شهادة لله
هذه شهادة لله فى عنقى لفضيلة الشيخ الفاضل جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق؛ تأتى على خلفية تهاوى شيوخ الانقلاب العسكري واحدا بعد الآخر.
أذكر أننى تعرفت عليه خلال ابتعاثى من قِبَلِ اليونسكو ، لتقديم استشاراتى واقتراحاتى بخصوص تطوير وتنمية مكتبة الأزهر فى مبناها الجديد بشارع صلاح سالم.. وفقًا لطلبٍ رسميّ من شيخ الأزهر إلى اليونسكو..
وكان الشيخ شديد الاهتمام بها؛ فقد كان يحلم بأن يزوّدها بأحدث التقدّمات التقنية لخدمة الباحثين فى الإسلام فكرًا وحضارةً .. وأن يتوفّر لرُوّادها من المكفوفين أحدث الوسائل للاتصال بالمعرفة والقراءة .. وأن تقوم مكتبة الأزهر بدور موازٍ لمكتبة الإسكندرية؛ كمركز متخصصٍ فى الثقافة الإسلامية..
رحّب بى الشيخ ترحيبًا شديدا فى مكتبه ؛ حيث تداولنا الحديث منفرديْن لمدة ساعة أمر فيها الشيخ تأجيل كل المكالمات الواردة إليه حتى ينتهى اللقاء .. منذ تلك اللحظة بدأت العلاقات تتوثّق بيننا ؛ فخلال ثلاثة أشهر كنت ألتقى به وأجتمع معه على الأقل مرتين كل أسبوع ؛ إذ طلب منى أن أنضم إلى عضوية لجنة المكتبة للنظر فى مشكلاتها ومعالجتها فاشترطت أن يكون هو رئيس اللجنة.. حتى يكون التواصل مباشرا بدون واسطة مع صاحب القرار فقبل اقتراحى..
لهذه المكتبة قصة مثيرة تكشف عن علاقة السلطة فى عهد مبارك مع الأزهر وشيخه الجليل.. فدولة مبارك لم تدفع مليما واحدا فى بناء هذه المكتبة ؛ ذلك لأن المال الذى اشترى به الأزهر الأرضَ وتكاليف المبانى كانت منحة مشروطة من وزارة الأوقاف بدولة برونايْ ؛ وشرطها أن تُنفق فى بناء مكتبة للأزهر.. يتم تزويدها بأحدث الوسائل التكنولوجية.. وبناء دار للطالبات المسلمات المغتربات اللائى يدرسن فى جامعة الأزهر..
كان المبلغ كبيرا بلغ عدة ملايين من الدولارات ، طمع فيه مبارك فأمر بوضعه تحت إشراف رئيس وزرائه عاطف صدقى ..
وهنا بدأت معركة خفية بين حكومة طامعة فى المال.. تساير مشروع الأزهر على مضض وتضع أمامه العراقيل، وبين شيخ الأزهر الذى أصر َّعلى أن يمضى فى مشروعه كاملا إلى النهاية..
هناك خلفية لا بد من تجليتها فى هذا المجال لم يتطرّق ولن يتطرّق لها الإعلام المصري أبدًا: فقد كان من المفترض أن يوضع هذا المال تحت يد شيخ الأزهر نفسه من خلال وزير مستقل تابع له باسم "وزير الأزهر" .
وهو وزير وجوده مقرر فى النظام الحكومي المصري .. وقد خُصص له مبنى فى جاردن سيتى بالقاهرة.. ولأن شيخ الأزهر لديه رسميًّا صلاحيات رئيس الوزراء؛ فله مطلق الحرية فى التصرّف بميزانيته الخاصة أو أي مبالغ مالية أخرى ترد إليه من المانحين .. ولكن لأن تطوير الأزهر وتنميته ليست شأنًا واردًا فى اهتمامات نظام مبارك فقد ألغى وظيفة وزير الأزهر وأسندها إلى عاطف صدقى.. وأصبح رئيس الوزراء هو صاحب القرار فى كل ما يتعلق بالانفاق .. وعلى شيخ الأزهر أن يطلب أويستجدى من رئيس الوزراء لا أن يأمره..
كان عاطف صدقى قد حوّل الشطر الأكبر من أموال المنحة من الدولارات إلى الجنيهات المصرية .. فنصحت شيخ الأزهر بأن يصر على أن يبقى الشطر الآخر مجمدًا بالدولار لأن المكتبة تحتاج إلى أجهزة حديثة اقترحتها وبعثت بمواصفاتها إلى الخبراء المسئولين بمقر اليونسكو فى باريس لمساعدة الأزهر فى الحصول عليها.. ولكن يلزم دفع ثمنها بالعملة الأجنبية.
جاء مشروع مبنى دار الإفتاء المجاور بعد مشروع مبنى مكتبة الأزهر، ولكن لأن الشيخ طنطاوى مفتى الجمهورية أحل فوائد البنوك الربوية حسب طلبات مبارك وألف فى هذا كتابا كبيرًا تراجع فيه عن كل فتاويه السابقة بالمخالفة الصريحة لمبادئ الشريعة الإسلامية ، تسارعت الخطى فى إتمام مبنى دار الإفتاء على أحسن وجه.. ووضعت العراقيل أمام مبنى مكتبة الأزهر، فقد كان عاطف صدقى يماطل فى دفع مستحقات الشركة المنفّذة للمبنى "شركة عثمان أحمد عثمان" ويماطل وزيره للأشغال العمومية فى منح تصاريح توصيل المياه والكهرباء والمجارى..
عرفت هذه القصص بالتفصيل خلال جلسات لجنة المكتبة وخلال اتصالاتى الفردية مع أطراف أخرى داخل إدارة الأزهر وخارجها.. واقترحت على الأزهر دعوة وكيل الوزارة المسئول عن التصاريح لمناقشته فى لجنة المكتبة .. وبعد أن اطلعت على جميع المكاتبات بين الأزهر والوزارة ، طلبت من شيخ الأزهر أن يدعونى لمناقشة وكيل الوزارة أثناء انعقاد اللجنة.. وقد استجاب لطلبى .. وقد اتضح لى أن الوزارة قد تعاملت مع طلبات الأزهر باستخفاف شديد وأن وكيل الوزارة المسئول لا يعرف تفاصيل الموضوع بدقة وقد أصابه الارتباك من دقة أسئلتى الموجهة إليه .. فأظهر أريحية كبيرة وبدا أنه مقتنع بوجهة نظرى ووعد بالإسراع فى حل المشكلات وإصدار التراخيص اللازمة فى أسرع وقت..
توقفت صلتى بالموضوع عند هذه النقطة وسافرت إلى لندن مقر إقامتى فى ذلك الوقت .. ثم بلغنى خبر وفاة الشيخ جاد الحق رحمه الله.. وتعيين الشيخ طنطاوى فى مشيخة الأزهر فلم يطلبنى لمواصلة الاستشارة ولو طلبنى ما استجبت له ليأسى من توجّهاته وقدراته..
وإبراء للذمة أودعت نسخة من التقرير الخاص بتطوير وتنمية مكتبة الأزهر لدى صديقى الأستاذ فهمى هويدى.. على أمل أنه قد يستطيع أن يتواصل مع الشيخ طنطاوي إذا لزم الأمر.. وأذكر أن فهمى هويدى علّق على هذا الموقف ضحكا.. قال: يعنى أنت تتخلى عن المسئولية وتعلّقها فى رقبتى.. ؟! قلت له: لا حيلة لى فأنا مقيم خارج مصر وهذا الرجل لا أستسيغه ولا أمل عندى فيه.. ولا أستطيع التواصل مع هذا النوع المتقلب المطّاطيّ من الناس..
أعترف أن القصة التالية لم يذكرها لى الشيخ جاد الحق ولما عرفتها من مصادرها الموثوقة لم أراجع فيها الشيخ نظرًا لحساسيتها الخاصة .. وتجنبًا للحرج .. قال الراوي وهو أستاذ جامعي من المغضوب عليهم الآن ولست فى حل من ذكر اسمه:
" كان مبارك لا يزال تلميذا فى الثانوية العامة وكان أبوه كاتبا صغيرا فى المحكمة الشرعية التى كان يرأسها القاضى الشيخ جاد الحق على جاد الحق.. جاء حسنى مبارك إلى رئيسه مهموما فشكى له أنه يخشى على ابنه "محمد" من الرسوب فى اللغة العربية .. وأنه يحتاج إلى دروس خصوصية لا يقدر على تكاليفها.. فقال له الشيخ إبعثه إلي وأنا أساعده إن شاء الله.
وبعد ما يقرب من أسبوعين سأل الأب عن حال ابنه.. فقال له الشيخ: لا تبتئس فإن شاء الله سينجح فى اللغة العربية .. ولكن المشكلة عند ابنك أكبر من مشكلة اللغة .. إنه لا يصلح مطلقًا للكليات العلمية فقدراته الذهنية والتحصيلية لن تساعده على الالتحاق والدراسة فى هذه الكليات .. إنه يتمتع بلياقة بدنية واضحة فابحث له عن كلية عملية يستفيد فيها بمواهبه العضلية مثل التربية الرياضية او الشرطة أو شيء من هذا القبيل.."
لما أصبح مبارك رئيس جمهورية مصر بقدرة قادر جاء بالشيخ جاد الحق شيخًا للأزهر نظرًا للعلاقة السابقة .. و ظنًّا منه أنه سينبهر بمكانته ويكون طوع يمينه. ولكن الشيخ كان صُلبًا قوي الإيمان بدينه ومبادئه .. وهنا بدأ الصدام الخفيِ المكبوح ..!
أراد مبارك أن يستعرض إمكاناته الجديدة أمام الشيخ فى مؤتمر لرجال الدين ؛ فأقسم بالشمس والقمر والنجوم فى معرض خطابه للعلماء.. فمال عليه الشيخ وكان يجلس إلى جواره على المنصة وقال له بصوت منخفض: "لا يصح لك ولا لأي إنسان أن يقسم إلا بالله .. والله وحده هو الذى يقسم بما شاء من مخلوقاته.." قالها بصوت منخفض ولم يتنبّه إلى أن الميكرفونات مفتوحة .. فسمعها الجميع وانخرطوا فى الضحك..
حاول رجال مبارك أن يشتروا ذمة الشيخ فعرضوا عليه أن يتملّك قصرًا مجانيًّا كامل الفرش والتجهيز يليق بمقامه وسكنه بدلا من شقته المتواضعة فى روضة المنيل.. والتى كان يصعد إليها على قدميه أربعة طوابق لعدم وجود "أسانسير" بالعمارة.. ولكنه رفض العرض وفضل البقاء فى شقته رغم متاعب القلب وتواضع الأثاث؛ فلم يكن الشيخ يملك مكتبا ليجلس عليه ويقرأ أو يكتب سوى منضدة صغيرة فى ركن من غرفته.
وبالمقارنة قبِل خَلَفَهُ بثلاثة قصور له ولابنيه الاثنين ..
قصة محاولة تطويع الشيخ الصامد وصدوده وإعراضه ومتاعبه مع مبارك وزبانيته تحتاج إلى كتاب لتفصيلها .. نكتفى بهذا القدر .. ونترك القراء مع إحدى معاركه مع مبارك فى تحريم فوائد البنووك الربوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق