د.محمد عمارة
كما تشير الألقاب، تبدو وحدة معلومات الأبحاث والاتصالات بلا طعم ولا لون ولا رائحة، لدرجة أنها لا تلفت الانتباه، وعديمة الضرر، لدرجة أنها لا تثير الذعر حتى لو انتبه إلى وجودها أحد.
إلا أن الحقيقة تبدو في واقع الأمر غير ذلك.
تشير تحقيقات صحيفة "الغارديان" إلى أن "ريكو" هذه، التي هي وكالة "الاتصالات الاستراتيجية" في وزارة الداخلية، ضالعة بشكل فعال في تقديم دعم خفي لبعض المنظمات المسلمة التي تعمل على مستوى القاعدة الشعبية بهدف بث "سرديات مضادة" صممت خصيصا لمكافحة التطرف.
كما تشير هذه التحقيقات أيضا إلى أن الحكومة البريطانية ضالعة كذلك في نشر الدعاية التي تستهدف تعزيز الانطباع بوجود جماعات "معارضة مسلحة معتدلة" داخل سوريا.
قد يتفهم كثير من الناس أن تلجأ الحكومات الديمقراطية إلى ممارسة الدعاية، إلا أن الكشف عن أن الحكومة البريطانية ضالعة في حملات دعاية كبيرة بهدف التأثير على "قلوب وعقول" المسلمين البريطانيين وعموم الناس في المجتمع البريطاني بات يثير قلقا بالغا، كما تثير مثل هذا القلق التقارير المؤرقة التي تتحدث عن اللجوء إلى الغش والخداع.
إن الدعم السري الذي تقدمه وحدة "ريكو" إلى المنظمات الإسلامية العاملة على مستوى القاعدة الشعبية، التي تبدو في الظاهر مستقلة، وإلى الحملات الإعلامية، إنما هو نموذج تقليدي لما يطلق عليه الدعاية السوداء، التي يتم من خلالها السعي للحصول على مستوى أعلى من الإقناع عبر تمويه مصدر الرسالة، الذي لو علم مسبقا لربما ألحق ذلك ضررا بمصداقيتها.
مثل هذه النشاطات كانت تمارس أثناء سنوات الحرب الباردة.
يمكن في بعض الأحيان تبرير اللجوء إلى الخداع استراتيجية سياسية، وكذلك اللجوء إلى الدعاية ذاتها، ولكن ذلك يكون دوما مقابل ثمن، وفي بعض الأوقات يكون الثمن باهظا جدا.
في حالة "ريكو" والاستراتيجية المحلية لمكافحة الإرهاب، ثمة قضايا ثلاث تحتاج إلى العلاج.
في البداية هل من الممكن أن يكون الفعل نفسه المتمثل في استهداف المسلمين البريطانيين بالسرديات المضادة بهدف إحباط التطرف فعالا ومؤثرا؟
ما يتوفر لدينا من أدلة في هذا المجال لا يبعث على الاطمئنان، فقد خلص تقرير أعد مؤخرا بتكليف من مجالس الأبحاث في المملكة المتحدة إلى أنه لم يبرز بعد فهم مشترك لمصطلح "السردية المضادة" هذا في الوقت الذي يؤدي الاضطراب والاختلاف بشأن معناه إلى "استغلاق النقاش الصريح" حوله.
يؤكد التقرير على أن فعالية هذه الاستراتيجية مازال يعوزها الدليل.
أما القضية الثانية فهي الثقة. وذلك أن اللجوء سرا إلى دعم أو خلق منظمات إسلامية تعمل على مستوى القاعدة بهدف بث رسائل الحكومة ما هو سوى استراتيجية خادعة من المحتمل ألا تسفر سوى عن تسميم العلاقات بين الجاليات، وعن تآكل إضافي في مستويات ما تبقى من ثقة في الحكومة، وهي مستويات متدنية أصلا.
وثالثا، كل هذا التركيز على السرديات المضادة وعلى التطرف إنما يحجب عن النظر ما لا يحصى عدده من الأسباب التي تجعل كثيرا من المسلمين يتبنون مواقف ناقدة، وبحدة، للحكومة.
يتم اختزال المشكلة من خلال تعريفها باسم "السرديات المضادة"، ومن خلال منع أي مراجعة نقدية لما قد نقوم "نحن" بفعله أو لما يلعبه لسياق السياسي نفسه من دور.
ذلك أن الغضب تجاه السياسة الخارجية وتجاه الحروب الأخيرة، إضافة إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر، كلها مصادر أساسية للسخط والشقاق، ولا يقتصر الأمر على المسلمين البريطانيين دون غيرهم.
وفي هذا الصدد، ينبغي على كل من لهم علاقة بصياغة استراتيجية الحكومة أن يسألوا ما إذا كانوا قد أخذوا بعين الاعتبار بما فيه الكفاية السياق السياسي ودوره في خلق التطرف والتشدد الذي تعكف الحكومة الآن على استهدافه.
إن أكثر ما يقلق فيما كشفت عنه صحيفة "الغارديان"، هو التقارير التي تفيد بأن الحكومة البريطانية متورطة في نشر معلومات دعائية حول سوريا.
لقد كان معروفا منذ مدة ليست بالبسيطة، أن ادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بشأن وجود معارضة سورية معتدلة تستحق الحصول على الدعم الغربي إنما هي تزييف للواقع. وهنا يبرز سؤال عما إذا كانت الحكومة البريطانية تعلم ذلك ولكنها سعت إلى خلق انطباع مضلل، "من أجل حشد الدعم للحرب".
بات معروفا الآن بأن مثل هذا النوع من النشاطات الدعائية مورس في الفترة ما بين عامي 2002 و2003، عندما تلاعبت الحكومتان الأمريكية والبريطانية عن سبق إصرار وترصد بالمعلومات الاستخباراتية لكي تخلق انطباعا بأن العراق كان يمثل تهديدا كبيرا، بسبب حيازته لأسلحة الدمار الشامل (مع العلم أنه لم يتم العثور على أي نوع من هذه الأسلحة في حوزة العراق).
في تلك الحالة، تمكنت هاتان الحكومتان من الالتفاف حول الرأي العام وحول الجدل السياسي الذي كان دائراً من أجل أن تشنا حربا انتهت بكارثة على العراق وعلى المنطقة بأسرها.
ويبدو الآن، وبعد خمسة عشر عاما، أنه يجرى اللجوء إلى تلك الاستراتيجية المخادعة ذاتها، بعيدا عن كل محاسبة، وفي مخالفة صريحة للقواعد الديمقراطية.
ثمة مبادئ أساسية لا بد من لفت النظر إليها بهذا الصدد، فالخداع والدعاية تتناقضان تناقضا تاما مع المحاسبة والديمقراطية. قد تكونان في بعض الأوقات ضروريتين ومبررتين، إلا أن اللجوء إليهما يمكن أن تنجم عنه مخاطر عظيمة.
تشير تجربة السنوات الخمس عشرة الماضية، التي شهدت عددا من الحروب الكارثية وإقصاء متزايدا وتهميشا مستمرا للجالية المسلمة، إلى أن اللجوء إلى الخداع والدعاية قد أتى، في أحسن الأحوال، بنتائج عكسية.
لقد آن الأوان لإجراء مراجعة نقدية عميقة للأساليب التي تستخدمها حكومتنا في التواصل ولدور الدعاية والخداع في مجتمعنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق