بعض عجائب الثورة في تونس
من عجيب أمرهم في تونس أنهم لا يزالون بعد مضي أربع سنوات على الثورة يتصارعون بالكلمات وليس باللكمات، كما ان شبابها لا يزالون يحلمون.
(1)
يوم 10 أيار-مايو الحالي كانت عناوين صحيفة «الصباح» كالتالي:
الاحتقان يبلغ أقصاه في «الفوار»
ــ اعتداءات على الأمنيين والصحافيين
ـ انسحاب الأمن كليا من المنطقة وتوجيه تعزيزات عسكرية.
جريدة «الشروق» تحدثت في عناوينها عن «حرق مركز الأمن ومواجهات بالرصاص والغاز»
ـ وفي اليوم التالي، تحدثت عن «عصيان مدني والحرس الحدودي والجيش يتدخلون».
وفي حين ظلت صحف الصباح تتحدث عن انتفاضة الجنوب ضد الفقر والتهميش،
فإن حوارات البرامج التلفزيونية المسائية كانت تحلل ما جرى وتحذر من تداعيات الغضب الشعبي الذي انفجر في الجنوب المهمل.
أما مواقع التواصل الاجتماعي فقد كان صوت الغضب فيها عاليا، لان الجنوبيين هم الذين كانوا يتحدثون بصورة مباشرة.
ومن الشعارات التي رفعوها على لافتات ذاعت صورها عبارات من قبيل:
«شغل ـ حرية ـ كرامة وطنية»،
«ثورتنا ليست إشاعة»،
«التشغيل استحقاق يا عصابة السراق».
كان ذلك أول ما صادفته يوم وصلت إلى العاصمة التونسية.
حاولت ان أفهم لانها كانت المرة الأولى التي سمعت فيها اسم مدينة «الفوار»، فقيل لي انها إحدى بلديات ولاية القبلي الجنوبية، وان عدد سكانها يبلغ نحو 20 ألف نسمة،وبرغم انها مقر عدد من الشركات البترولية، إلا أن سكانها يشكون من الإهمال ومن تفشي البطالة، ومطالبهم تتركز في كلمتين هما: الشغل والتنمية.
لم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة التي طفت على السطح، لان أزمة أخرى ليست أقل حدة لاحت في الأفق.
إذ إن الإضرابات العمالية أدت إلى وقف إنتاج الفوسفات (يسمونه الفسفاط) الذي يعتبرونه نفط تونس،وقد توسعت في إنتاجه حتى أصبحت الدولة الخامسة على مستوى العالم المنتجة له.
وكان العمال قد قللوا من إنتاجه، وهبــــطوا به إلى نسبة 30 في المئة عن معـــدلاته العادية (8 ملايين طن سنويا في المتوسط).
ولكنهم في بداية الشــهر الحالي أوقفوا الإنتاج تــــماما، لأول مرة منذ بدأ إنتاجه في ثلاثينيات القرن الماضي.
أضف إلى ما سبق أن السياحة في تونس التي تمثل موردا أساسيا لها تراجعت بعد الثورة، ثم أصيبت بانتكاسة بعد الهجوم الإرهابي على متحف «باردو» خلال شهر آذار-مارس الماضي، الذي أسفر عن قتل 22 شخصا بينهم 17 سائحا.
حينئذ ستدرك لماذا أصبح الاقتصاد يحتل رأس قائمة هموم تونس الجديدة.
(2)
إذ تبدو الأزمة عنوانا للشارع العادي، فإن المرء لا يكاد يرفع البصر عنها حتى يكتشف أنها عنوان للشارع السياسي أيضا.
وفي حين يعبر الشارع العادي عن أزمته من خلال التظاهرات أو الصدامات التي تحدث بين الحين والآخر، فإن أزمة الشارع السياسي تحولت إلى خبز يومي يطل على الفضاء التونسي صباح مساء.
صحيح ان الهاجس الأمني وعمليات المجموعات الإرهابية تلوح في الأفق طول الوقت، كما ان الانفلات الحاصل في الجارة ليبيا تحول إلى عنصر ضاغط على الاقتصاد والأمن لا يمكن تجاهله، خصوصا بعدما وصل عدد الليبيين النازحين إلى ما يزيد على مليون ونصف المليون شخص (كل سكان تونس بحدود 12 مليون نسمة)، إلا أن هذين الموضوعين (الإرهاب والليبيين النازحين) ليسا من عناوين الصراع، وان ظلا جزءا من الأزمة.
لا يستغرب الصراع السياسي في بلد محدود السكان دخل كل أهله في السياسة بعد ثورة 2011، وبعدما كان عدد أحزابه سبعة والسلطة فيه محتكرة قبل الثورة، فقد صار عدد الأحزاب 120،
وصارت فرصة تداول السلطة مفتوحة على مصارعها بعد الثورة.
وإذ يحسب للثورة انها استنفرت الجميع وأدخلتهم إلى حلبة السياسة، فإن الظاهرة الأهم ان صراع المتنافسين رغم شراسته ظل مدنيا وسلميا طول الوقت.
أعني ان القوى المدنية هي التي تنافست في ساحاته، في حين ظلت المؤسسة العسكرية والأمنية بعيدة عنه، فلم تنتصر لطرف ضد آخر، وإنما مضت تؤدي دورها في الحفاظ على القانون والنظام العام.
ولان الأمر كذلك، فإن أدوات الصراع ظلت في الحدود الآمنة.
ذلك انها احتفظت بطابع الاشتباك والحوار بالكلمات وليس باللكمات، على حد تعبير الرئيس السابق المنصف المرزوقي،
وبرغم ما تخللته من خشونة وتجاذبات وكيد، فلم تسقط فيه نقطة دم ولم تظهر فيه آيات القمع والقهر وذلك انجاز كبير لا ريب.
وإذا كان قد تم اغتيال اثنين من النشطاء الســـــياسيين إضافة إلى بعض الجنود في المناطــــق الحدودية، فــــقد عد ذلك استثناء ينســـب إلى الجماعات الإرهابية الخارجة على القانون وليـــس إلى القوى السياسية المعترف بشـــرعيتها.
هذه المعاني التي يختزنها الوافد إلى تونس، ويحسد عليها التوانسة في سره، تكاد تتوه وتطمس حين يجد المرء نفسه واقفا وسط أنواء الشارع السياسي، ومستدرجا إلى الدخول في التفاصيل التي تشكل طنينا يصم الآذان وتملأ أصداؤه الأفق.
(3)
الصراع الحاصل تدور رحاه في ثلاثة فضاءات:
الأول يتمثل في الشارع الذي تحركه النقابات بالدرجة الأولى،
الثاني مجلس النواب الذي تمثل فيه الأحزاب ويتمتع فيه بحضور قوي حزبا «نداء تونس» (86 مقعدا) و «حركة النهضة» (69 مقعدا).
الفضاء الثالث الأكبر والأخطر تمثله وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة.
لذلك، فإنها تعد مرآة عاكسة لموضوعات الصراع ولأطرافه. وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى تحرير.
ذلك ان الباحث حين يتابع أداء الإعلام التونسي، لا يستطيع أن يتجاهل انه بات يمثل القوة الضاربة التي يجري الرهان عليها في محاولات حسم الصراع.
مع ملاحظة ان ذلك الصراع تشارك فيه أطراف عدة، فعناصر النظام القديم لا تزال حاضرة، ممثلة على الأقل في عناصر حزب «التجمع الدستوري» الذي جرى حله بحكم القضاء بعد الثورة، باعتباره ينتمي إلى النظام السابق.
وهذه العــــناصر لديها رصيدها من الخبرة والامكانيات المادية، التي جعلته يمثل الطرف الأساسي والفاعل في حزب «نــــداء تونس» الذي جرى تشكيله بقيادة قايد السبـــــسي وفاز بأغلبية الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
والتجمعيون هؤلاء يحملون إرث وتطلعات النظام السابق الــــذي لا يزال يسعى لاسترداد مواقعه.
ولان تشـــكيلة نداء تونـــــس ضمت إلى جانب هؤلاء بعض قوى اليسار إضافة إلى شخصيات وطنية مستقلة، فقد كـــــان لكل طرف هدفه من الانخراط في التحالف، وان التقى الجــميع على عاملين،
أولهما مخاصمة حركة «النهضة» ومحاولة اقصائها بعد فوزها بالغالبية في أول انتخابات بعد الثورة (2011).
الأمر الثاني هو شخصية القايد السبسي الذي طرح صــــيغة جامعة لإقامة الحزب جذبت تلك العناصر.
ولان حركة «النهضة» احتلت المركز الـــــثاني في عدد المقاعد التي فازت بها في الانتخابات الأخيرة (69 مقــــعدا)، فلم يكن بمقدور حزب «نداء تــــونس» ان يحكم من دون التوصل إلى تفاهم مع قيادة «النهضة».
إزاء ذلك، فإذا كان الشارع العادي مشغولا بالتنمية وتفاقم البطالة وتردى الخدمات العامة، فإن المعركة الأساسية للشارع السياسي ظلت تدور حول العلاقة مع حركة «النهضة»، التي تحالف فيها اليسار مع غلاة العلمانيين وأركان النظام السابق.
وانحاز ممثلو اليسار إلى فكرة المخاصمة والإقصاء الكلي، في حين رفض الآخرون مبدأ المشاركة أو التفاهم معها اقتناعا بعدم امكانية أو جدوى الاقصاء.
اللافت للنظر في هذا الصدد ان الأطراف الخارجية تدخلت في ذلك الصراع من أبواب مختلفة، وهو ما كشفت عنه الممارسة خلال السنتين الأخيرتين بوجه أخص.
وفيما فهمت من المطلعين على كواليس اللعبة السياسية، فإن دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة شجعت وأيدت مشاركة حركة «النهضة» في السلطة، ولم تحبذ انفرادها بتولي السلطة.
وكانت ألمانيا أكثر الدول التي عبرت عن ذلك الاتجاه.
أما فرنسا فكانت أقلها حماسا للمشاركة في السلطة، وبدت أكثر ميلا لإقصائها من المشهد السياسي، وان لم تعلن ذلك صراحة.
وفى حين كانت رسائل تلك الدول سياسية بالدرجة الأولى، فإن دولة الإمارات العربية ألقت بثقل مادي وتمويلي كبير لإقصاء «النهضة».
وبشهادة العاملين في المجال الإعلامي، فإنها ضخَّت ملايين الدولارات لشراء تأييد بعض القنوات التلفزيونية والصحف والشخصيات العامة،كما انها قدمت إغراءات مماثلة لرجال الأعمال النافذين الذين أصبحوا يؤدون أدوارا سياسية من خلال ملكية وسائل الإعلام، فضلا عن بعض النوادي الرياضية.
ويمتلئ الشارع السياسي بحكايات حول الدور التمويلي للإمارات الذي استهدف إقصاء الإسلام السياسي.
هم يستشهدون مثلا بإحدى القنوات كانت على وشك الإفلاس ثم تلقت تمويلا مكّنها فجأة من امتلاك 4 قنوات.
يتحدثون أيضا عن عرض تفصيلي قدمه مبعوث خليجي على رئيس إحدى القنوات حدد فيه المبالغ المقترحة مقابل كل انجاز يتحقق، ليس فقط في الساحة التونسية ولكن أيضا في تغطية الصراع الحاصل في ليبيا.
(4)
يعود المرء من تونس وفي جعبته الكثير من التفاصيل المتعلقة بالصراعات الحاصلة هناك، بدءا بتصفية حسابات وأوضاع النظام القديم، وانتهاء بمحاولة القفز فوق الألغام والأشـــــواك التي تعترض طريق إقامة النظام الجديد، ومرورا بمظاهر غضب وقلق شباب الثورة الذين أزعجهم فوز «نداء تونس»،
وأقلقهم تفاهم حركة «النهضة» مع الرئيس الســــبسي، وتخوفهم من حملات الإرهابيين التي تفاجئهم من صحاري الشـــرق وجبال الغرب. كما أنهم يتوجسون من زحف الثورة المضادة التي تحاول حصار ثورتهم وإجــــهاضها.
لأول وهلة، تبدو صورة التجربة التونسية من الخارج أفضل منها في الداخل.
وهو ما لاحظته حين تحدثت إلى بعض الشباب الذين قلت لهم ان الثورة التونسية هي الوحيدة التي نجت من إعصار الثورة المضادة بحيث لم تفقد وهجها وحلمها إلى الآن، بعكس تجارب أخرى انطفأ فيها الوهج وتحول الحلم إلى كابوس. لكن استغراقهم في التفاصيل وتعلقهم بالحلم جعلهم يتعجلون الثمار. ولا يرون في الكأس إلا نصفها الفارغ وفي التجربة إلا ما شابها من قصور وتعثر أو اخفاق.
نصيحتي التي كررتها لهم في كل مناسبة، كانت دعوة ملحة لقراءة خبرة الثورات الشعبية على مر التاريخ، التي مرت جميعها بأكثر وأفدح مما مروا به،
وكان الثمن الذي دفعته للانتقال إلى الديموقراطية باهظا، وصل إلى الحروب الأهلية في بعض الأحيان.
وبرغم تحفظاتي على انتقاداتهم، إلا أنني لم أخف اعجابا بهم، على الأقل لأنهم لا يزالون يأملون ويحلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق