الأحد، 4 أكتوبر 2015

قفا.. نبكِ

قفا.. نبكِ

وائل قنديل

قال المذيع، منتشياً، إنه كان بالإمكان توجيه رد مصري مزلزل على واقعة الاعتداء على قفاه في نيويورك، لولا أن رئيسه، الشهير بالقدرة على أسر قائد الأسطول السادس الأميركي، وإصابة واشنطن بالذعر، إلى درجة التقاط الرادارات في شرق اليابسة لصوت اصطكاك ركبتي أوباما، كلما سعلت مصر، قال له: سنأخذ حقنا سلمياً. 
مبدئياً، وبشكل قاطع، لست مع الحوار مع فيالق إعلام قائد الانقلاب بالأيدي والأقدام، ولست سعيداً بأخبار التوغل في "عقر قفا" هذا الإعلامي البذيء أو ذاك، فهذا، من ناحية، يظهر هؤلاء في صورة الحملان الوديعة، ويمنحهم فرصة أداء دور الضحية، المعتدى عليها.
ومن ناحية أخرى، يقدم وجهاً غير حضاري لنمط معارضة فظاعات الانقلاب وبشاعاته.
يستوقفني في المسألة، وبشكل أساس، هذا التصاغر والتضاؤل في قضايا الدولة المصرية ومعاركها، من جهة، وذلك التماهي التام بين السلطة والإعلام، من الجهة الثانية، بحيث يصير قفا الإعلامي هو قفا النظام، في اللحظة نفسها، وهو مبدأ لو طبقناه بإطلاق، سيكون من حق أي أحد أن يعتبر تورط إعلامي في قضية فساد أراض، أو استيلاء على المال العام، هو تورط للنظام نفسه.
 أيضاً، يلفت النظر، هنا، أن الجنون بلغ بأبواق الإعلام السيسي أنهم أعلنوا، بوضوح، أن أي صحافي أو إعلامي أميركي يزور القاهرة سيكون هدفاً للصفع على القفا، بأيدي عساكر الإعلام، على الرغم من أن المعتدي في نيويورك لم يكن إعلامياً أو صحافياً أو دبلوماسياً أميركياً. ويستبد بهم العبط أكثر، ليعترفوا بأنهم جمعوا معلومات عن أماكن إقامة ضاربيهم، وعناوين مدارس أبنائهم وتحركات عائلاتهم. وكان بمقدورهم رد الضربات، على نحو أقسى، من دون أن يدرك أحدهم أنهم بذلك يقرّون بشرعية ضرب الأقفية، بل ويعترفون بالتفكير في ممارسة البلطجة في عقر دار أميركا.
ويبدو أن كل هذا التضخيم في "حرب القفا" يستهدف خطف الجماهير بعيداً عن متابعة حالة الانهيار الكامل في المواقف الرسمية المصرية مما يجري، داخلياً وخارجياً، من خلال إشعال حرائق، تنبعث منها أدخنة تكفي لتعمية الأبصار وحجبها عن كوارث جديدة، تساق إليها البلاد.
تموج المنطقة كلها بأحداث مرعبة، قد تتطور إلى زلازل وبراكين مدمرة للخرائط والتواريخ، فتبحث عن حضور للقاهرة التي هي قلب الأمة النابض، ورمانة ميزانها، والشقيقة الكبرى، إلى آخر هذه المعلبات المحفوظة، في أجواء تساعد على إتلافها وإفسادها، فلا تجد إلا انشغالاً، من القمة إلى القاع، بقضية اعتداء مصريين أميركيين، بالصفع على القفا والركل بالأقدام، على مصريين سيسيين في قلب نيويورك، أو تجد وزير خارجية مصر، وقد تحول إلى قطعة صغيرة في ماكينة البروباغندا الروسية التي تدافع باستبسال عن العدوان الروسي، الإيراني، المدعوم صينياً وإسرائيلياً، والمؤيد من الإمارات وحزب الله والحكومة العراقية، على الشعب السوري، إنقاذاً لسفاح الطائفة، الذي لا يمانع في أن يتحوّل إلى عالة على الاستبداد الدولي، ويصير طفلاً يلهو في حدائق الطامعين بالمنطقة، والكارهين فكرة تحرّرها من أنظمةٍ، صنعوها. يحترق الأقصى، وتتحرك آلة الإجرام الصهيوني ضد الفلسطينيين في الضفة والقدس، فلا تسمع من الدبلوماسية المصرية إلا صيحات احتجاج على ضرب مذيعيها على الأقفية، ويعلن العالم كله أن الضربات الروسية الإيرانية موجهة، بالأساس، إلى الشعب السوري وقوى المعارضة المعتدلة فيه، فيخرج وزير خارجية عبد الفتاح السيسي، ليدافع عن الهجوم الروسي على سورية، ويراه عملاً محموداً ومطلوباً، ويستحق الإشادة والتأييد. 
السؤال هنا لتنظيم عبد الفتاح السيسي الحاكم في مصر، وللحكومة السعودية في الوقت نفسه:
إذا كان السيسي قد حصل على كل هذه المليارات، خفية وفي العلن، ثم ظهر معانقاً ولي ولي العهد السعودي، في عرض عسكري في القاهرة، معلناً وحدة المصير والهدف، قائلاً "لن ترونا إلا معاً".. إذا كان الرجل يعلن، بكل هذه البجاحة، أنه مع روسيا وبشار الأسد، وهو ما يعني، بالضرورة، أنه ضد السعودية التي تقف في المعسكر الآخر، فلماذا لا يرد السيسي للسعودية منحها ومساعداتها، ويكون متسقاً مع قناعاته واختياراته؟ إذا كان الرجل يفخر بفلاديمير بوتين، مثلاً أعلى، ويردد إعلامه أنه يحارب الإرهاب في سيناء، كما حاربه بوتين في الشيشان وأفغانستان، فلماذا كل هذا التوسل والتسول إلى واشنطن ومنها؟
تلك هي مصر، وهذه هي حدود دورها في زمن الملهاة، فقفا نبكِ على وطنٍ كبير بات لا يُرى بالعين المجردة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق