الروس واستعادة الإمبراطورية
عامر عبد المنعم
تحولت سوريا إلى ساحة للصراع الدولي فجأة، تتصارع فيها القوى الدولية حول النفوذ والمكانة والهيمنة، وتجرب فيها جيوش الدول الأجنبية أسلحتها المتطورة في إبادة الشعب السوري، وكأن البراميل المتفجرة التي يلقيها بشار الأسد منذ سنوات وقتلت مئات الآلاف من الأبرياء وشردت الملايين من النازحين واللاجئين لا تكفي.
جاء الجيش الروسي يقتل السوريين بالطائرات الحديثة، وراح الروس يطلقون الصواريخ من السفن الحربية في بحر قزوين على الأحياء السورية بمنتهى القسوة والسادية في استعراض للإبادة المعلنة، وتوسع الجيش الروسي في تشييد القواعد العسكرية في الأراضي السورية ولم يكتف بالقاعدة البحرية في طرطوس.
لقد عادت الحرب الباردة التي عاشها العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بين الأمريكيين والروس من جديد، فروسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي تعافت وتريد أن تستعيد قوة الامبراطورية الروسية مرة أخرى، باستعراض قوتها على الأرض العربية، ومنذ اليوم الأول التدخل العسكري أصر الروس على توجيه رسالة للغرب بقصف حلفاء الأمريكيين من المعارضة التي توصف بالاعتدال!
جاء التدخل العسكري الروسي الفظ في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالتسوية السياسية لإنهاء الصراع في سوريا ومعالجة مشكلة ملايين اللاجئين الذين يتدفقون على دول الجوار وأوربا ليفرض واقعا مأساويا جديدا، ينهي فكرة الحل السلمي، ويفتح الباب على سيناريوهات عديدة تتجاوز الوضع السوري، وقد تتطور إلى حرب عالمية ثالثة.
المعلن هو أن التدخل العسكري الروسي هدفه الدفاع عن نظام الأسد ومنع سقوطه ورسم حدود "سوريا المفيدة" ؛ لكن هذا التحرك الكبير له أهداف استراتيجية أخرى تتجاوز المعلن، تقلب الحسابات وتغير التوازنات وتعيد رسم صورة روسيا على الصعيد الدولي كقطب في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن تلخيص أبرز الأهداف التي جعلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقدم على هذه المغامرة وهي كالآتي:
1- الخروج من الحصار الذي تفرضه أمريكا والدول الأوربية على روسيا بسبب التدخل في أوكرانيا والذي تطور إلى فرض عقوبات وخنق الروس اقتصاديا، وهذا الخروج يعطي بوتين ورقة مهمة في التفاوض كزعيم لقطب عالمي أمام الولايات المتحدة، وهذه الحركة الشطرنجية إعلان رسمي عن عودة روسيا كقوة عالمية وليس إقليمية، والهروب من الفخ المنصوب لها لإنهاكها في صراع إقليمي مع أوكرانيا وإغراقها في معركة تستنزفها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، فروسيا بقيادة بوتين سعت لاستعادة الدور الروسي الامبراطوري الذي انهار مع تفكك الاتحاد السوفيتي، فالروس يشعرون بالنزعة الامبراطورية للعرق السلافي المرتبط بالأرثوذكسية.
2- التأسيس لوجود عسكري دائم بالمنطقة وتوسيعه، وعدم الاكتفاء بالقاعدة البحرية في طرطوس التي ستضيع إذا سقط بشار، وتطوير هذا الوجود باستغلال المطارات والموانئ السورية التي يسلمها بشار للروس مضطرا وخاضعا، للنجاة وإنقاذ رقبته، دون تحمل أن تتحمل روسيا أعباء حروب برية وما تمثله من خسائر في المعدات والقوات التي لا يستطيع الروس تحملها منذ هزيمتهم في المستنقع الأفغاني الذي أسقط الامبراطورية السوفيتية، فالعمل البري يتحمله الجيش السوري التابع لبشار والقوات الشيعية، والأطماع الإيرانية في إقامة امبراطورية فارسية شيعية تدفع طهران لتقديم القوات البرية والميلشيات التي تخوض المعارك على الأرض ضد السنة في ظل القدرات الجوية والصاروخية الروسية.
3- تستغل روسيا حاجة الغرب لها في المعركة ضد "الإرهاب" ومنع تمكن "الدولة الاسلامية" من فرض وجودها كمدخل للسيطرة على هذه المنطقة، ويرى الروس أن الفرصة جاءتهم لتحقيق أحلامهم القديمة في الدخول لقلب العالم العربي، فالأوضاع في المنطقة مهيأة لإزاحة أمريكا وأوربا حيث ترتبط بتحالف مع الحكام الشيعة في إيران وسوريا وتعاون قريب من التحالف مع حكام العراق، وهي تعلم أن الغرب غير راغب في محاربة روسيا، وغير قادر إذا ما رغب، وهذا ما يجعل الروس في حالة اندفاع وتحد معلن غير مستتر للولايات المتحدة الأمريكية
4- ورغم الاتفاقيات وحالة التعاون بين تركيا وروسيا فإن الوجود العسكري الروسي على شاطئ البحر المتوسط واحتلال سوريا يحيي الأطماع الروسية القديمة في السيطرة على تركيا التي خاض الروس من أجلها أربع حروب كبرى مع الدولة العثمانية، فالهدف الاستراتيجي الأهم للروس دوما هو إحكام السيطرة على البحر الأسود والسيطرة على المضايق التركية في البوسفور والدردنيل والوصول الآمن للمياه الدافئة في البحر المتوسط الذي تتحرك به الملاحة طوال العام ولا يتجمد مثل القطب الشمالي والسواحل التي تطل عليها روسيا وتتوقف فيها الحركة فترات طويلة في العام.
5- تتحرك روسيا على أنها راعية الأرثوذكسية في العالم وكانت تحلم منذ حكم القياصرة بالوصول إلى إسطنبول (القسطنطينية) التي كانت عاصمة الامبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية والتي يرى الروس أنهم ورثتها، وكانت هدف الروس السيطرة عليها حتى الحرب العالمية الثانية، وقد يغري الروس ويجدد أطماعهم حالة التمرد الكردي التي يقودها حزب العمال الكردستاني اليساري والذي تصاعد في الفترة الأخيرة ويمثل تحديا لرجب طيب أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية.
6- توسيع النفوذ العسكري الروسي في المنطقة يعزز من قدرة الروس على تحديد أسعار البترول، حيث تعد روسيا ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، سيزيد نفوذها على أوبك بالسيطرة على سوريا التي تشير التقارير إلى أنها تعوم على بحر من النفط بجانب العراق وإيران، وإذا أضيف لهذا تأثير الوجود العسكري على دول الخليج فبالتأكيد سيكون للروس كلمة لا يستهان بها في تحديد شئون الطاقة بجانب التأثير السياسي والعسكري على المنطقة كلها.
لكن هل تستطيع روسيا تحقيق أهدافها من هذا التحرك العسكري خارج أراضيها؟
من الواضح أن الوضع السوري سيكون محرقة لكثير من الدول الكبرى، ويصعب على روسيا أن تخرج منتصرة لطبيعة المعركة المعقدة، لأنها ضد شعب تعرض للإبادة من حاكم مستبد، والقصف الجوي الذي يقوم به الروس حاليا يقوم به بشار منذ 4 سنوات ولم يجد نفعا ولم يحسم الصراع، بل ازداد النظام ضعفا وانسحب من معظم الأراضي السورية.
أيضا يردد الروس أنهم سيعتمدون على القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية كقوات برية وهذا ما فعله ويفعله بشار الأسد، ولم تستطع هذه الميليشيات المرتزقة من كسر الثوار أو هزيمة مسلحي تنظيم " الدولة الإسلامية" ويشير سير المعارك إلى جسارة الثوار الذين يقاتلون بروح قتالية عالية، وضعف الروح المعنوية لقوات بشار وهروبها من المواجهات واستسلامها في بعض الجبهات.
هناك بعد آخر متعلق بأمريكا التي تريد استخدام الروس في معركتها ضد تنظيم"الدولة الإسلامية" وليس تسليمها سوريا على طبق من فضة، وعند تعارض الاستراتيجيات سيلعب الأمريكيون لعبتهم المعروفة برفع الحظر عن تسليح الثوار بمعدات متطورة مضادة للدروع (بدأت تظهر) وصورايخ مضادة للطائرات، ستظهر عندما ترى الولايات المتحدة أنها ستخرج من سوريا بخفي حنين وأن الروس هم أصحاب القرار، وهذا سيحدث لأن بوتين جاء بالفعل لإخراج الأمريكيين وإعادة روسيا إلى الصدارة.
لكن يبقى أن السيناريو الأقوى، وهو الأقرب للتحقق، ويخشاه كل الأطراف، وكلهم ينسون خلافاتهم وصراعاتهم ويتفقون على منعه، وهو نجاح المقاومة في إسقاط بشار وإنهاء اللعبة الدولية بكل صورها وإجبار القوى الأجنبية للخروج، وفرض واقع جديد، غير خاضع للتوازنات الدولية والتأثيرات الخارجية، وهذا له انعكاسات دولية في أكثر من اتجاه، أكثرها خطورة هزيمة القطبين وليس عودتهما!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو أين العرب مما يحدث؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق