عاصفة محبة تضرب مصر
بينما أحاديث المحبّة الغامرة تهطل على مقرّ الكاتدرائية المصرية الجديدة في العاصمة الإدارية الجديدة لمناسبة عيد الميلاد، كانت عاصفة من القرارات تأخذ في طريقها مئات المسجونين منذ أكثر من عشر سنوات، في ما بات يعرف باسم "التدوير" لإحالتهم إلى محاكماتٍ جديدة في قضايا جديدة باتهاماتٍ جديدة، جرى طبخها لهم فيما هم معزولون عن العالم، يتمتّعون برغد العيش في زنازين صمّاء يرتع فيها البرد والمرض والتنكيل بكلّ صوره.
قرارات التدوير، أو الإحالة لم تستثن أحداً، مشهورين ومجهولين، شيوخاً وشباباً، سياسيين وطلبة، رجالاً ونساءً، ليجد المرشّح الرئاسي السابق ورئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح، نفسه متهمًا في قضيّة جديدة صُنِعت ربما حين كان في إحدى النوبات التي تصيبه، وتستدعي نقله من السجن للعلاج، ومعه عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، هدى عبد المنعم، والتي كلما أمضت فترة حبسها في قضية وجدت نفسها متهمة في واحدة جديدة، والأمر نفسه ينطبق على المحامي ونائب رئيس حزب الوطن، عصام سلطان، ورجل الأعمال حسن مالك الممنوع عنه الزيارة في محبسه منذ عشر سنوات، ومع كلّ هؤلاء طلّاب اختطفوا من مدارسهم وجامعاتهم قبل سنوات عدّة وشابوا داخل الزنازين.
إلى جانب هؤلاء، تفتح "سجون المحبّة" أذرعها لتحتضن آخرين من مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، مثل المهندس يحيى حسين عبد الهادي، المحارب القديم ضدّ العدو الخارجي في العام 1973 والمقاتل سنوات بعدها ضدّ العدو الداخلي، فساد الخصخصة الذي التهم أصول مصر، وكذا الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق الذي يجدّد حبسه احتياطيّاً بانتظام، ورسام الكاريكاتير أشرف عمر، وقبلهم الناشط، علاء عبد الفتاح، الذي أتم دفع عشر سنوات من عمره ثمناً لمطالبته بالحرية والديمقراطية والعدل، والذي دخلت والدته الأكاديمية المعروفة ليلى سويف المائة الثانية من أيام إضرابها المتواصل عن الطعام نضالاً بالأمعاء الخاوية لاسترداد ابنها من قبضة السجان بعد أن أنهى فترة عقوبته.
يلفت النظر أنّ كلّ هذه "المحبة" التي تُغرق بها السلطة الإنسان المصري، من كلّ الطبقات والأعمار، تتزامن مع استعداداتٍ رسمية للوقوف أمام المجلس الدولي لحقوق الإنسان، حيث تستعد الحكومة المصرية لجلسة المراجعة الدورية الشاملة لملف حقوق الإنسان في البلاد، المقرّر لها 28 يناير/ كانون الثاني الجاري في جنيف، وهي المراجعة التي تقدّم فيها مصر تقريراً دوريّاً عن أوضاع حقوق الإنسان كلّ أربع سنوات، حيث شهد العام 2021 إدانات دولية متعدّدة لانتهاكات حقوق الإنسان، إذ أعربت 31 دولة عن قلقها من وضع حقوق الإنسان، عبر "تقليص الحيز المتاح" للمجتمع المدني والمعارضة السياسية، و"تطبيق قانون مكافحة الإرهاب في حق منتقدين سلميين".
في ذلك الوقت كان الردّ الرسمي المعتاد على لسان الخارجية المصرية هو وصف هذه الإدانات بأنها "مزاعم وأحاديث مُرسلة" إذ وقف الوزير سامح شكري يتحدّث أمام البرلمان، متحدثًا عن الإدانة الدولية الجماعية للنظام المصري في ملف حقوق الإنسان، ويعزو الأمر إلى ضعف الأداء الإعلامي، مما جعل الملعب مفتوحًا أمام ما سمّاه "الإعلام المعادي، أو إعلام التنظيمات الإرهابية".
غادر سامح شكري موقعه الرسمي، غير أنّ هذا التبرير المُفرط في سذاجته لم يغادر رأس النظام، لتتواصل نغمة حرب الشائعات وإعلام أهل الشر، وتحميلها مسؤولية اختراع الانتهاكات ضدّ حقوق الإنسان، وهو ما يكشف حالة البارانويا التي تتحكّم في عقل السلطة، وتجعلها تسلك وكأن العالم مجموعة من العميان لا يدركون جمالها، أو الحاقدين الأشرار الموظفين لتشويهها، بينما الواقع ينطق بأنها تؤدي هذه الوظيفة بمنتهى الكفاءة والإتقان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق