شريف عبدالعزيز
"البرافدا" هي صحيفة روسية كانت من أكبر صحف العالم توزيعاً .
تأسست عام 1912 في سانت بطرسبرج, وكان لينين أحد المساهمين المؤسسين لها.
أصبحت البرافدا ( ومعناها الحقيقة باللغة الروسية ) من أهم المصادر للتصريحات الرسمية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سابقاً,
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 صدر مرسوم رئاسي من الرئيس بوريس يلتسن آنذاك يقضي بإيقاف صدور البرافدا كصحيفة شيوعية من الحقبة السوفيتية الماضية, غير أن بعض العاملين القدماء فيها أعادوا أصدارها بنفس الاسم ولكن بصيغة مختلفة عما كانت عليه تعتبر البرافدا اليوم صحيفة روسية شعبية الطراز والاهتمام .
البرافدا ظلت لقرابة الثمانين سنة صاحبة منهج متميز في عالم الصحافة والإعلام ، حيث اعتبرها الكثيرون مدرسة متفردة في فن قيادة الشعوب ، والسيطرة على الأفكار ، وصناعة الوعي الجمعي، والتحكم في الرأي العام، وأحد أهم أدوات النظم الشمولية والسلطات الديكتاتورية في الهيمنة والسيطرة .وقد اعتمدت مدرسة البرافدا في أسلوب عملها على ثلاث نقاط رئيسية:
الأولى: السيطرة على الرأي العام الظاهر والكامن في المجتمع ، على أساس أن عملية تكوين الرأي العام عملية دينامية، تتدخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية، ودور وسائل الإعلام دورا محوريا في تكوين الاتجاه السائد حول القضايا المثارة في المجتمع ،والمواطن يعيش في مجتمع ويتفاعل مع بيئة الرأي العام بمقوماته وعوامل تشكيله،لذلك فهو يميل إلى تشكيل رأيه طبقـًا للرأي العام السائد في المجتمع الذي يعيش فيه ،وبالتالي فإن وسائل الإعلام حين تتبنى آراء أو اتجاهات معينة خلال فترة من الزمن، فإن معظم الأفراد سوف يتحركون في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام ،وبالتالي يتكون الرأي العام بما يتسق مع الأفكار التي تدعمها وسائل الإعلام الخاضعة لتوجيه النظم الديكتاتورية .
الثانية : الانفراد بمصدر المعلومة ،وذلك عبر تثبيت فكرة كونها اللسان الوحيد المتحدث باسم الشيوعية أو النظام ،والمعبر عن أفكارها وتوجهاتها وآرائها في شتى القضايا المحلية والعالمية.
والثالثة : عدم السماح بالتشكيك في كل ما يصدر عنها من معلومات وبيانات وتوجيهات وأفكار وآراء ، فكل ما يصدر منها لا يجوز انتقاده،ويحرم التشكيك فيه أو مراجعته،لأنها بمنتهى البساطة هو لسان الشيوعية الحقة ،وفكر السلطة القائمة المنبثقة من اتحاد قوى الشعب مع الطبقة العاملة ،والمتصدية للفكر الامبريالي الاستعماري الانتهازي ،وبالتالي فإن كل من يشكك في إعلام البرافدا فهو خائن للوطن وللمنهج الشيوعي،وعميل للبراجوازية ،وطابور خامس للإمبرالية العالمية .
وهذه القدسية المزعومة للبرافدا جعلتها تتمادي في الكذب والتضليل وطمس الحقائق وتشويه الخصوم والمبالغة في كيل المديح ،حتى صارت البرافدا في أواخر أيامها صحيفة هزلية كوميدية يسخر منها الجميع حتى الروس أنفسهم ، من كثرة ما تورده من أكاذيب وترهات.وباستخدام تلك المنهجية الإعلامية وعبر صحيفة البرافدا استطاع النظام الشيوعي السيطرة ليست فقط على الاتحاد السوفيتي ،ولكن على أقاليم الشيوعية في العالم بأسره ،فقد كانت تلك الصحيفة هي الأكبر والأكثر توزيعا وانتشارا في العالم كله ، وكانت توزع خارجيا وتصّدر لأكثر من ثلاثين دولة في أوروبا وأسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا ممن يدينون بالولاء الفكري والسياسي للأيديولوجية الشيوعية ،وظلت البرافدا مثالا ونموذجا تحتذي به الأنظمة الشمولية والديكتاتورية في كيفية الهيمنة والسيطرة على الشعوب وخاصة الأصوات المعارضة فيها ،حيث كان الصمت هو سيد الموقف لدى المواطن السوفيتي ،فلا أحد يجرؤ على المساس بتابوه البرافدا وإلا كان عرضة للانتقام الأمني والاغتيال المعنوي .
الأنظمة الشمولية والديكتاتورية في محيطنا العربي ، كانت من أكثر الأنظمة استفادة من أسلوب البرافدا الإعلامي ،فمنطقة الشرق الأوسط كانت ومازالت تعج بالأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية التي يعتبر هاجس السيطرة على الشعوب وضبط الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي لها من أهم أولوياتها.
وقد استفادت البرافدا العربية من التطور الاكاديمي الكبير الذي حدث في مجال الاعلام ، وتم مزج أساليب البرافدا الروسية بأساليب جوبلز الألمانية ــ جوبلز وزير الاعلام في عهد هتلر ــ واتبع إعلام الديكتاتور ثلاث آليات للسيطرة والهيمنة على الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي :
الأولى : التراكمية :وتتمثل في التأثير التراكمي من خلال التكرار، من باب " ما تكرر تقرر " حيث تميل وسائل الإعلام إلى تقديم رسائل متشابهة ومتكررة حول موضوعات أو شخصيات أو قضايا، ويؤدي هذا العرض التراكمي إلى تأثيرات على المتلقين على المدى البعيد .
الثانية : الشمولية:حيث تسيطر وسائل الإعلام على الإنسان وتحاصره في كل مكان، وتهيمن على بيئة المعلومات المتاحة، مما ينتج عنه تأثيرات شاملة على الفرد يصعب الهروب من رسائلها المسموعة والمرئية والمقرؤة .
الثالثة : التجانس: ويعني توافق الأفكار التي تقوم وسائل الإعلام ببثها وعرضها على جمهور المتلقين، كما يعني وجود اتفاق وانسجام بين القائمين بالاتصال مع المؤسسات التى ينتمون إليها مما يؤدي إلى تشابه توجهاتهم والقيم الإعلامية التى تحكمهم، وعليه تكون الرسائل التي تعمل وسائل الإعلام المختلفة على بثها تبدو متشابهة ومتسقة مع بعضها بعضًا مما يزيد من قوة تأثيرها على جمهور المتلقين.
وتؤدي هذه العوامل السابقة مجتمعة إلى تقليل فرصة الفرد المتلقي في أن يكون له رأي مستقل حول القضايا المثارة، وبالتالي تزداد فرصة وسائل الإعلام في تكوين الأفكار والاتجاهات المؤثرة في الرأي العام
ولقد مرت على كثير من الشعوب العربية عدة عقود من الزمان وهي صامتة مثل صمت جمهور البرافدا السوفيتية ، تتلقى بصبر طويل وثقيل ما تهدر به وسائل الدعاية الرسمية المسماة ظلماً "وسائل إعلام"، وظل ذلك "الإعلام" ينشر ويبث رسائله الدعائية الأحادية الاتجاه مفترضاً أن كل الناس يصدقونه في كل ما يقول ، وأن هؤلاء الناس الذين لم يكن لهم خيارات غيره ، وأنهم ما هم إلا مجاميع وحشود بشرية تسيطر على تصرفاتها روح القطيع .
ووفقاً لهذه النظرة القديمة القاصرة، كان يفترض أن تظل تلك المجتمعات محبوسة في حظائر الأنظمة الثورية، التقدمية، الاشتراكية، الجماهيرية إلخ من الشعارات ذات البريق الذي يأخذ بألباب المتطلعين لها،ولكنها في الحقيقة ما هي إلا أقنعة مختلفة لمسمى واحد هو الديكتاتورية ، ظلت المجتمعات هكذا ، أجيالهم تتعاقب، دون أن ينالوا من وهم السراب قطرة واحدة تروي مرارة عطشهم، وحين ينتبهون يجدون قطار المدنية والحضارة والتقدم قد مضى بعيداً عنهم .
حتى جاءت لحظة الحسم بعد أن فاض الكيل ، وضاق الذرع ، وبلغ السيل الربى ،فانطلقت شرارة الثورات العربية من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا في أسابيع عديدة ، وعروش الطغيان تتهاوي الواحد تلو الآخر،وفي نفس الوقت تتهاوى معها أدوات الهيمنة والسيطرة وفي مقدمتها ؛ وسائل الإعلام .
فقد كان لوسائل الاعلام النصيب الأكبر من الهجوم والانتقاد من الثوار بعد أن كُسر حاجز الخوف الذي كان يمنع من إبداء الرأي بحرية ،وكان لإعلامي مبارك وزين العابدين والقذافي النصيب الأوفر في الهجوم مما دفع الكثيرين منهم للفرار أو الاعتزال أو مهادنة الثورة وتملق الثوار بالثناء عليهم وعلى ثورتهم .
كما قامت الثورات العربية سريعا ، انهارت سريعا ، بعد سلسلة من الهجمات المضادة من فلول الأنظمة البائدة والتي اتضح أنها لم تبد أو تسقط ، ولكنها فقط ترنحت.وكان الاعلام نفسه هو أول من ساهم في سقوط الثورات العربية.
عادت البرافدا العربية لتمارس نفس الدور السابق ولكن بضراوة أشد وإصرار أكبر ومكر أخطر ، فهي قد وعت درس الثورة جيدا،لذلك فهي تجتهد في تجفيف منابع الثورة ،والتحكم في الرأي العام ،من خلال التشارك مع القبضة الأمنية القمعية في إدخال الشعوب مرة أخرى إلى دوائر الصمت وإيثار السلامة ، والسير في الركب والتصرف بروح القطيع الذي يقوده القائد الملهم المنقذ الذي أنقذ البلاد من مصير مروع ، واللعب على أوتار الخوف ، والمفاضلة بين الأمن والحرية ، واقران الدولة بالنظام ، وأن المناداة بسقوط النظام يعني سقوط الدولة ،وأن الرواية الرسمية أو بيانات البرافدا العربية هي الصواب والحق الذي لا يمكن تكذيبه أبدا ، وحين يقتل الفرد فإن ذلك يعد جريمة تستوجب المحاكمة، وحين تقتل الدولة فإنها – فقط- تؤدي واجبها ، وأن رجال الدولة في مرتبة أعلى من سائر المواطنين ، وشيطنة الثورة والثوار ،إلى آخر أساليب البرافدا العربية التي نرى تجلياتها وتداعياتها ماثلة بكل قوة في محيطنا العربي ، كأن ثورة لم تقم ، ونظام لم يسقط .
"البرافدا" هي صحيفة روسية كانت من أكبر صحف العالم توزيعاً .
تأسست عام 1912 في سانت بطرسبرج, وكان لينين أحد المساهمين المؤسسين لها.
أصبحت البرافدا ( ومعناها الحقيقة باللغة الروسية ) من أهم المصادر للتصريحات الرسمية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سابقاً,
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 صدر مرسوم رئاسي من الرئيس بوريس يلتسن آنذاك يقضي بإيقاف صدور البرافدا كصحيفة شيوعية من الحقبة السوفيتية الماضية, غير أن بعض العاملين القدماء فيها أعادوا أصدارها بنفس الاسم ولكن بصيغة مختلفة عما كانت عليه تعتبر البرافدا اليوم صحيفة روسية شعبية الطراز والاهتمام .
البرافدا ظلت لقرابة الثمانين سنة صاحبة منهج متميز في عالم الصحافة والإعلام ، حيث اعتبرها الكثيرون مدرسة متفردة في فن قيادة الشعوب ، والسيطرة على الأفكار ، وصناعة الوعي الجمعي، والتحكم في الرأي العام، وأحد أهم أدوات النظم الشمولية والسلطات الديكتاتورية في الهيمنة والسيطرة .وقد اعتمدت مدرسة البرافدا في أسلوب عملها على ثلاث نقاط رئيسية:
الأولى: السيطرة على الرأي العام الظاهر والكامن في المجتمع ، على أساس أن عملية تكوين الرأي العام عملية دينامية، تتدخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية، ودور وسائل الإعلام دورا محوريا في تكوين الاتجاه السائد حول القضايا المثارة في المجتمع ،والمواطن يعيش في مجتمع ويتفاعل مع بيئة الرأي العام بمقوماته وعوامل تشكيله،لذلك فهو يميل إلى تشكيل رأيه طبقـًا للرأي العام السائد في المجتمع الذي يعيش فيه ،وبالتالي فإن وسائل الإعلام حين تتبنى آراء أو اتجاهات معينة خلال فترة من الزمن، فإن معظم الأفراد سوف يتحركون في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الإعلام ،وبالتالي يتكون الرأي العام بما يتسق مع الأفكار التي تدعمها وسائل الإعلام الخاضعة لتوجيه النظم الديكتاتورية .
الثانية : الانفراد بمصدر المعلومة ،وذلك عبر تثبيت فكرة كونها اللسان الوحيد المتحدث باسم الشيوعية أو النظام ،والمعبر عن أفكارها وتوجهاتها وآرائها في شتى القضايا المحلية والعالمية.
والثالثة : عدم السماح بالتشكيك في كل ما يصدر عنها من معلومات وبيانات وتوجيهات وأفكار وآراء ، فكل ما يصدر منها لا يجوز انتقاده،ويحرم التشكيك فيه أو مراجعته،لأنها بمنتهى البساطة هو لسان الشيوعية الحقة ،وفكر السلطة القائمة المنبثقة من اتحاد قوى الشعب مع الطبقة العاملة ،والمتصدية للفكر الامبريالي الاستعماري الانتهازي ،وبالتالي فإن كل من يشكك في إعلام البرافدا فهو خائن للوطن وللمنهج الشيوعي،وعميل للبراجوازية ،وطابور خامس للإمبرالية العالمية .
وهذه القدسية المزعومة للبرافدا جعلتها تتمادي في الكذب والتضليل وطمس الحقائق وتشويه الخصوم والمبالغة في كيل المديح ،حتى صارت البرافدا في أواخر أيامها صحيفة هزلية كوميدية يسخر منها الجميع حتى الروس أنفسهم ، من كثرة ما تورده من أكاذيب وترهات.وباستخدام تلك المنهجية الإعلامية وعبر صحيفة البرافدا استطاع النظام الشيوعي السيطرة ليست فقط على الاتحاد السوفيتي ،ولكن على أقاليم الشيوعية في العالم بأسره ،فقد كانت تلك الصحيفة هي الأكبر والأكثر توزيعا وانتشارا في العالم كله ، وكانت توزع خارجيا وتصّدر لأكثر من ثلاثين دولة في أوروبا وأسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا ممن يدينون بالولاء الفكري والسياسي للأيديولوجية الشيوعية ،وظلت البرافدا مثالا ونموذجا تحتذي به الأنظمة الشمولية والديكتاتورية في كيفية الهيمنة والسيطرة على الشعوب وخاصة الأصوات المعارضة فيها ،حيث كان الصمت هو سيد الموقف لدى المواطن السوفيتي ،فلا أحد يجرؤ على المساس بتابوه البرافدا وإلا كان عرضة للانتقام الأمني والاغتيال المعنوي .
الأنظمة الشمولية والديكتاتورية في محيطنا العربي ، كانت من أكثر الأنظمة استفادة من أسلوب البرافدا الإعلامي ،فمنطقة الشرق الأوسط كانت ومازالت تعج بالأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية التي يعتبر هاجس السيطرة على الشعوب وضبط الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي لها من أهم أولوياتها.
وقد استفادت البرافدا العربية من التطور الاكاديمي الكبير الذي حدث في مجال الاعلام ، وتم مزج أساليب البرافدا الروسية بأساليب جوبلز الألمانية ــ جوبلز وزير الاعلام في عهد هتلر ــ واتبع إعلام الديكتاتور ثلاث آليات للسيطرة والهيمنة على الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي :
الأولى : التراكمية :وتتمثل في التأثير التراكمي من خلال التكرار، من باب " ما تكرر تقرر " حيث تميل وسائل الإعلام إلى تقديم رسائل متشابهة ومتكررة حول موضوعات أو شخصيات أو قضايا، ويؤدي هذا العرض التراكمي إلى تأثيرات على المتلقين على المدى البعيد .
الثانية : الشمولية:حيث تسيطر وسائل الإعلام على الإنسان وتحاصره في كل مكان، وتهيمن على بيئة المعلومات المتاحة، مما ينتج عنه تأثيرات شاملة على الفرد يصعب الهروب من رسائلها المسموعة والمرئية والمقرؤة .
الثالثة : التجانس: ويعني توافق الأفكار التي تقوم وسائل الإعلام ببثها وعرضها على جمهور المتلقين، كما يعني وجود اتفاق وانسجام بين القائمين بالاتصال مع المؤسسات التى ينتمون إليها مما يؤدي إلى تشابه توجهاتهم والقيم الإعلامية التى تحكمهم، وعليه تكون الرسائل التي تعمل وسائل الإعلام المختلفة على بثها تبدو متشابهة ومتسقة مع بعضها بعضًا مما يزيد من قوة تأثيرها على جمهور المتلقين.
وتؤدي هذه العوامل السابقة مجتمعة إلى تقليل فرصة الفرد المتلقي في أن يكون له رأي مستقل حول القضايا المثارة، وبالتالي تزداد فرصة وسائل الإعلام في تكوين الأفكار والاتجاهات المؤثرة في الرأي العام
ولقد مرت على كثير من الشعوب العربية عدة عقود من الزمان وهي صامتة مثل صمت جمهور البرافدا السوفيتية ، تتلقى بصبر طويل وثقيل ما تهدر به وسائل الدعاية الرسمية المسماة ظلماً "وسائل إعلام"، وظل ذلك "الإعلام" ينشر ويبث رسائله الدعائية الأحادية الاتجاه مفترضاً أن كل الناس يصدقونه في كل ما يقول ، وأن هؤلاء الناس الذين لم يكن لهم خيارات غيره ، وأنهم ما هم إلا مجاميع وحشود بشرية تسيطر على تصرفاتها روح القطيع .
ووفقاً لهذه النظرة القديمة القاصرة، كان يفترض أن تظل تلك المجتمعات محبوسة في حظائر الأنظمة الثورية، التقدمية، الاشتراكية، الجماهيرية إلخ من الشعارات ذات البريق الذي يأخذ بألباب المتطلعين لها،ولكنها في الحقيقة ما هي إلا أقنعة مختلفة لمسمى واحد هو الديكتاتورية ، ظلت المجتمعات هكذا ، أجيالهم تتعاقب، دون أن ينالوا من وهم السراب قطرة واحدة تروي مرارة عطشهم، وحين ينتبهون يجدون قطار المدنية والحضارة والتقدم قد مضى بعيداً عنهم .
حتى جاءت لحظة الحسم بعد أن فاض الكيل ، وضاق الذرع ، وبلغ السيل الربى ،فانطلقت شرارة الثورات العربية من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا في أسابيع عديدة ، وعروش الطغيان تتهاوي الواحد تلو الآخر،وفي نفس الوقت تتهاوى معها أدوات الهيمنة والسيطرة وفي مقدمتها ؛ وسائل الإعلام .
فقد كان لوسائل الاعلام النصيب الأكبر من الهجوم والانتقاد من الثوار بعد أن كُسر حاجز الخوف الذي كان يمنع من إبداء الرأي بحرية ،وكان لإعلامي مبارك وزين العابدين والقذافي النصيب الأوفر في الهجوم مما دفع الكثيرين منهم للفرار أو الاعتزال أو مهادنة الثورة وتملق الثوار بالثناء عليهم وعلى ثورتهم .
كما قامت الثورات العربية سريعا ، انهارت سريعا ، بعد سلسلة من الهجمات المضادة من فلول الأنظمة البائدة والتي اتضح أنها لم تبد أو تسقط ، ولكنها فقط ترنحت.وكان الاعلام نفسه هو أول من ساهم في سقوط الثورات العربية.
عادت البرافدا العربية لتمارس نفس الدور السابق ولكن بضراوة أشد وإصرار أكبر ومكر أخطر ، فهي قد وعت درس الثورة جيدا،لذلك فهي تجتهد في تجفيف منابع الثورة ،والتحكم في الرأي العام ،من خلال التشارك مع القبضة الأمنية القمعية في إدخال الشعوب مرة أخرى إلى دوائر الصمت وإيثار السلامة ، والسير في الركب والتصرف بروح القطيع الذي يقوده القائد الملهم المنقذ الذي أنقذ البلاد من مصير مروع ، واللعب على أوتار الخوف ، والمفاضلة بين الأمن والحرية ، واقران الدولة بالنظام ، وأن المناداة بسقوط النظام يعني سقوط الدولة ،وأن الرواية الرسمية أو بيانات البرافدا العربية هي الصواب والحق الذي لا يمكن تكذيبه أبدا ، وحين يقتل الفرد فإن ذلك يعد جريمة تستوجب المحاكمة، وحين تقتل الدولة فإنها – فقط- تؤدي واجبها ، وأن رجال الدولة في مرتبة أعلى من سائر المواطنين ، وشيطنة الثورة والثوار ،إلى آخر أساليب البرافدا العربية التي نرى تجلياتها وتداعياتها ماثلة بكل قوة في محيطنا العربي ، كأن ثورة لم تقم ، ونظام لم يسقط .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق