الخميس، 20 ديسمبر 2018

إختلال القوة القيادية فى اﻷمة؛ ظاهرة متكررة (1)


إختلال القوة القيادية فى اﻷمة؛ ظاهرة متكررة 
(1)



 أ.د حامد ربيع

بُنَي لابد وأنك تشعر – وقد تفتحت مداركك وأضحيت قادرًا على التمييز بين الخير والشر، وعلى تقييم الصالح وفصله عن الطالح – بشيء من الازدراء والاحتقار، لذلك الجيل الذي يحيط بك، ويقودك ويوجهك ويفرض عليك الطاعة والاحترام، أرى في كثير من الأحيان لمحات السخرية الصامتة على مخيلة طلبتي، أبنائي وبناتي، وهم يعلقون على سلوك آبائهم وأساتذتهم، ومن هم في حكم أولئك.

نعم صراع الأجيال حقيقة أزلية، ولكن ذلك الصراع لم يمنع الاحترام والتقدير، وخلف الصراع توجد رابطة الاستمرارية الثابتة، التي تتعدى الخلاف المؤقت والنسبي لتخلق قصة الإنسان والوجود.

رغم ذلك فعليك يا بني وأنت تحكم عليهم أن تذكر أولاً مدى ما لاقَوْا وما عانوا، وكيف خرجوا من تلك المحنة التي عاشتْها أمَّتنا، وحملوا هم وحدهم وزرها، وآثارها، ولا تتصوَّرْ يا بُنَيَّ أنَّها محنة جيل واحد، لقد حمل ذلك الجيل الذي تنظر إليه مستنكرًا المآسي المترسبة خلال عشرة قرون على الأقلِّ، لا تتصوَّر أنَّني أدافع عن هذا الجيل الذي أنتمي أنا أيضًا إليه، أنا أعلَمُ – وسوف تقرأُ ذلك في صفحاتِ هذه التأمُّلات – أن هذا الجيل هو حلقة في سلسلة طويلة من الأجيال التي تنكَّرتْ لتعاليم آبائِها الأوائل، والتي خانَتِ الوظيفة الحضاريَّة الخلاقة، التي عَهِدَتْ بِها العِناية الإلهية لأبناء هذه المنطقة، أجيال تركت الآخرين يشكلون منطقها وعقلها على المستوى الفردي والجماعي، فأضحت لقمة سائغة في يد قوى معادية لا يمكن إلا أن تقِفَ من رسالتنا التَّاريخيَّة موقف الرفض والعداوة.

كم عانيت يا بني إذ أنظر إلى أولئك الذين من حولي؛ فتجمع نظرتي بين الحب والإشفاق من جانب، والاحتقار والازدراء من جانبٍ آخَرَ، كما تضافرت في الذات عوامل التمزق، وهل هناك أشد على النفس من أن تحتقر شخصًا وتحبه في آن واحد؟ من أن تزدري إنسانًا وتعطف عليه؟ تسعى إليه بدافع من العاطفة، فإن تركت المنطق بحكم لغته التي لا تعرف سوى الوضعية بجفافها، لم تستطع إلا أن تشعر بالنفور والابتعاد، إنها مأساة جيل كامل، لا يستطيع أن يفهم حقيقتها إلا من عاناها وعاشا جَنَبَاتِها.

لا شكَّ يا بُنَيَّ في أنَّك تنظر من حولك وتسأل نفسك: أين أنا؟ هل أعيش وسط غابة قد امتلأتْ بالوحوش؟ أم إنَّنِي أنتمي إلى حديقةٍ للحيوانات تَجري في أنْحائِها كيانات ليستْ فَقَطْ غير عاقلة ولكن مفترسة؟ أم إنَّنِي أُشاهِدُ مسرحيَّة تتذَبْذَبُ فُصُولُها، بين الهزل المضْحِك والجِدِّ المُبكي؟ ولكنَّك يا بُنَيَّ تعيش كل ذلك في آنٍ واحد بين طبقات حاكمة قد نسيت إلا أنانيتها، و"ديدان" استطاعتْ أن تتسلَّق لتَصِلَ إلى أقصى القِمَّة، ولكنَّها لم تعد تذكر طبيعتها منذ أن تربعت في كراسي السلطة، وظَنَّتْ أنَّها قدِ اكتَسَبَتْ خصائصَ القيادة، وذوي قدرات فكرية انقَلَبُوا إلى مَجموعةٍ من الصفاقة، الذين تعوَّدوا الكذب بلا حياء، وقد فقدوا كل وعي بتقاليد الممارسة المهنية، دعني أهمس في أُذُنِك أنَّ الطبقات الحاكمة – رغم ذلك – ليستْ إلا تعبيرًا عن فسادِ الجسد ورخاوة الإرادة وتعفُّن الضمير، وكلُّ شعبٍ لا يَحكُمُه إلا مَنْ يستحِقُّه، ويعكس جميعَ خصائصِه من ضعفٍ وقُوَّة، علينا أن نعترف أن تَخَلُّفَ المنطِق القياديِّ ليس إلا النتيجة الطبيعيَّة لقصور القوى الفكرية، والمثقفة عن أداء وظيفتها، وإذا كان الحاكم يتقن فن الكذب فليس إلا نتيجة عدم قدرة المجتمع على أن يواجه ذاته بصدق وصراحة، وإذا كانت أمتنا ليست قادرة على أن تفهم حقيقة الموقف الذي تجتازه، فمرد ذلك أن الضمير والوعي الجماعي لم يعد صالحًا لأن يخلق ويفرض ذلك الإطار من القيم والمثاليات، الذي هو وحده الصالح لأن يساند ويحكم التدبر والتعامل السياسي.

ترى هل نستطيع أن نفهم كيف أنَّ هناك لحظات في تاريخ المجتمعات يتعين فيها على المفكر والفيلسوف أن يخاطب رجل الشارع، يثير فيه عناصره النفسية الدفينة، ويدفع من خلال قرع الضمير الجماعي ذلك الرجل العادي ليحيله إلى قُوَّة خلاقة تنطلق في عملية إيمان بالذات لتصير فيضانًا يتحكَّم في مصائر الحركة؟ 
أليس هذا ما فعله سقراط، وانتهى بأن يقدم ذاته على مذبح الإيمان والتضحية؟ 
وهل تَختلِفُ القِصَّة في تاريخ المجتمع الإسلامي، ومن خلال أكثر من نموذج واحد؟ لنتذكَّر ابن تيمية على سبيل المثال! 
وهذا عالَمنا المعاصر يقدم لنا الصفحات الواحدة منها تلو الأخرى! 
وأين "فيشت"* من قصة الثورة في القيم والأخلاقيات على الأوضاع القيادية المتعفنة؟
-----
* فيشت: وقد يقرأ أيضا فيشته ... هو فيلسوف ألمانى يعرف بفيلسوف المقاومة أو الثورة، ومن أشهر أعماله كتاب "محاولة فى نقد الثورة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق