السبت، 16 مايو 2015

هل انفجر معسكر الثورة الليبية ؟

هل انفجر معسكر الثورة الليبية ؟



شريف عبدالعزيز
بعد شهور من الصراع الدموي والذي انتهى بإسقاط نظام القذافي بدعم دولي لإنهائه منذ ثلاث سنوات، انقسم الداخل الليبي بعد فترة فوضى عارمة لقسمين مباشرين:
قسم الدولة (المفترضة) بحكومتها الانتقالية وتمثيلها الدبلوماسي وتحالفاتها الداخلية القبلية والدولية، وقسم الجماعات المسلحة التي لا يجمعها ضابط من أي نوع وتعمل وفقًا لأهداف وغايات مختلفة.

الجماعات المسلحة خارج سيطرة الدولة تمامًا وتحكم فعليًا مناطق صراع بسيطرة تامة منها في ليبيا، وهي نفسها منقسمة لثلاثة أنواع : أولها الجماعات المكانية التي تتبع لمدينة ما أو قبيلة ما، ثانيها الجماعات الفكرية والتي تنطلق من خلفية عقائدية أو أيديولوجية معينة، وثالثها البرجماتية بنسبة أقل تتبع أشخاصًا معينين لهم نفوذ داخلي في ليبيا.

هذا التقسيم أسفر عن وجود 23 كيانًا مسلحًا في ليبيا، منهم أحد عشر كيانًا مع المؤتمر الوطني العام (حكومة طرابلس) والذي يمثل معسكر الثورة الليبية ، أهمهم (قوات فجر ليبيا/ تنظيم أنصار الشريعة/ ثوار مصراتة/ كتيبة الفاروق/ مجلس شورى ثوار بني غازي)، ومن هؤلاء من لا يدعم المؤتمر الوطني العام (كتنظيم أنصار الشريعة مثلًا) ولكنه يقاتل قوات حفتر، واثنا عشر كيانًا مع مجلس النواب بمدينة طبرق والذي يمثل معسكر الانقلاب والثورة المضادة ، وفيها رئيس الوزراء الليبي المعترف به دوليًا (عبد الله الثني) وهي التي فيها قوات رئاسة الأركان التي يدعمها (خليفة حفتر)، قائد الانقلاب على شرعية ما بعد الثورة، والذي يدعمه النظام المصري والاماراتي بشكل مباشر.لكن السيطرة الأكبر على موارد البلاد ومقراتها ومدنها للمؤتمر الوطني العام ، بينما تتمركز حكومة الثني في أقصى شرق ليبيا في (طبرق)، المؤتمر الوطني العام يسيطر بلا اعتراف دولي، وتحالف الثني يقاتل باعتراف دولي ودعم من الجارة الأهم مصر.

معنى ذلك أن في ليبيا الآن حكومتين منفصلتين،وجيشين منفصلين،وشرعيتين منفصلتين: إحداهما (حكومة المؤتمر الوطني العام) بقيادة عمر الحاسي، وذراعه العسكري قوات فجر ليبيا ، وأخرى وهي (حكومة البيضاء) بقيادة عبد الله الثني بطبرق ،وذراعه العسكري فلول جيش القذافي بقيادة حفتر الأمريكاني ، وهذا الوضع الممزدوج شديد الالتباس ، يدفع بلا شك في اتجاه تقسيم ليبيا وبدء عهد الدويلات .

معسكر الثورة الليبية ممثلا في جناحه السياسي والعسكري استطاع حتى وقت قريب أن يجهض كل محاولات الانقضاض على مكتسبات الثورة واستنساخ التجربة السيساوية في مصر ، فالمعسكر يسيطر ميدانيا على معظم التراب الليبي ، في حين فشل حفتر وداعموه من عرب وصهاينة في حلحلة الوضع الميداني حتى بعد التدخل العسكري المباشر من قبل مصر والامارات ، ومكتساب حفتر بعد أكثر من عام من القتال ومليارات الدولارات هي قبض الريح ، لذلك كان اللجوء لمصيدة المفاوضات وتفاصيلها المملة وجولاتها العقمية خير حل لالتقاط الفاشل لأنفاسه ،بعد خسائره الكثيرة ، وفشله الذريع، والأهم من ذلك ؛ إعداد خطط بديلة للانقضاض على الثورة الليبية مرة أخرى .

مسار هذه المفاوضات يؤكد على الهدف الحقيقي من ورائها ، فبعد 6 أشهر حوار بين فرقاء ليبيا ، النتيجة صفر كبير ، فلا جديد ألبتة ، فالقتال والانقسام لازال يخيم على الجميع، رغم الدعوات الأممية المطالبة باستمرار جلسات التفاوض . فمن دولة إلى أخرى ومن حوار إلى نظيره، والأزمة الليبية اقتربت من عامها الأول،والحوار الليبي- الليبي بدأ مشوارًا طويلاً من التفاوضات، فكانت البداية في غدامس برعاية أممية نهاية شهر أكتوبر لعام 2014، أعقبه تفاوضات في السودان والجزائر وجنيف الأولى والثانية والجزائر ثم المغرب وصولاً إلى الجزائر ، ولا حل يلوح في الأفق لأن هذا هو المطلوب فعليا من هذه المفاوضات .لأن المستفيد الأول من مدّ أجل المفاوضات وتعقيدها وتطويل أمدها هو قائد الانقلاب الجنرال حفتر الأمريكاني وداعموه.

وعلى ما يبدو أن هذا التأجيل والإفشال للمسار التفاوضي قد أفسح المجال أمام أعداء الثورة الليبية إلى التسلل إلى داخل معسكر الثورة ، وبث بذور الفرقة ، والتحريش بين مكونات الثورة ، من أجل تفجير هذا المعسكر الباسل الذي وقف سدا منيعا أمام طموحات الثورة المضادة لحفتر وداعميه من عرب وصهاينة .

يشهد معسكر فجر ليبيا هذه الأيام انشقاقات كبيرة وخطيرة ، خاصة داخل مدينة مصراتة المعروفة بولائها القوي للثورة، كما تسود حالة من القلق بين الثوار في أغلب مدن المنطقة الغربية ، بعد تصريحات وخطوات متسارعة يقودها تيار ليبرالي داخل مدينة مصراتة تتزعمه شخصيات عدة؛ منها فوزي عبدالعال عضو المجلس الانتقالي إبان الثورة والذي يعمل الآن سفيرا لليبيا في دولة البحرين، و سالم جحا القائد العسكري السابق لكتائب مصراتة والملحق العسكري في دولة الإمارات ، بالإضافة إلى شخصيات سياسية واقتصادية أخرى منها جمعة اعتيقة النائب السابق لرئيس المؤتمر، وأحمد معيتيق المليونير الليبي، والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، بالإضافة إلى شخصيات بارزة في المجلس البلدي لمدينة مصراتة.

كل هذه الشخصيات لها نفوذ قوي على كتائب الثوار داخل مصراتة وخارجها، وبدأ يظهر دورها البارز في محاولة فك الارتباط بين ثوار المنطقة الغربية والتيار الإسلامي ، بدعوى أن كل النتائج التي ترتبت عن عملية فجر ليبيا يجني ثمارها التيار الإسلامي سواء داخل أو خارج المؤتمر الوطني؛ إذ يتهم هذا التيار الجماعة الليبية المقاتلة التي يقودها عبدالحكيم بلحاج بالاستحواذ على القرار في المؤتمر الوطني، مع عبدالرحمن السويحلي، والذي لديه خصومات كبيرة مع شخصيات مصراتية مؤثرة مثل حسن الأمين وجمعة عتيقة . كما يستدل هذا التيار الليبرالي على نفوذ الإسلاميين بتكليف المؤتمر لعمر الحاسي المحسوب على تيار الثورة الإسلامي، برئاسة الحكومة، وما قدمه من دعم لكتائب معينة في الزاوية وبنغازي، عرفت بعلاقتها بالتيار الإسلامي .

هذا التنافس الليبرالي الإسلامي واقع منذ عدة شهور ، ولم يستطع حفتر الإفادة منه بسبب كراهيته الفريقين له ، ورفضهم لوجوده في المشهد ألبتة ، ولكن المشكلة بدأت في التفاقم بعد ظهور تنظيم داعش في ليبيا ، إذ حاول التيار الليبرالي الاستفادة من وجوده في الانفصال عن التيار الإسلامي ، والظهور ككيان منفرد مستقل يأخذ قراراته بنفسه ، والبحث عن تحقيق مكاسب للمدينة " مصراتة " والتيار ، بعضها إقليمي ودولي، من خلال محاصرة مدينة سرت التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وتسويق المدينة كشريك حقيقي يعتمد عليه دولياً في الحرب على الإرهاب .
وبعضها محلي، كدخول قوات مصراتة في تفاهمات مع قوات إبراهيم جضران، وقبيلة المغاربة وإيقاف عملية الشروق، التي كانت تهدف إلى استعادة السيطرة على الموانئ النفطية، دون إذن من رئاسة الأركان أو المؤتمر الوطني، الذي كان دوره في الحقيقة هو إعطاء الشرعية لهذه العملية ودعمها مادياً بعشرات، بعد أن بدأتها كتائب من مصراتة دون تنسيق مع المؤتمر الوطني. كما دخلت كتائب المدينة في الجنوب في هدنة مع قبيلة المقارحة في المدة الماضية بعد اشتباكات عنيفة شهدتها منطقة براك الشاطئ بين القوة الثالثة المكلفة من المؤتمر بحماية الجنوب وكتائب قبلية تريد إخراج هذه القوة من المنطقة، وهذا التفاهم كذلك تم دون استشارة السلطات أو إخطارها بذلك.

مصراتة التي لعبت دور درع الثورة وشرطيها تحت قيادة التيار الليبرالي الذي أصبح مهيمنا على القرار فيها يريد رسم صورة جديدة للمدينة، بعيداً عن الصورة السابقة التي عرفت بها مصراتة كنقطة مقاومة إسلامية قوية ، ويبدو أن المال الاماراتي حضر إلى هذه المدينة بقوة ، فقد شهدت المدينة في الشهور الماضية تحولا اقتصاديا ورواجا تجاريا لافتا بعد فترة كساد طويلة ، ولعل من أبرز التداعيات لهذه الرؤية الجديدة قيام بعض النشطاء الليبراليين في مصراتة بإزالة منصة ساحة الشهداء بالمدينة التي كانت تشهد طوال الثمانية أشهر الماضية مظاهرات حاشدة تأييداً لعملية فجر ليبيا وللمؤتمر الوطني ورفضاً لمسودة ليون الأخيرة. والأخطر كان على المستوى العسكري ، فقد وصل الأمر إلى مماطلة بعض قيادات المحاور العسكرية المحسوبة على مصراتة، في تنفيذ القرارات العسكرية الصادرة من رئاسة قوات فجر ليبيا ، وتأجيل الحسم في قاعدة الوطية العسكرية التي تشهد معارك طاحنة منذ عدة أشهر، وذلك لمنع معسكر الثورة ممثلا في المؤتمر الوطني من الحصول على نصر جديد قد يعزز موقفه التفاوضي. وفي نفس الوقت لا يأول تنظيم الدولة جهدا في مفاقمة الأزمة بشن العديد من الهجمات والعمليات التفجيرية داخل مصراتة مما زاد من الحنق على التيار الإسلامي والرغبة في فك الارتباط معه .

لاشك أن كل هذه الأحداث الجارية والصراع بين رفقاء السلاح ، وشركاء الثورة ، يقود الثورة الليبية إلى المشهد المصري الكئيب والذي كانت البداية فيه السماح لفلول مبارك بشق صف الثورة وتقسيمها أيديولوجيا وفكريا والتي أدت في النهاية لمشهد 3 يوليو وما تلاه من مجازر مروعة .
 ومحاولات مصراتة اليوم الانفصال والاستقلال عن باقي معسكر الثورة لأسباب أيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية لن يصب إلا في صالح معسكر حفتر الأمريكاني وداعميه ، والذي ما زال يرى في مصراتة تحديدا أكبر عدو له .
 فهل يعي هؤلاء الباحثون عن الاستقلال ، بأن استقلالهم ما هو إلا بداية الوهن وذهاب الريح ؟ وهل يتعظون بدروس التاريخ البعيد والقريب بمآلات الكيانات المنشطرة ، كيف كانت ؟ ثم كيف أصبحت ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق