نصاري السيسي ونصاري مصر
وائل قنديل
كان أسوأ ما في مشاهد الحزن على فاجعة مقتل 21 مصرياً في سرت الليبية، في عملية إرهابية بشعة، أن يجري التعامل مع ضحايا هذه المجزرة باعتبارهم مواطنين يخصّون الكنيسة والرئاسة فقط.
من المفترض أن الكارثة أصابت مصر كلها، لا الاتحادية والكاتدرائية فقط، غير أن الجنرال والبطريرك قرّرا تحويل المأساة من موضوع إنساني مجتمعي إلى شأن طائفي وحسب، ما ألقى ظلالاً من الاستثمار السياسي الرخيص في الحدث الجلل، الأمر الذي دفع مراقبين ومهتمين بالشأن العام إلى التساؤل بامتعاض: هل مصر تتحمل مزيداً من الاستقطاب الطائفي والمجتمعي، حتى تأتي السلطتان، السياسية والكنسية، إلى إضافة المزيد؟
يعيد هذا المشهد البائس إلى الأذهان ذلك الاتفاق الصامت بين حسني مبارك والبطريرك السابق الأنبا شنودة، وبمقتضاه كانت شؤون المسيحيين العادية، التي يتشاركون فيها مع إخوتهم المسلمين، موكلة إلى رأس الكنيسة، بحيث كان سائداً في ذلك الوقت تعبير "شعب الكنيسة".
ارتاحت سلطة مبارك لهذا الأمر تماماً، إذ كانت تضمن الدعم السياسي الكامل من الكنيسة في كل ما يطرأ من شؤون خارجية وداخلية، في مقابل إفساح المجال لرأس الكنيسة لممارسة سلطة على المصريين المسيحيين، سلطة روحية وسياسية في آن معاً. وعلى ذلك، لم يكن مفاجئاً أن تقوم الكنيسة بدور بارز في محاولات السيطرة على دعوات الخروج للتظاهر ضد النظام في يناير/ كانون الثاني 2011.
جاءت ثورة يناير وكان أروع إنجازاتها أنها أعادت النصاري إلى السياسة، باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق في الدولة المصرية، لا رعايا للكنيسة، يخضعون لها سياسياً، حتى جاءت جريمة الاعتداء الإرهابي على متظاهري ماسبيرو على يد المجلس العسكري، فوقع ما يشبه انتكاسة سياسية للنصاري ردتهم مجدداً إلى حضن الكنيسة سياسياً.
فيما بعد، ومع بدء الانقلاب العسكري، وجدت تلك الصفقة الساكتة بين سلطة الكنيسة والنظام العسكري انتعاشاً غير عادي، دعمته تلك الحوادث الطائفية المصطنعة بمعرفة الأجهزة الأمنية، في إطار عمليات محاصرة الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وشاهدنا في أحداث فتنة قرية الخصوص ذروة الاستثمار الأمني للغضب النصراني، حيث تم تسيير تظاهرات من الكاتدرائية إلى وزارة الدفاع، تطلب من عبد الفتاح السيسي الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي.
إجمالاً، استخدم صانعو الانقلاب الورقة المسيحية بشكل كامل ومتواصل، قبل 30 يونيو/ حزيران 2013 وبعدها، في سياق صناعة الفزع والخوف، ورأينا، في مشهد الثالث من يوليو/ تموز صورة غير مسبوقة للعناق بين "السيف والعمامة والقلنسوة" تجسيداً لتحالف السلطتين العسكرية والدينية (ممثلة في الكنيسة والأزهر) للانقلاب على الديمقراطية، وإعادة مصر مجدداً إلى حدود ما قبل ثورة "التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية".
غير أن عبد الفتاح السيسي ذهب بتحالف الكنيسة والحكم إلى مسافة أبعد، حين قرر أن يزاحم الزعامة الكنسية على الجمهور النصراني، بتلك الحركات السينمائية التي يظهر بها في المناسبات والأعياد المسيحية، داخل الكاتدرائية، منافساً البطريرك على صيحات الإعجاب والتصفيق.
وكما لعب عبد الفتاح السيسي بالورقة النصرانية في الداخل، ها هو يلعب بها في الخارج، ولا يترك فاجعة ليبيا تمر من دون أن يستثمر المصيبة، في تدعيم أركان النسخة الليبية من انقلابه، ممثلة في شخص خليفة حفتر، حين ذهب، مرة أخرى، إلى الكاتدرائية، مكرساً ذلك البعد الطائفي في الوجيعة القومية، وقاصداً ابتزاز المشاعر المسيحية الملتهبة، وتوظيفها سياسياً، ولسان حاله يقول "أنا نصير النصاري"، بما يعطي إشارات سلبية بأن لسلطة الانقلاب الكارثية علاقات خاصة مع اانصاري، تتأسس على أرضية الطائفة، لا المواطنة، بما يحمّل مصر أعباء وأثماناً اجتماعية وسياسية باهظة، بعد انقشاع هذه السحابة السيسية السوداء، وهو واقع آتٍ، طال الزمان أم قصر.
إن الأداء في مجلس الأمن فضح الأهداف الحقيقية للدبلوماسية المصرية من وراء جريمة ذبح 21 مصرياً، إذ تتجاوز المطالب الانقلابية إعلان الحرب على "داعش" إلى الطلب صراحة القضاء على قوات "فجر ليبيا" التي تدافع عن ثورة 17 فبراير/ شباط حتى الآن، بما ينقل المسألة من الثأر لأرواح مصرية أزهقت إلى تنفيذ مؤامرة على ثورة ليبيا بالأساس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق