سوّدوا الصفحات لتستعيدوا بعض البياض
وائل قنديل
انظر من ناضل من الصحافيين المصريين ضد فكرة خروج الصفحات الأولى من الجرائد باللون الأسود، رداً للعدوان الغشوم من السلطة على الحريات.
عارض الفكرة الذين نموا وترعرعوا في مطابخ العسكر.
أحدهم ورث مهنة المحرّر العسكري، بعد وفاة أبيه المحرر العسكري في مؤسسة "أخبار اليوم"، كان "فتى التسريبات الأشهر" أول من تلقى الوحي من "عباس"، فأشاع أن الرئاسة ليست راضية عن اقتحام نقابة الصحافيين، ثم راح يجاهد "لا بد من تقديم مجلس النقابة طلباً للقاء رئيس الجمهورية، لإنهاء الأزمة".
آخرون من العينة والحجم ذاتهما يهرفون بكلامٍ مضحكٍ عن أن تسويد الصفحات سيضرّ بالقارئ، ويحرمه حقه في المتابعة، وأظن أن أحداً لا يمكنه الرد على هذه الحجة بألفاظ مهذّبة، مهما استجمع كل الطاقات الممكنة لالتزام الأدب، أمام هذا الانحطاط الفكري والبذاءة السلوكية.
يعلم هؤلاء "الأنفار" في المؤسسات الصحافية الحكومية الخالصة، وتلك الخاصة، لكنها حكومية أكثر من الحكومة، أن خروج الصفحات الأولى سوداء صماء، هو أبلغ وأمضى، وأكثر تأثيراً من آلاف الكلمات التي يمكن أن تكتب في هذا الموضوع.
ولذلك، استبسلوا في قطع الطريق على تنفيذ الفكرة، استجابةً لتعليمات أبيهم الذي في الجهاز إياه.
يدركون أن سواد الصفحات يسهم في استعادة الصحافة بعض بياضها المفقود منذ تحولت من "صاحبة الجلالة" إلى "محظية لعوب" في بلاط السلاطين والجنرالات، ولأنهم جبلوا على القابلية للاستخدام، والاستعمال الرخيص، فهم لا يطيقون أن يحاول أحد أن يحرّر المهنة، ويذهب بها إلى مساحات من التطهر.
من المهم الإشارة، هنا، إلى أن مقاومة فكرة تسويد الصفحات نشطت مع هبوط "فرقة الإطفائيين" على اعتصام النقابة، ليمارسوا دورهم المرسوم في أعمال التبريد والتكييف، لتعلو نغمة "مطالبة الرئاسة بالاعتذار وإقالة وزير الداخلية"، والمطالبة في هذه اللحظة لا تختلف عن المناشدة، وتأتي في سياق عمليات التحايل والخداع التي تتأسس على محاولة الفصل بين الرئاسة ووزارة الداخلية، والتفرقة بين "عبد الفتاح" السيسي و"عبد الغفار" مجدي، وهي الخرافة التي أسقطتها أفواج "المواطنين الشرفاء" المحمولة براً، بواسطة الأجهزة الأمنية، إلى محيط نقابة الصحافيين، رافعة صور جنرال الرئاسة، بهتافات "ادبح يا سيسي".
ولو دققت في وجوه وملامح قوات "ادبح يا سيسي"، ستكتشف أنها هي نفسها التي أطلت في كل المذابح التي ارتكبها الجنرالات ضد الثورة، بدءاً من عملية الاعتداء على المسيرة المتوجهة إلى مقر المجلس العسكري، عند ميدان العباسية في يوليو/ تموز 2011، حين سقط أول شهيد لتحالف "العسكر والمواطنين الشرفاء" ابن أسوان الشاب محمد محسن، ومروراً بمذبحة ماسبيرو، ثم مذبحة العباسية الثانية التي ارتكبها التحالف نفسه، في مثل هذا اليوم من العام 2012، بعد الاعتداء على اعتصام قوى ثورية عند محيط مقر المجلس العسكري، وليس انتهاء باستخدامهم للهتاف لسعودية "تيران" و"صنافير" على أبواب بيت الصحافيين.
هم يريدون أن يهزموا الجماهير معنوياً، بالإيحاء بأن من المواطنين "الشرفاء" من يترك بيته وعمله، ويتطوع للجهاد ضد الأعداء، الصحافيين الأشرار، فيما يعلم القاصي والداني أنهم مليشيات الحشد الشعبي السيسية التي تم دمجها في الجهاز الإداري لدولة السيسي، بالقرار الشهير بإنشاء "الشرطة المجتمعية" قبل نحو عامين.
ولذلك، لم يكن غريباً أن يهجم هؤلاء على النقابة، في معية الشرطة، تلك الشرطة التي أخضعها السيسي لسلطانه، منذ واقعة استدراج الثورة إلى اقتحام مقرّات أمن الدولة، في زمن المجلس العسكري. في تلك الليلة التي صار معها جهاز أمن الدولة تابعاً مطيعاً لمدير المخابرات الحربية في ذلك الوقت، عبد الفتاح السيسي.
المقصود، هنا، إعطاب أية محاولة لمصالحة بين الصحافة والمجتمع، بالإصرار على تصدير صورة أن "بعض المجتمع" يدافع عن النظام ضد "كل الصحافة"، الأمر الذي يحتم على القائمين على نقابة الصحافيين ألا يضيّعوا فرصة الخروج بالمعركة إلى المجال العام، الأوسع، باعتبارها معركةً وطنية بالأساس، وليست "عركة فئوية"، كما يريد النظام و"شرفاؤه" من المواطنين والمزروعين في النقابة، تصويرها.
وحتى لا ننسى: أصل الحكاية هو التصدّي للتخلي عن قطعتين من لحم الوطن "تيران" و"صنافير".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق