ليس غريبا على القوات الروسية أن تتدخل بهذه السرعة، فالإدارة الروسية يملكها شخص واحد يوجهها حيث يشاء دون الرجوع إلى جهة تشريعية أو تنفيذية، ولذلك يكون البحث في الخطط والأهداف الروسية نوعا من العبث وتضييع الوقت، وقد عودنا الروس على مثل هذه القرارات المفاجئة والتقلبات الحادة والعلاقات المضطربة، وكل هذا إنما يعود إلى مزاجية القيصر الذي يملك (مقاطعة الكرملين) سواء كان شيوعيا أو إصلاحيا أو أرثوذكسيا.
السؤال الأجدى والأجدر بالبحث إنما هو الموقف الغربي والأميركي بالذات من هذا التدخل.
إن الحدث الأخير لا يمكن فصله عن مسلسل الأحداث الجارية منذ اندلاع الثورة السورية وإلى اليوم، وبهذا الصدد يمكن أن نذكّر بالحقائق الآتية:
أولا: أن التدخل الأجنبي المساند لبشار ليس جديدا، فالإيرانيون متواجدون بقوة سياسيا وعسكريا ومعهم جحافل من الميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية والباكستانية والأفغانية، وفي كل يوم يعلن الإيرانيون عن مقتل عدد من جنودهم وضباطهم، ومواكب تشييع الجنائز تجري بشكل رسمي ومعلن في العراق ولبنان، وقد وصل الأمر إلى حد أن الإيرانيين باتوا يتولون بأنفسهم التفاوض المباشر مع الثوار السوريين! كل هذا والغرب ملتزم جانب الصمت، وكان بإمكانه على الأقل الضغط على حكومة المالكي ثم العبادي لإيقاف تدفق الميليشيات، أو الضغط على الحكومة اللبنانية لقفل الحدود أمام ميليشيات حزب الله، أما التدخل الروسي فقد كان مبكرا أيضا من خلال مد النظام بما يحتاجه من سلاح وعتاد على الأرض وبما يحتاجه من (فيتو) في مجلس الأمن.
ثانيا: في مقابل هذا التدخل كانت هناك رغبة معاكسة تقودها تركيا لصالح الثورة السورية، لكنها كانت تصطدم بحائط التسويف واللامبالاة من الطرف الغربي، مع أن تركيا معنية بالشأن السوري بحكم الجوار الطويل على الأقل، وتركيا هي جزء من منظومة حلف الناتو، بمعنى أن تدخلها سيكون لصالح الناتو وبالتنسيق معه، وهي أيضا الطرف الوحيد القادر على تحقيق التوازن مع التدخل الإيراني، فبأي المقاييس يتم تقييد اليد التركية وإطلاق اليد الإيرانية؟
ثالثا: الغرب الذي شكل تحالفا كبيرا لإسقاط صدام حسين دون غطاء دولي ولا موافقة مجلس الأمن بدا في الملف السوري ملتزما بالشرعية الدولية إلى حد الورع ومحترما جدا للفيتو الروسي-الصيني، بينما انعكست الآية تماما، فالروس الذين كانوا يستخدمون مجلس الأمن كورقة لإيقاف الرغبة الغربية المزعومة في التدخل ها هم اليوم ينتهكون هذه الورقة ويدوسونها بأقدامهم، ولا ندري متى سيتحرك المجتمع الدولي لإدانتهم.
رابعا: هناك معلومات شبه مؤكدة أن غرفة التنسيق للعمليات المشتركة الروسية-الإيرانية موجودة في بغداد على بعد بضعة أميال من السفارة الأميركية، وليس من المعقول أبدا أن يكون هذا التنسيق بغفلة عنهم، أو أن العبادي يمتلك الشجاعة التي تؤهله لاستضافة هذه الغرفة دون علمهم، فضلا عن مطالبته المعلنة لبوتن بتوسيع دائرة عملياته العسكرية لتشمل العراق مع سوريا!
خامسا: المعلومات التي تحدثت أيضا عن تنسيق إسرائيلي-روسي وزيارة نتنياهو الأخيرة لموسكو تؤكد أيضا أن الأميركان ليسوا بعيدين أبدا عما يحدث، وفي ذات السياق تأتي تصريحات السيسي من مصر المؤيدة للروس ولبشار.
سادسا: من الناحية الفنية البحتة كيف يمكن لسماء سوريا أن تحتضن كل هذه الطائرات المتعددة الجنسيات أميركية وأوروبية وروسية وتركية وسورية، وكلها تطلق الصواريخ والقذائف المتعاكسة دون أن يحدث تصادم أو إشكال؟ السؤال موجه لخبراء القوة الجوية، ومهما يكن الجواب فإن حصول أي خطأ -مع افتراض اختلاف النوايا والغايات- فإنه منذر باندلاع حرب كونية لا تبقي ولا تذر.
إن التفكير بأن الأميركان قد تخلوا عن الشرق الأوسط وأن الروس قد استغلوا هذا الفراغ لا يبدو مقنعا، فالأميركيون موجودون بقوة، وقد تمكن طيرانهم في بضع ساعات فقط أن يؤمن سد الموصل الاستراتيجي وأن يزيح (داعش) عن حدود كردستان، ثم راح بالمقابل يقيد حدود البيشمركة حينما حاولت التجاوز على خط الإمداد الرئيسي لداعش بين الرقة والموصل بحسب التقرير المصور الذي عرضته قناة الجزيرة مؤخرا.
إن المعطيات السابقة كلها تؤكد أن الأميركان على علم تام بكل الذي يجري، هذا الذي ينبغي أن لا نتناقش فيه، لكن ما الذي جعلهم هذه المرة يفضلون البقاء في الظل؟ ولماذا يسمحون للآخرين باللعب في ساحتهم بهذا الشكل الذي يوحي بضعفهم أو بغفلتهم؟
لقد استفاد الأميركيون من تجربتهم في (المستنقع العراقي) حيث قدموا نزيفا حادا من هيبتهم العسكرية وسمعتهم الأخلاقية ومواردهم الاقتصادية، ثم جربوا طريقة تقيهم هذا النزيف وتحقق لهم ما يريدون على الأرض، فكانت الميليشيات الطائفية التي عملت أكثر مما عمله الأميركيون لتحقيق (الفوضى الخلاقة) وإيصال العراق إلى حافة الهاوية، والانتقام في الوقت ذاته من الحاضنة الشعبية التي كانت تساند المقاومة.
فإذا كان مقصد الأميركان في سوريا مماثلا لمقصدهم في العراق -وهذا هو المرجح من خلال سياق الأحداث كله- فإن توظيف (جنون العظمة) لبوتن و(العقد النفسية والتاريخية) للولي الفقيه يبدو هو الأقرب للسياسة الأميركية الحالية التي تسعى لتحقيق الأهداف بأقل تكلفة، بل وربما تساعد هذه السياسة على تجميل الصورة التي تلطخت بفضائحهم في (بوكا) و(أبي غريب) مما يهيئهم من جديد للعب دور (الحكيم) و(حلال المشاكل).
إن هذا لا يعني أن واشنطن راضية تماما عن (آيات قم) و(آيات الكرملين)، فسياسة التوظيف لا تعني ذلك، ولا شك أن لواشنطن أهدافا أبعد بكثير من سوريا والعراق، فالمسألة لا تعني أكثر من (زواج مؤقت) ثم لكل حادث حديث.
• drmaiash@facebook.com
@maiash10
السؤال الأجدى والأجدر بالبحث إنما هو الموقف الغربي والأميركي بالذات من هذا التدخل.
إن الحدث الأخير لا يمكن فصله عن مسلسل الأحداث الجارية منذ اندلاع الثورة السورية وإلى اليوم، وبهذا الصدد يمكن أن نذكّر بالحقائق الآتية:
أولا: أن التدخل الأجنبي المساند لبشار ليس جديدا، فالإيرانيون متواجدون بقوة سياسيا وعسكريا ومعهم جحافل من الميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية والباكستانية والأفغانية، وفي كل يوم يعلن الإيرانيون عن مقتل عدد من جنودهم وضباطهم، ومواكب تشييع الجنائز تجري بشكل رسمي ومعلن في العراق ولبنان، وقد وصل الأمر إلى حد أن الإيرانيين باتوا يتولون بأنفسهم التفاوض المباشر مع الثوار السوريين! كل هذا والغرب ملتزم جانب الصمت، وكان بإمكانه على الأقل الضغط على حكومة المالكي ثم العبادي لإيقاف تدفق الميليشيات، أو الضغط على الحكومة اللبنانية لقفل الحدود أمام ميليشيات حزب الله، أما التدخل الروسي فقد كان مبكرا أيضا من خلال مد النظام بما يحتاجه من سلاح وعتاد على الأرض وبما يحتاجه من (فيتو) في مجلس الأمن.
ثانيا: في مقابل هذا التدخل كانت هناك رغبة معاكسة تقودها تركيا لصالح الثورة السورية، لكنها كانت تصطدم بحائط التسويف واللامبالاة من الطرف الغربي، مع أن تركيا معنية بالشأن السوري بحكم الجوار الطويل على الأقل، وتركيا هي جزء من منظومة حلف الناتو، بمعنى أن تدخلها سيكون لصالح الناتو وبالتنسيق معه، وهي أيضا الطرف الوحيد القادر على تحقيق التوازن مع التدخل الإيراني، فبأي المقاييس يتم تقييد اليد التركية وإطلاق اليد الإيرانية؟
ثالثا: الغرب الذي شكل تحالفا كبيرا لإسقاط صدام حسين دون غطاء دولي ولا موافقة مجلس الأمن بدا في الملف السوري ملتزما بالشرعية الدولية إلى حد الورع ومحترما جدا للفيتو الروسي-الصيني، بينما انعكست الآية تماما، فالروس الذين كانوا يستخدمون مجلس الأمن كورقة لإيقاف الرغبة الغربية المزعومة في التدخل ها هم اليوم ينتهكون هذه الورقة ويدوسونها بأقدامهم، ولا ندري متى سيتحرك المجتمع الدولي لإدانتهم.
رابعا: هناك معلومات شبه مؤكدة أن غرفة التنسيق للعمليات المشتركة الروسية-الإيرانية موجودة في بغداد على بعد بضعة أميال من السفارة الأميركية، وليس من المعقول أبدا أن يكون هذا التنسيق بغفلة عنهم، أو أن العبادي يمتلك الشجاعة التي تؤهله لاستضافة هذه الغرفة دون علمهم، فضلا عن مطالبته المعلنة لبوتن بتوسيع دائرة عملياته العسكرية لتشمل العراق مع سوريا!
خامسا: المعلومات التي تحدثت أيضا عن تنسيق إسرائيلي-روسي وزيارة نتنياهو الأخيرة لموسكو تؤكد أيضا أن الأميركان ليسوا بعيدين أبدا عما يحدث، وفي ذات السياق تأتي تصريحات السيسي من مصر المؤيدة للروس ولبشار.
سادسا: من الناحية الفنية البحتة كيف يمكن لسماء سوريا أن تحتضن كل هذه الطائرات المتعددة الجنسيات أميركية وأوروبية وروسية وتركية وسورية، وكلها تطلق الصواريخ والقذائف المتعاكسة دون أن يحدث تصادم أو إشكال؟ السؤال موجه لخبراء القوة الجوية، ومهما يكن الجواب فإن حصول أي خطأ -مع افتراض اختلاف النوايا والغايات- فإنه منذر باندلاع حرب كونية لا تبقي ولا تذر.
إن التفكير بأن الأميركان قد تخلوا عن الشرق الأوسط وأن الروس قد استغلوا هذا الفراغ لا يبدو مقنعا، فالأميركيون موجودون بقوة، وقد تمكن طيرانهم في بضع ساعات فقط أن يؤمن سد الموصل الاستراتيجي وأن يزيح (داعش) عن حدود كردستان، ثم راح بالمقابل يقيد حدود البيشمركة حينما حاولت التجاوز على خط الإمداد الرئيسي لداعش بين الرقة والموصل بحسب التقرير المصور الذي عرضته قناة الجزيرة مؤخرا.
إن المعطيات السابقة كلها تؤكد أن الأميركان على علم تام بكل الذي يجري، هذا الذي ينبغي أن لا نتناقش فيه، لكن ما الذي جعلهم هذه المرة يفضلون البقاء في الظل؟ ولماذا يسمحون للآخرين باللعب في ساحتهم بهذا الشكل الذي يوحي بضعفهم أو بغفلتهم؟
لقد استفاد الأميركيون من تجربتهم في (المستنقع العراقي) حيث قدموا نزيفا حادا من هيبتهم العسكرية وسمعتهم الأخلاقية ومواردهم الاقتصادية، ثم جربوا طريقة تقيهم هذا النزيف وتحقق لهم ما يريدون على الأرض، فكانت الميليشيات الطائفية التي عملت أكثر مما عمله الأميركيون لتحقيق (الفوضى الخلاقة) وإيصال العراق إلى حافة الهاوية، والانتقام في الوقت ذاته من الحاضنة الشعبية التي كانت تساند المقاومة.
فإذا كان مقصد الأميركان في سوريا مماثلا لمقصدهم في العراق -وهذا هو المرجح من خلال سياق الأحداث كله- فإن توظيف (جنون العظمة) لبوتن و(العقد النفسية والتاريخية) للولي الفقيه يبدو هو الأقرب للسياسة الأميركية الحالية التي تسعى لتحقيق الأهداف بأقل تكلفة، بل وربما تساعد هذه السياسة على تجميل الصورة التي تلطخت بفضائحهم في (بوكا) و(أبي غريب) مما يهيئهم من جديد للعب دور (الحكيم) و(حلال المشاكل).
إن هذا لا يعني أن واشنطن راضية تماما عن (آيات قم) و(آيات الكرملين)، فسياسة التوظيف لا تعني ذلك، ولا شك أن لواشنطن أهدافا أبعد بكثير من سوريا والعراق، فالمسألة لا تعني أكثر من (زواج مؤقت) ثم لكل حادث حديث.
• drmaiash@facebook.com
@maiash10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق