، ووقائعه سبحانه في القرون الأولى. فتذكر النعم يؤدي إلى الشكر، وتذكر انتقام الله تعالى من الكفار والفجار يؤدي إلى الخوف والحذر والتوبة والإنابة. والتوبة مع الشكر سببان لإغداق النعم، ورفع النقم.
 ومن قرأ قصص المرسلين عليهم السلام في القرآن الكريم؛ وجد فيها تذكيرا بأيام الله تعالى، فكل نبي يذكر بها قومه؛ لئلا يصيبهم ما أصاب من كانوا قبلهم.
 هذا هود عليه السلام يذكر قومه بأيام الله تعالى فيهم حين استخلفهم في الأرض بعد هلاك قوم نوح عليه السلام؛ لئلا يسيروا سيرتهم؛ وليشكروا ربهم سبحانه على أيامه فيهم فقال لهم {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]. ولكنهم لم يشكروا الله تعالى على أيامه فيهم، ولم يعتبروا بأيامه سبحانه فيمن كانوا قبلهم، فأصابهم ما أصابهم.
وخلفهم قوم صالح عليه السلام فذكرهم بأيام الله تعالى فيهم، وبأيامه سبحانه فيمن كانوا قبلهم من المكذبين، وما حل بهم من العذاب فقال لهم {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
 ولكن قوم صالح ساروا سيرة من كانوا قبلهم من قوم نوح وقوم هود، فحل بهم من العذاب ما حل بمن كانوا قبلهم، وجرت عليهم سنن الله تعالى وأيامه.
 ثم بُعث شعيب عليه السلام في قومه، فذكرهم بأيام الله تعالى فيهم، ونعمه عليهم، وحذرهم من سبل المفسدين ممن عذبوا قبلهم فقال لهم {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86].
 وفي مقام آخر ذكرهم بأيام الله تعالى فيمن كانوا قبلهم، محذرا إياهم من أن يصيبهم ما أصابهم إن أصروا على كفرهم وعدم شكرهم {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] ولكن قوم شعيب لم يشكروا الله تعالى على أيامه فيهم، ولم يتعظوا بأيامه سبحانه في المكذبين قبلهم. فعُذبوا كما عذبوا.
 وبعث الله تعالى موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة، وأمره بتذكير بني إسرائيل بأيامه سبحانه فيهم، وبأيامه عز وجل في فرعون وجنده، وفي المكذبين من قبلهم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]
وجاء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} [إبراهيم: 5] قَالَ: "بِنِعَمِ اللهِ" رواه أحمد، وفي رواية للنسائي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَامَ مُوسَى يَوْمًا فِي قَوْمِهِ فَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَأَيَّامُ اللهِ نَعْمَاؤُهُ».
 ومن قرأ القرآن تبين له أن أمة بني إسرائيل هي أكثر الأمم السابقة التي ذُكرت بأيام الله تعالى، وكرر في القرآن ذكر موسى عليه السلام وهو يذكرهم بها {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]. وفي موضع آخر {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]  وآيات أخرى سوى هذه فيها تذكير لبني إسرائيل بأيام الله تعالى فيهم حين أنجاهم من فرعون وجنده، وآتاهم من النعم والملك ما لم يؤت أحدا قبلهم، ولكنهم لم يشكروا الله تعالى على ما أعطاهم، ولم يعتبروا بأيام من كانوا قبلهم.
 ولما بعث الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، أمره سبحانه أن يذكر أمته بالقرآن {فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
 وفي القرآن تذكير بأيام الله تعالى في هذه الأمة بخصوصها، فقال سبحانه مذكرا الصحابة رضي الله عنهم {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}  [آل عمران:103] وفي مقام آخر قال سبحانه {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
وفي مقام آخر أمره بالعفو عن أولئك الذين لا يأبهون بأيام الله تعالى حتى ينزل عليهم العذاب {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14] أَيْ: لَا يَرْجُونَ ثَوَابَهُ، وَلَا يَخَافُونَ بَأْسَه وَنِقَمَهُ.
 والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقص على أصحابه قصص السابقين ليعتبروا بما فيها من أيام الله تعالى، فقص عليهم قصة الأعمى والأبرص والأقرع، وكيف أن الله تعالى أذهب ما بهم من علل، وأغناهم من الفقر، وأعطاهم من المال، ثم ابتلاهم فكفر الأبرص والأقرع فنزل بهم عذاب الله تعالى، فعادت عللهم وفقرهم عليهم، وآمن الأعمى وشكر فنجا. فأيام شفائهم وإغداق النعم عليهم تستوجب الشكر، وبكفرهم نعمة الله تعالى استوجبوا العقوبة، فجرت عليهم أيام الله تعالى وسننه.
 إننا –يا عباد الله- نرفل في نعم لا تعد ولا تحصى، ورأينا أيام الله تعالى فيمن بدلوا نعمة الله كفرا، فأحلوا قومهم دار البوار، وإننا بشكر النعم نقيدها، وبكفرها نمحقها ونزيلها، وقد قال موسى عليه السلام لقومه في معرض تذكيره إياهم بأيام الله تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 6- 7] فحلت بهم أيام الله تعالى، ونزل بهم عذابه سبحانه بقوم سلطوا عليهم فاستباحوهم.
 نعوذ بالله تعالى من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه، ونسأله تعالى أن لا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا، وأن يعيننا على ما يرضيه، ويجنبنا ما يسخطه.
 وأقول قولي هذا وأستغفر الله...      
الخطبة الثانية
 الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتبروا بمرور الليالي والأيام، وتتابع الشهور والأعوام؛ فكل عام يمضي على العبد يباعده عن دنياه، ويقربه من آخرته، ومن مات قامت قيامته، فلا توبة ولا عمل في القبور {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10-11].
 أيها المسلمون: من أيقن بأيام الله تعالى علم أن للطغاة المجرمين في الأرض، الذين أنزلوا بالمسلمين الخطوب، وشردوا الشعوب، وفعلوا من الجرائم ما يعز على الحصر، واستباحوا من الحرمات ما يفوق الوصف... علم أن لهم أياما من أيام الله تعالى يُكتب فيها ذلهم، وتهوي فيها عروشهم، وتتمزق دولهم، ولو غرتهم قوتهم وجمعهم، وتحالفوا على أهل السنة لإفنائهم. وإن للمظلومين يوما ينتصرون فيه على من ظلمهم، وما نفع فرعون جمعه وقوته لما أغرقه الله تعالى، وكان يوم غرقه يوما عظيما من أيام الله تعالى في إهلاك الجبابرة المستكبرين، ونصر المؤمنين المستضعفين، حتى قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ» وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» وأمر بمخالفة اليهود في صيامه وقال «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» روى كل هذه الأحاديث مسلم في صحيحه.
 فلنحرص – عباد الله – على صيام عاشوراء؛ لأنه يوم من أيام الله تعالى التي أهلك فيها الطغاة المتجبرين، ونصر فيها النبي والمؤمنين؛ وذلك تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام حين صامه وأمر بصيامه.
 ولنعلم أن لطغاة العصر من الصليبيين والصهاينة والباطنيين والمنافقين الذين أذاقوا المسلمين الويلات أياما تهن فيها قوتهم، ويتفرق جمعهم، وتندحر جيوشهم.. يوم ينصر الله تعالى فيه الحق وأهله، ويدحر الباطل وجنده، فلا نيأس ولا نهن ولا نستبطئ نصر الله تعالى ووعده؛ فإن وعده حق {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:4- 6].
وصلوا وسلموا على نبيكم....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق