هل يتورط الجيش المصري في مستنقع ليبيا ؟
من الأمور المتعارف عليها سياسيا في مرحلة الدعايات الانتخابية للسباقات الرئاسية؛ أن كل مرشح رئاسي يعمل جاهدا على بث رسائل طمأنة وتفاؤل لجمهور الناخبين بمستقبل أفضل ،كما أنه يتوسع في شرح برنامجه الانتخابي ، وطموحاته الاقتصادية ، وإصلاحاته الاجتماعية ،وخططه العامة ، فمرشح يعد ناخبيه برفع الرواتب ، ومرشح يعد بتخفيض الضرائب ، وثالث يعد بتحسين الخدمات العامة ، ورابع يعد بتخفيض نسب البطالة والعجز في الموازنة وهكذا هو الحال ، فالوعود الانتخابية مهما كانت درجة تفاؤلها هي السمت العام للانتخابات الرئاسية في أي بلد كان ، وحتى لو كانت الانتخابات صورية ، ولا تعدو عن كونها مسرحية هزلية ، والنتيجة محسومة ، والفائز معروف ، وسائر المرشحين مجرد محللين ودوبليرات لبطل المسرحية ، حتى لو كانت الانتخابات بهذه الشكلية إلا إنه من الهام والثابت طرح البرامج الانتخابية ، واعتماد سياسة التهدئة وبث رسائل الطمأنة والتفاؤل .
الانتخابات الرئاسية التي ستشهدها مصر في أواخر شهر مايو المقبل والتي لم يخض غمارها سوى مرشحين اثنين ، أولهما السيسي المدعوم من المؤسسة العسكرية وجميع مؤسسات الدولة وقواعد الدولة العميقة ورجال عهد مبارك أو الفلول والكنيسة المصرية ، والمؤيد أيضا خليجيا وأوروبيا وأمريكيا ، والثاني هو صباحي المدعوم من بعض الأحزاب الصغيرة وبعض شباب الثورة ،وسيقاطعها التيار الإسلامي وثوار 25 يناير ، ينظر إليها على نطاق واسع على أنها مجرد مسرحية لا تختلف كثيرا عن انتخابات 2005 التي أجراها مبارك لنيل المباركة الأمريكية ، وكبرهان على التزامه بالمعايير الديمقراطية وفقا للرؤية الأمريكية لها .
لذلك لم يكن مستغربا أن يقاطعها جل المرشحين الرئيسيين في انتخابات 2012 مثل أبي الفتوح وخالد علي والعوا ، وحتى أحمد شفيق مرشح الدولة العميقة قاطعها وقد أبدى تخوفه من تزوير الانتخابات لصالح السيسي في تسريب استدرجه إليه الصحفي وائل الإبراشي وثيق الصلة بالمخابرات العسكرية .
العجيب في المشهد المصري الذي يعيش أجواء توتر واضطراب وانفلات أمني وتشقق اجتماعي كبير منذ انقلاب 3 يوليو الماضي أن المرشح الرئاسي السيسي يتعامل مع السباق الانتخابي بصورة غاية في الاستفزاز والجراءة ، مما دفع كثيرا من المراقبين للمشهد السياسي المصري للتساؤل عن المقابل الذي تعهد السيسي بدفعه لأمريكا حتى ينال مباركتها ورضاها التام بعد تمنع وتردد لفترة طويلة حتى أعتقد الكثيرون أن أمريكا لا تريد السيسي رئيسا ؟!
فالسيسي يتعامل مع الداخل المصري بصورة في غاية الحدية والصرامة ، فبدلا من أن يبعث برسائل طمأنة للمعارضين والمتوجسين من حكمه الديكتاتوري ، وبدلا من أن يعمل على تهدئة للأجواء المحتقنة ، وتسكين للمخاوف المتنامية من عسكرة الحياة السياسية ، وبدلا من أن يعد برفع المعاناة اليومية عن كاهل المواطن المصري ، بدلا من ذلك كله ،إذا به يصف نفسه بالعذاب والمعاناة ، والاستعداد للتضحية بجيلين من أجل سلامة كرسيه ،وإذ به يقوم بخطوات أقل ما توصف بأنها خطوات مؤلمة ومقلقة للغاية حتى لمؤيديه والمقربين منه ، فحملته الانتخابية تعلن أنه لا يحتاج إلى برنامج انتخابي ، بل يكفي المصريون فخرا أن يوافق السيسي على الترشح ، ثم إذا بالحكومة التي تأتمر بأمره تقوم بخطوات في غاية الجراءة تتقاطع بقوة مع مصالح المواطن البسيط ، فترفع الدعم عن الغاز والوقود والكهرباء والمياه ، وتخفض وزن رغيف الخبز الذي يمثل القوت الأساسي للمصريين ، وتقوم بالإعلان عن خططها الرامية لرفع معدلات الضرائب وتوسيع قاعدتها لتشمل شرائح لم تكن خاضعة من قبل .
وبالتزامن مع هذه الخطوات المؤلمة تقوم أجهزة الأمن بحملات قمع وحشية تجاه المعارضين للانقلاب العسكري بلغت معدلات خطيرة ، حتى أصبح من المعتاد يوميا سماع خبر قتل أحد المواطنين على يد أحد المنتمين للأجهزة الأمنية بسبب أولوية المرور أو الخلاف على أمور بسيطة ، وتمادت الأجهزة الأمنية في استخدام القوة المميتة مع المعارضين حتى بلغت أعداد القتلى معدلات لم تعرفها مصر من قبل عبر تاريخها كله ، هذا غير الأعداد الضخمة للمعتقلين والمصابين والمطاردين والمطرودين من أعمالهم وجامعاتهم .
وبالتزامن مع القمع الأمني يمارس في مصر حملات قمع قضائي تاريخية وغير مسبوقة في سجل القضاء الإنساني ، ومن أبرز هذه الحالات إحالة أوراق 1100 مواطن مصري للمفتي تمهيدا لإصدار حكم بالإعدام عليهم ، مما حدا بمنظمة العفو الدولية للتنديد بشدة بهذه الأحكام ، ووصف القضاء المصري بأنه قد أصبح جزء من منظومة القمع العسكرية في مصر بعد الانقلاب ،وتهديد المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان بفرض عقوبات شديدة على القضاء المصري تصل لحد عدم الاعتراف بأحكامه إذا لم يتراجع عن هذه الأحكام الجنونية .
فما السر وراء هذا التصعيد ورفع وتيرة القمع الأمني والاجتماعي والاقتصادي والقضائي في مصر في هذه المرحلة ، ولماذا أطلقت أمريكا يد السيسي في البلاد حتى يتم يتصرف بهذه الجراءة والوحشية ؟
المقابل على ما يبدو من جمع الأخبار المتناثرة ، وربط بعض المواقف التي قد تبدو متباعدة ، يقودنا إلى حقيقة مفزعة ، وإلى مقابل باهظ جدا ، وفي غاية الفداحة ، وهو تحول السيسي للعب دور صدام حسين وشاه إيران من قبل في المنطقة ، ألا وهو دور الشرطي الأمريكي الذي يحقق أهداف السيد الأمريكي وينوب عنه في عملياته السرية ويكون عصاه الغليظة التي يضرب بها المارقين عن طوع السيد الأمريكي ، فلم يكد يمر سوي أيام قليلة على الانقلاب العسكري في 3 يوليو حتى خرج الإعلامي المثير للجدل وقريب الصلة بالأجهزة السيادية في مصر " توفيق عكاشة " في أحد برامجه مطالبا الجيش المصري بالتدخل في غزة وليبيا للقضاء على الجماعات الإرهابية .
ثم توالت الخطوات الدالة على عزم السيسي على توريط الجيش المصري في شرق ليبيا ، بدء من محاولة اللواء الليبي السابق " حفتر " محاكاة السيسي بانقلاب عسكري في ليبيا على الحكم المنتخب ، والفشل الذريع الذي مني به ، ثم تكشف الأخبار بأن السيسي هو من يقف وراء هذه المحاولة الفاشلة
فقد بثت وكالة عين ليبيا الاخبارية تصريحات منسوبة لحفتر قال فيها : المصرى عرضوا عليا إرسال قوات عسكرية مصرية في منطقتى "الوادى الأحمر ودالك"؛ للسيطرة على جميع الحقول النفطية في منطقة الهلال. كما قال : ندرس العرض المقدم من ﺍﻟﺤكوﻣﺔ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻟﻤﺼرﻱ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺘﺸﺎﻭﺭ ﻣﻊ ﺍﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﻓﻲ ﺑﺮﻗﺔ ﻭﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺴﻴﺪ ﺍﻟﺠﻀﺮﺍﻥ ﺑإﺭﺳﺎﻝ ﻗﻮﺍﺕ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﻣﺼﺮﻳﺔ ﻭإنشاء ﻗﺎﻋدﺓ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﻣﺼﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﻣﻨطﻘتى ﺍﻟﻮﺍﺩﻱ الأﺣﻤﺮ ﻭذﻟك ﻟﻠﺴيطرة ﻋﻠﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻝ ﺍﻟﻨفطية ﻓﻲ ﻣنطقة ﺍﻟﻬﻼﻝ ﺍﻟﻨفطي ﻭ ﻟﻠﻤﺴﺎﻋدﺓ فىﻋﻤﻠﻴﺔ ﺑﻴﻊ ﺍﻟﺒﺘﺮﻭﻝ.
ثم تكرار حوادث قتل المصريين النصارى في ليبيا ، وتوجيه أصبع الاتهام للتيارات الإسلامية هناك ، ثم تكشف الحقيقة بوقف مليشيا " القعقاع " العلمانية الموالية لمحمود جبريل وراء الجريمة لإلقاء اللوم على الإسلاميين في ليبيا ، وتهييج الرأي العام المصري والدولي ضدهم ، ثم التصريحات المتتالية لمفكر الانقلاب وأحد مدبريه وهو الصحفي العجوز " هيكل " والذي أعاد فيها الحديث القديم عن أحقية مصر في إقليم برقة الليبي ، وحيث أكد الكاتب الصحفى الذي ينظر إليه على نطاق واسع بأنه واضع سيناريو الانقلاب في لقاء سابق مع الإعلامية الفلولية لميس الحديدي، إن دبلوماسيا غربيا ـ لم يذكر اسمه ـ سأله مندهشا: لم لا يتحرك الجيش المصري للعدوان على ليبيا للإجهاز على “تنظيم القاعدة ” الموجود في “درنة” الليبية؟! هيكل توقع ـ بلغة لا تخلو من التحريض الصريح ـ تكرار سيناريو عدوان السادات على ليبيا عام 1977 .
ثم كانت الأكذوبة الإعلامية عن وجود ما يسمى بالجيش الحر المصري على الحدود الليبية ، والذي يستعد للهجوم على مصر ، وتمده قطر وتركيا بالسلاح ، وتكفل الإعلام بإطلاق حملة تخويف كبرى من هذا العدوان الإرهابي المرتقب ، ثم كانت ثالثة الأثافي في حديث السيسي مع وكالة الفوكس نيوز المعروفة بعدائها الشديد للإسلام والعالم الإسلامي ، والتصريحات الخطيرة التي أطلقها الرئيس الفعلي والقادم لمصر ، فقد كان كلامه للقناة الأمريكية بمثابة دعوة ”مبطنة” لاحتلال ليبيا من قبل حلف شمال الأطلسي ”الناتو”، وقال السيسي في المقابلة مع ”فوكس نيوز” إن مصر تحارب الإرهاب الموجود في سيناء وكذلك الموجود على الحدود المصرية الليبية.
وعن الوضع في ليبيا ذكر بأن رفض حلف شمال الأطلسي نشر قوات حتى استقرار الوضع الليبي، بعد أن لقي الزعيم معمر القذافي مصرعه، أحدث نوعا من الفراغ السياسي، ما جعل ليبيا تحت رحمة المتطرفين، وأضاف السيسي ”إن التاريخ سيحاسب الأمريكيين وحلفاءهم بقسوة لأنهم تركوا ليبيا للمتطرفين الإسلاميين "
العديد من المحللين السياسيين اعتبروا أن أمريكا تحرض السيسي نحو اقتحام الجبهة الليبية ، وأنها تحاول تكرار تجربة صدام مع الكويت سنة 1990 عندما حرضته على احتلال الكويت ، ثم اتخذت ذلك ذريعة للقضاء على الجيش العراقي ثم الدولة العراقية كلها فيما بعد ، وقد اعتبر المحلل الانجليزي الشهير وقال هيرست في مقال نشره موقع "هافينغتون بوست"، إن ما يسعى السيسي "لعمله في شرق ليبيا إنما يهدد أمن جميع الأطراف بلا استثناء"، مضيفا أننا "رأينا كيف ساهم السلاح الذي فاضت به الساحة الليبية في تغذية التمرد في مالي والحرب الأهلية في سوريا"، ومتسائلا "فهل يريد هيجل- وزير الدفاع الأمريكي- ضم مصر إلى تلك القائمة؟ وهل يصب ذلك في المصلحة القومية للولايات المتحدة الأمريكية".
وكان الكاتب يعلق على الدعم العسكري الأمريكي الأخير لمصر، ممثلا في تزويدها بعشر طائرات أباتشي، قيل إنه سيستخدمها في قمع التمرد في سيناء أم أنها ستوجه إلى ليبيا ؟!
ونحن لنا أن نتسائل إزاء التصعيد الداخلي المتنامي ، والأجندة الاقتصادية الصارمة التي شرع الانقلاب في تنفيذها فعليا ، والقمع غير المسبوق في البلاد ، هل المقابل الذي تعهد السيسي بدفعه لأمريكا حتى تسكت عما يقوم به في مصر ، هو قيام الجيش المصري باحتلال شرق ليبيا وإقامة منطقة حاجزة هناك ، وهو ما يعني توريط أقوى الجيوش العربية في واحد من أخطر بقاع العالم حاليا ، وأكثرها سلاحا وعتادا وذخيرة ، وليبيا بلد شاسع الأرجاء ، صحراوي الجغرافيا ، مقبرة للعديد من غزاة التاريخ قديما وحديثا ، حتى أن الناتو والأمريكان رفضوا التورط في هذا المستنقع المهلك . وهذا يعني أن دخول الجيش المصري أو حتى قوة التدخل السريع التي شكلها السيسي منذ أسابيع لهذه المنطقة الخطرة سيكون بمثابة تفجير عارم للمنطقة ، وإيذانا بتغيير واسع في المنطقة يكون أول ضحاياه هو الجيش المصري نفسه . ربنا يستر