الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

«الباشا» الذي في المطار


«الباشا» الذي في المطار


يتحدث جورج أورويل في روايته الشهيرة (١٩٨٤)عن «شرطة الأفكار» التي تراقب سلوك الناس وما يدور بخلدهم وعن المصير البائس الذى ينتظر من يضبط متلبسا بارتكاب «جريمة التفكير» في دولة الأخ الكبير.
وهى التي تخيلها الكاتب في إنجلترا إذا وقعت في قبضة النازية التي كانت صاعدة في أوروبا خلال أربعينيات القرن الماضي.
شرطة الأفكار هذه تراقب الناس في بيوتهم من خلال شاشات معدنية ترصد كل ما يجرى في داخلها، وفى ضوء ما تنقله من معلومات تتحدد مصائر الأفراد وتصدر التوجيهات والتعليمات.
وهى المهمة التي تتولاها «وزارة الحب» المسئولة عن انفاذ القانون والحفاظ على النظام العام في الرواية، متعاونة في ذلك مع «وزارة الحقيقة» التي تتولى صياغة الأخبار وبثها.
هذه المشاهد أستحضرها في مطار القاهرة في كل ذهاب وعودة. باعتباري أحد العاملين في مجال الأفكار. إذ أقف أمام ضابط الجوازات الجالس وراء لوح زجاجي.
وحين أعطيه جواز السفر فإنه يمرره في جهاز ممغنط في متناول يده، وينقر بأصابعه لوحة أمامه، ثم يلقى نظرة على شاشة الكمبيوتر التي تذكرني بالشاشة المعدنية في رواية أورويل، وهذه تستخرج له بعض معلومات وزارة «الحب».
 يركز الرجل فيما يطالعه ثم يطوى جواز السفر ويطلب منى الانتظار جانبا. وفى الوقت ذاته يشير بيده إلى أحد رجال «شرطة الأفكار» ويعطيه الجواز في صمت. جندي الأفكار مدرب ويعرف إلى أين يذهب.
يستدير وينطلق بخطى سريعة إلى أن يختفي عن الأنظار، ثم يعود ليجلس صامتا في إحدى زوايا المكان.
لا أحد يتكلم أو يفسر. فالشرطي ينفذ التعليمات والضابط الجالس وراء اللوح الزجاجي يواصل عمله حيث ينصرف إلى ختم جوازات بقية الواقفين في الطابور. ولا يكون أمامي سوى الاستنتاج. فالضابط قرأ على شاشة الكمبيوتر معلومات لم تطمئنه وتوجيهات اقتضت الرجوع إلى «الباشا» مسئول شرطة الأفكار في المطار. وهذا الأخير هو الذي يصدر القرار النهائي في ضوء المعلومات أو التوجيهات التي لديه. وهى عادة تتراوح بين التحفظ أو المنع أو استدعاء صاحب جواز السفر لسؤاله عن وجهته وأسباب سفره، أو يكتفي الباشا المسئول بالإطلاع على جواز السفر وتقليب صفحاته للتعرف على التأشيرات المسجلة فيه. ثم يأذن بإعادته إلى صاحبه لمواصلة السفر.
تسلمت الجواز بسرعة في رحلة الذهاب إلى عمان في الأسبوع الماضي، غير أن الأمر اختلف في العودة. ذلك أن ضابط الجوازات ألقى نظرة على شاشة الكمبيوتر ويبدو أنه لأول وهلة لم يجد فيما ظهر أمامه ما يستحق مراجعة ضابط الأفكار فختم الجواز وعبرت الحاجز متجها إلى مكان استلام الحقائب، إلا أنني وجدت شابا يهرول مرددا اسمى وفى يده بطاقة الدخول التي ملأتها. سألته من يكون وماذا يريد، فقال لي إنه أمين شرطة، ويريد منى أن أعيد له جواز السفر وأن أصحبه لأنتظر وراء الحاجز الذى عبرته للتو. فهمت الرسالة فامتثلت وعدت لكى انتظر إلى جوار الحاجز رافضا الاصطفاف وراءه، وهو ما أقلقه فجاء إلى أحد الضباط الذي أفهمني أن وقوفي في مكاني سوف يعرضه للمساءلة. استغربت ما قاله، وكبَرت دماغي وقلت إننى لا أريد أن أسبب له أذى. فعبرت الحاجز وانتحيت جانبا. جاء وقوفي مقابل طابور الخارجين. وهو ما أثار دهشة وتساؤل من عرفني وفضول من لم يعرفني. ظللت معروضا أمام الجميع لبعض الوقت، ومشيعا بنظرات العابرين إلى أن عاد جواز السفر من مكتب «الباشا» وسلمه إلى الضابط الذى جنَبته المساءلة وهو يتمتم قائلا: حمدالله على السلامة. لم أتلق تفسيرا أو ايضاحا، ولا توقعت اعتذارا. لكنى لم أفهم لماذا الاحتجاز ولا لماذا الإطلاق. وإنما ترك لي أن استنتج الرسالة، التي لم أجدها بعيدة عن ممارسات وزارة الحب وأساليب شرطة الأفكار. أدرى أن أبرياء آخرين لقوا مصيرا أسوأ من الإيقاف. وأفهم أن آخرين من النشطاء يتعرضون في المطار لمثل ما تعرضت له ومنهم من منع من السفر لأسباب مجهولة بناء على تعليمات جهات غامضة لكن ذلك لا يبرر ما جرى. لأن وقوعه والسكوت عليه يضم مصر بالتدريج إلى بلاد الخوف والترويع التي يبدو عالم أورويل النافر من النازية نموذجا لها. ناهيك عن أنه يعد تكذيبا عمليا لما أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي في نيويورك أخيرا من أن في مصر «حريات غير مسبوقة» علما بأننا ما عدنا نطمح إلى ذلك، وإنما صرنا قانعين بالقدر المتواضع من الحريات العادية التي كنا نمارسها في «العهد البائد»!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق