الحذاء المنسي في بطن مصر
الحذاء المنسي في بطن مصر
وائل قنديل
التقيته بالصدفة في مطار عاصمة أوروبية، طبيب مصري مرموق، تصافحنا، وسألني: إلى أين ذاهبون؟
قلت: من أين أتيت، فقال إنه قادم من القاهرة، فباغتّه: إذن الإجابة عندك.
تحدث الرجل عن أن الحياة تسير، غير أنها الحركة باتجاه الانفجار، ثم راح يشرح بلغة الطب: كأنهم فتحوا بطن مريض، لإجراء جراحة، فوجدوا فردة حذاء، لم يستطيعوا التصرف فيها، فأغلقوا الجرح، وقالوا للمريض أنت بخير. وصدّق المريض أنه على ما يرام، كما صدّق الأطباء الذين أغلقوا بطنه على الحذاء أنهم مبدعون، وناجحون، وصدّق المحيطون بالمريض أنه شفي، وأن معالجيه نوابغ.
أضاف: لا أحد يريد أن يعترف بأن كارثة في الطريق، ولا أحد يعرف متى ينفجر بطن المريض، الذي هو، بمعيار علمي، ميت على قيد الحياة.
استوقفني التشبيه، وعلى فظاعته، إلا أنه يعبر بصدق عن حالة الهلوسة والانفصام التي ترفل فيها مصر، نظاماً سياسياً، وجمهوراً لا يريد أن يرى إلا كما يرى ذلك المريض البائس.
كلما تحرك الحذاء، ضاغطاً على الأمعاء، صرخ المريض "تحيا مصر"، كي يهرب من الوجع، وليواصل إقناع المحيطين به بأنه في أتم صحة وأفضل حال. وإن كانت مريضة فليس من المستبعد أن تفسر هذا الانضغاط بأن جنيناً يتحرك في أحشائها، بفضل علاج هذا الطبيب المعجزة.
لا يزالون يمثلون أدوار السعداء في مقبرة عبد الفتاح السيسي المظلمة، يتخبّطون من فشل إلى فشل، ويهبطون إلى الحضيض، غير أنهم يحتفلون بالوصول إلى القمة. كل الذي وعدهم به قائد المقبرة تبخر. ومع ذلك، لا يريدون أن يحرموا أنفسهم من راحة التعايش مع الحذاء المخفي داخل البطن. اعتادوا عليه، حتى يظن أكثرهم أن حياتهم ستنتهي، لو أخرجوه من جوفهم، صار أشبه بتميمة أو حجاب، زرعه مشعوذ محترف في وعيهم، فباتوا لا يتصوّرون الحياة من دونه.
وفي طقسٍ من هذا النوع، لا تتوقف الهلوسة على الزعيم وجمهوره، بل تطاول بعضاً ممن لا يزالون يطلقون على أنفسهم النخبة أو المعارضة، فيروج أحدهم، مثلاً، أنه سيخوض انتخابات برلمان السيسي، كي يناضل من أجل ثورة يناير. أو أن يتألق أكثر، ويقول إنه كان كتفاً بكتف، ويداً بيد، مع المعتصمين، فوق منصة رابعة العدوية، دفاعاً عما يطلق عليها "ثورة 30 يونيو".
هذا بالضبط هو منطق المطمئن على صحته وعافيته، ما دامت فردة الحذاء قابعة في البطن، أو في الوعي، لا فرق، لا يضاهيه، في لا معقوليته، سوى أن يقول أحد إنه يطور أبحاث الفضاء الإسرائيلية، أو يفني عمره في تحديث البرنامج النووي الإسرائيلي وتطويره، من أجل الانتصار لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني.
كل يوم يمر على مصر، يكشف أنها تسبح في بحيرة من الأوهام والضلالات، غير أن أحداً من السابحين لا يريد الخروج، ولا يفضل الوصول إلى شاطئ، بعضهم من باب "العزة بالإثم"، وآخرون يفضلون الاستقرار في القاع على مخاطرة الاقتراب من السطح. لذا، يبدو وكأنهم قد توافقوا على الدفاع عن بقاء "الحذاء" في جوفهم، خشية المجهول.
يكفيهم أن يحدثهم الطبيب/ الدجال عن "الأمل والعمل"، فيواصلون الغوص في المستنقع، حتى وإن ارتطمت رؤوسهم بحجارة الوهم، وتطايرت أمامهم الوعود الكاذبة، واحداً تلو الآخر.
كانوا يبررون انضمامهم لمعسكر الثورة المضادة، بقيادة الجنرالات، بالخوف على ضياع هوية مصر، والسؤال الآن لفيالق الدفاع عن الهوية: هل يستطيع أحد منكم أن يقدم تعريفاً جامعاً مانعاً للحالة المصرية الآن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق