الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

"قصة حياة " .. الجزء الأخير ...

اقرأ وصف الشيخ محمد الغزالي عن هزيمة العلمانيين الساحقة عام٦٢وكيف حولوه بالكذب إلي نصر ساحقكما فعلوا في حرب٥٦

مذكرات الشيخ محمد الغزالي ...
"قصة حياة " .. الجزء الأخير ...

• مع الاتحاد الاشتراكي•
على أية حال، إننا نحن المسلمين نتبع ديناً واضح المحجة ، منير النهج ، وقد أبحث لنفسي ، وأنا في مصر ، أن أدخل فيما يسمَّى الاتحاد الاشتراكي ، وقررت عن طريقه أن أحاول خدمة الإسلام ونشر الدعوة .

لقد كان أستاذي حسن البنا يقول : أنا لا أخاف العمل مع الشيطان ، فلنُسِر معاً ، وسنرى من يفرّ من صاحبه!

إنني سأدخل هذه الهيئة ، وسأرى هل سأنتصر بالإسلام أم لا؟ وكان معي شيخ حَمَنُ الدين كثير الدعابة، نتعاون معاً على صنع النكتة ، إذا حَزَ بنا أمر ، أو أردنا التنفيس عن متاعبنا، قال لي يوما : أجز هذا البيت :

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما * يروح إلى اتحاد الشر كفينا!

فقلت:
فيهتف للزعيم هتاف عبد * يخاف السجن أو يخشى المنونا!

واستغرقنا في الضحك، ماذا نصنع؟ إن الفكاهة تريح الأعصاب أحياناً...

ودخلت الاتحاد الاشتراكي ، وكانت تجربة شاقة ، لا عهد لي بمثلها ، فهناك لجنة أساسية ينتخب الجمهور أعضاءها بطريق القوائم في كل وزارة ، أو حيّ ، أو مصنع... إلخ؛ ثم يجتمع مندوبو اللجان الأساسية في كل قسم لينتخبوا لجنة القسم أو المركز، ثم يجتمع مندوبو المراكز أو الأقسام لينتخبوا لجنة المحافظة، ثم تجتمع لجان المحافظات لتختار ضعف الأعضاء المطلوبين للجنة المركزية ، فيُختار نصفهم لعضوية اللجنة المركزية ، ومن اللجنة المركزية تكون اللجنة التنفيذية التي تدير شؤون الدولة تقريباً ، لأن الوزراء منها، أو خاضعون لها...

ومن السهل إدراك أن هذا التنظيم صورة لتنظيم الحزب الشيوعي في أي بلد اشتراكي، فالقمة تصنع القاعدة أكثر مما تصنع القاعدة القمة...!

وقد رأيت أني في المركز أشاهد أناساً لا أدري كيف نبتوا، فلا يكاد يعرفهم أحد!
يمشون معنا ليصلوا بقدرة قادر إلى مستوى المحافظة ، ثم يتم تصعيدهم إلى اللجنة المركزية، بطريق الاختيار الصريح من أعلى!

وشاء الله أن أصعد في هذه لدرجات مستوى بعد مستوى ، حتى بلغت اللجنة المركزية، فاختار المسؤولون أسماء ارتضوها، ورُدَّ اسمي لأنه لا يوثق به!
قلت: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!

وأخذت أعمل مكاني ، أحاول خدمة ديني... كان الجو موبوءاً، فالشيوعيون رتبوا صفوفهم لقيادة البلد ، وغيرهم بين متملق يتسكع على أبواب الرؤساء ، أو أناني لا تحركه إلا مآربه المكشوفة؛ وإذا جاء وقت صلاة فما يتحرك إلا قليل .

والفكر الإسلامي غريب، واتخاذه شعاراً أغرب، والقضايا تهبط من فوق لتلقى التأييد، والشيطان يذرع الساحة كلها جيئة وذهاباً .

وأذكر أننا في أحد المؤتمرات، سمعت المقرر يعلن باسمنا أننا قررنا تعديل قوانين الأحوال الشخصية!

فنهضت من مكاني صائحاً : هذا غير صحيح ، لم نقرر شيئاً من هذا ، هذا افتعال لا أصل له...

وتواثب الحراس من حولي يشدونني لأجلس ، ولما لم يقم أحد معي يرفض هذا الزيف؛ صحت : أنا منسحب من المؤتمر ، وخرجت عائداً إلى بيتي...!

ويظهر أن هذا الموقف كان له بعض الأثر، فقد أعيد تنظيم لجنة الأسرة، ووضعت فيها، وكان معنا الدكتور محمد عبد الله ماضي وكيل الأزهر يوم ذاك، وأمكن حجز الشر إلى حين...

لقد لامني بعض الصالحين على قبول عضوية الاتحاد الاشتراكي! والعمل في هذا الوسط الرديء، فقلت له: أنبقى مكتوفي الأيدي والغير يصنع القرارات ، ويفاجئنا بما يهوى؟ إن السلبية لا تفيد!

قال: وماذا صنعت أنت؟ قلت: أنا وحدي لا أعني ، إن الجبن في هذه التنظيمات هو سيد الأخلاق! عندما وقفت أعترض المقرر، كان جاري الأيمن وكيل وزارة ، والجار الأيسر من كبار الشيوخ في الأزهر ، ومع ذلك فإن كليهما فزع ، وكأنه لعن الظروف التي قاربته مني ، إنهما يفقدان شجاعة الإيمان ، وقد فهمت لماذا كان حسن البنا حريصاً على"التربية الدينية الصحيحة"؟

وذكرت أني مسؤول كبير في أجهزة الدعوة ، وأني من بضع سنين أخطب الجمعة في الأزهر، فقررت مضاعفة الجهد ، وفتق الحيل لعلم إسلامي مثمر، وقلت: تستعد شعبياً لعودة أشمل وأسرع إلى الإسلام...

وعرفت أن مؤتمراً كبيراً سوف ينعقد لمراجعة إقرار "الميثاق الوطني" الذي ستمضي البلاد على ضوئه في السنوات القادمة !!

إنني هنا أروي قصة حياتي، ولست أؤرخ للأحداث الهائلة التي تعرضت لها مصر ، عندما هاجمتها إسرائيل وفرنسا وإنجلترا ، ولا مولد الاتحاد بين مصر وسوريا ووفاة هذا الاتحاد ، ولا الأهوال التي غَشِيَتْ المحبوسين والمعتقلين من جماعة الإخوان المسلمين ، ولا الهمَّات التي صدّعت الكيان الإسلامي في القاهرة – العاصمة الثقافية للمسلمين – وأخّرت ، ولا أقول، أماتت الدور التاريخي الذي تقوم به في خدمة الإسلام ولمّ فلوله .

إنني أمُرّ بهذه الأحداث كما يمر راكب القطار بمعالم الطريق ، واقف وقفة طويلة عندما يكون الحديث ذا شجون.

انعقد المؤتمر الكبير ، وافتتحه الرئيس جمال عبد الناصر ، وكان يعاونه السيد كمال الدين حسين ، وينوب عنه في غيابه ، وكان الأمين العام السيد أنور السادات.

وبعد الأعمال التمهيدية أخذ الأعضاء يسجلون أسماءهم طالبين التحدث إلى الحضور ليشرحوا وجهات نظرهم ، وكنت من أوائل الذين طلبوا الكلمة ، وقد حددت موضوعي بأناة ، وقررت البعد عن التحدِّي والإسهاب...!

قلت :
( أيها الأخوة، إن الشعار الذي رفعناه هو تحرير الوطن والمواطن، فهل يتحقق هذا الشعار إذا أخرجنا الإنجليز من أرضنا وبقيت قوانينهم ، وتقاليدهم ، ولغتهم تحتلّ مجتمعنا وتسيّره؟ فيم كان الجهاد إذن؟ إذا كانت تبعيَّتُنا لهم ظاهرة ، وولاؤنا لمخالَّفاتهم قائما؟

إن التحرير الحق هو أن نحيي تراثنا ، ونقدِّم لغتنا وأدبنا ، وننفِّذ شريعتنا ، وننبذ هذه القوانين التي وضعها المستعمرون لنا ، وسلخونا بها عن ديننا وتاريخنا .

ولننظر إلى مصلحتنا الاجتماعية موازنين بين الربح والخسارة! آلاف من جرائم القتل تقع ، والذين يعاقبون بالإعدام نفر قليل ، ويحكم على الأكثرين بالسجن ، ثم تمر الأعوام ، ويخرج السجين القاتل ، ويرى الإنسان قاتل أبيه أو أخيه في الطريق فيقتله أخذً بالثأر!

أيكفي في علاج هذه الحال تكليف بعض الوعاظ بمحاربة عادة الأخذ بالثأر؟ ما الذي يمنع من القصاص الذي كتبه الله لصيانة الحياة وتحقيق العدالة؟ فنرضى ربنا، ونحصِّن مجتمعنا...!

وإني واحد من الذين يأبَون قبل جائع يسرق ليقوت نفسه أو أهله ، والشريعة يستحيل أن تقطع هؤلاء البائسين ؛ لكن إذا وجدنا من يسرق مثنى وثلاث ورباع ليعربد ، وينفق عن سفه ذات اليمين وذات الشمال ، كيف نتركه؟ لماذا لا نحمي الكسب الحلال من عدوان أولئك المجرمين؟ إن يداً واحدة تقطع ستقضي على العصابات التي احترفت اللصوصية!) أ.هـ

ومضيت في شرح الحقائق الإسلامية الضائعة ، مطالباً بعودة المجتمع إليها.
وبعد ربع ساعة تكلمت عن "الملابس" في أقل من ثلاث دقائق مطالباً بتوحيد الزيِّ للرجال ، وتوحيده كذلك للنساء خصوصاً الطالبات .

ووضعتُ مواصفات سهلة : أن يكون رخيص السعر، وأن يكون من الإنتاج الوطني ، وأن يلبسه الرئيس والوزراء ، ويعد اللباس "الرسمي" في كل ديوان أو حفل!

وبالنسبة للنساء يكون ساتراً للجسم كله ما عدا الوجه والكفين ، قلت: ولعل أقرب مثل له زيُّ الراهبات المسيحيات أو الفلاحات المصريات...!

وكنت في حديثي سهل العبارة ، متَودِّداً إلى الجمع الذي يزيد على الأقل، وكنت قبل الحديث قد دعوت الله أن يلهمني الرشد ، وأن يفتح لي القلوب...!

ويظهر أن الله استجاب لي، فإن كلمتي – وإن عدّها البعض شرحاً ماكراً لدعوة الإخوان المسلمين - بلغت أعماق النفوس، ولقيت ترحاباً واضحاً وتصفيقاً شديداً .

وكان بين أعضاء المؤتمر سبعون شيوعياً ، أفزعهم هذا الجو الإسلامي ، وزاد من ضيقهم أن جماعات ضخمة كانت تردي !- هكذا في الأصل - الصلوات في الأوقات ، وتتحدث عن ضرورة التمسك بالإسلام .

وقد اتفقت كلمتهم على توجيه ضربة سيئة لي توقف نشاطي، فأوعزوا إلى الرسام الهزلي "صلاح جاهين" ألا يدع الكلمة التي ألقيتها تمرّ دون تعليق ساخر يفقدها قيمتها!

وظهرت صحيفة الأهرام في اليوم التالي، وقد صورتني عاري الرأس ساقط العمامة على الأرض ، لأن قوانين الجاذبية شدّتها ، وفق التطور العلميّ!

ونظرت إلى الصورة وقد تملكني الغضب ، فإن العمامة ليست لباساً خاصاً بي ، وإنما هي رمز العلماء المسلمين!

والرسام الشيوعي يريد الإيحاء بأن القوانين العلمية ستعصف بالإسلام...!
ورئيس تحرير الأهرام ، فيما علمت ، له دور في وضع الميثاق ، وصلة الميثاق بالإسلام خافية أو حائلة...

قلت في نفسي: بدأ الهجوم!
إنه بدأ في الأهرام واستمر في الكلمات التي تتابعت بالردّ عليّ من شيوعيين آخرين داخل المؤتمر نفسه .

وطلبت التعقيب على ما وجِّه إليَّ من تساؤلات وتهم ، وأُعطيتُ الكلمة ، فقسمتها شطرين :

( الأول: هل لأعضاء المؤتمر حرية الكلام دون أن تهينهم الصحف أم لا...؟ إن كان كل عضو هنا له حق عرض رأيه ، فهل هذا الحق مصون ، أم أنه ما يكاد يتكلم حتى يناوشه النباح من هنا ومن هناك؟
إنني أترك لأعضاء المؤتمر أن يتخذوا قراراهم في هذا الموضوع المهم .

الثاني: لقد عرضت حقائق إسلامية كثيرة ، عجز أعداء الإسلام عن مناقشتها ، وأخذوا يوجهون سهامهم إلى قضية الملابس وحدها ، وإلى ملابس النساء بالذات! فهل المطالبة بالاحتشام جريمة أو خروج عن القانون؟ ) أ. هـ

ثم شرحت موقف الإسلام من المرأة ، وبيّنت أخطار فصل قضية المرأة عن الدين ، ثم حملت حملة شعواء على الإباحيين وفاقدي الشعور الديني في بلادنا .

واقتربت مرة أخرى من نفوس الأعضاء الذين تضاعف حماسهم للإسلام ، وظهر أن اتجاههم إلى تحكيمه قويّ!

ولا بد أن أقول هنا : إني وجدت تجاوباً وترحاباً من السيد كمال الدين حسني ، على حين كان غيره من المسؤولين يكاد يتميز من الغيظ...!

لكني طالعت الصحف في اليوم التالي ، فوجدت عدوى الضلال قد انتقلت إلى بقية الجرائد والمجلات ، وأن الحملة عليّ اتسمت بالحدة والقسوة!

وتحرك الشيوعيون داخل المؤتمر مرة أخرى ، وسمعت هجاء كثيراً ، وتكلمت امرأة كانت وزيرة للشؤون الاجتماعية فوصفتني بما أضحكني! ولم أتابعها لأني وجدتُها تلغو بما لا يساوي سماعه!

إن حدَّة عاطفتي تسيء إليّ كثيراً ، وقد حزنت لأني أصبحت مادة لكتاب تافهين ، وتيقظت في دمي غرائز القتال ، فشرعت أهاجم بضراوة ، وأتحدث عن كبار وصغار باحتقار ، وأرسل إليّ بعض المسؤولين يطلب مني التحفُّظ .

وشاء الله أن يشعر أعضاء المؤتمر بأنهم أهينوا في شخصي ، فكتبوا طلباً للرئيس عبد الناصر أن أُعطي الكلمة مرة ثالثة لأُسكت هذا الضجيج .

حمل الطلب بعض الأعضاء من الصعيد ، ومرّوا به بين الصفوف ليأخذوا إمضاء أكبر عدد من الحضور ، فإذا المئات يوافقون ، وأحس الرئيس جمال عبد الناصر بالحركة ، وكان متيقظاً لكل ما يحدث ، وجاءه الطلب ، ولم أعرف الرأي في قبوله!

وأخذ الأعضاء استراحة نحو نصف ساعة ، ثم عادوا إلى مقاعدهم ، وكنت يائساً من أن أتكلم مرة ثالثة ، فاخترت أن أجلس في مؤخرة الصفوف .

وعندما التأم شمل الجلسة لاحظت أن الرئيس انصرف!

كنت أسترجع الماضي القريب! إنه من بضع سنين فقط كان رؤساء التحرير الذين سخّروا صحفهم لشتمي من رجال القصر الملكي، وبغتة ركبوا عربة هذا الانقلاب المشؤوم، وزعموا أنفسهم طلائع الحرية...!

وافتتح أنور السادات الجلسة، وقال: هناك طلب وقعه كثيرون بأن يعود الشيخ الغزالي إلى المنصة ، فتعالى التصفيق ، وغلبت صيحات الموافقة كل شيء!
فقال السادات في هدوء : ليحضر العضو المحترم ، وليتكلم...!

كنت بعيداً لأني في آخر صف ، ولما دوّى التصفيق تذكرت كلمة لأبي يوسف الفقيه الحنفي : أيها الناس، أريدوا الله بعملكم ، فوالله ما أردتُ غير الله بعمل إلا خُذلت ، فطأطأتُ رأسي ، وتذكرت ربي ، وقلت: أجعلْتُ الوقفة له ، فما أحب الخذلان، وإذا غرَّني هذا التصفيق المتتابع حَبَط عملي ، حتى لو نجحت في كلمتي وأعجبت هؤلاء الأخوة، فلا قيمة لي بعد أن خسرت وجه الله...!

وبدأت الحديث مع إخواني قائلاً :

( أهي جريمة لا تغتفر أن أقف إلى جانب الإسلام ، وأن أشرح بعض تعاليمه؟ هل الحرية تكفَل لكل من أراد نصرة مبدأ ما ؛ فإذا انتهى الأمر إلى الإسلام فلا حرية ...!

أين كانت أصوات الشاغبين عليّ وأنا أحامي عن المستضعفين ، أنشدُ لهم الكرامة ، وعن الفقراء أتطلّب له من القوت ، أين كان هؤلاء يوم ألّفت كتابي "الإسلام والاستبداد السياسي" ، في ظل أزمات عصيبة أوقعها القصر بالشعب...!

إنني لم أسمع لواحد من هؤلاء الشجعان صوتا ، ولم أر لهم أثراً...!
لقد اعتقلت عاماً في الطور وهم يلهون ويلعبون!

الآن نتحدث عن الإسلام ، يستباح بهذا الأسلوب؟

يا عجباً ، إنه عندما كان الملك فاروق يبحث عن الشهوات كان أولئك المهاجمون لي من رجال الصحافة يشتغلون قوّادين للملك الماجن!) أ.هـ

وانطلقت بعد ذلك أتناول موضوع النـزاع ، ولا أدري ما قلت بدقة ... وإنما الذي أذكره أن الرئيس السادات حاول ثنْيَ زمامي ، وتذكيري بأني تجاوزت الوقت ، فرفضت السماع له ، وشفيت مما نالني ونال المؤمنين معي .

وفي اليوم التالي ، وكان يوم جمعة ، نشرت الأهرام عشر صور هزلية في صفحة كانت فيما يبدو مخصصة للنيل مني ، ولكني هذه المرة لم أكترث لهذا الهزل ، ولم أعتبر نفسي مهزوما .

وألقيتُ خطبة الجمعة في الأزهر مختاراً لها موضوعاً أبعد ما يكون عن قضية الساعة ، وأحسست أن الزحام شديد جداً ، وبعد الصلاة سكنت مكاني دقيقة واحدة ، انفجر المسجد المكتظ بعدها بصياح اختلط فيه التكبير بالبكاء وبالهتاف ، ورأيتني محمولاً فوق الرؤوس، لا أعرف ما أصنع...!

وحاولت الإمساك بأي عمود يلقاني من أعمدة المسجد ، وهيهات!
فلما اقتربنا بعد لأي من الباب بذلت جهد اليأس في الإمساك به ، وأعانني رجال الشرطة على النـزول بالأرض والاحتماء بإدارة الأزهر ، وكان المصلون في المسجد يزيدون على عشرين ألفا ، انضم إليهم مثلهم من مسجد الحسين والمساجد القريبة ، وانطلقت المظاهرة إلى جريدة الأهرام لتحرقها ، وكلما قاربت هدفها تضاعف عددها ، ولكن رجال الشرطة استدعوا نجدات كثيفة لحماية الجريدة ، فدارَ الجمهور حول نفسه في غضب رهيب ، وقال كبير في الداخلية : لو كانت هذه المظاهرة منظمة أو مدبرة لأحرقت القاهرة ...!

عندما أقبل صباح الغد علمنا أن المظاهرات لم تكن مقصورة على القاهرة وحدها ، بل إن بعض عواصم الأقاليم تحركت فيها الجماهير مناصرة للإسلام ، وناقمة على النيل من علمائه .

ولذلك قرأنا ونحن نضحك ما كتبه الأستاذ "محمد حسنين هيكل" يوم السبت ، من أن الشيخ الغزالي سيَّر لفيفاً من تلامذته لتهاجم الأهرام !

إن الحشود التي سارت صوب الصحيفة المتجنّية ، فوق المائة ألف ، فهل أولئك جميعاً تلامذتي الذين أوعزت إليهم بما حدث؟

إن أمتنا تحب دينها، وتريد أن تحيا وتحكم وتوجَّه به وحده!
وقد رَبَت ثقتنا في أنفسنا عندما استأنفنا جلسات المؤتمر، ولم نكترث لما كان يلوح على وجه جمال والسادات من ضيق مكتوم!

ولما تقرر تأليف لجنة لوضع التقرير المطلوب عن الميثاق المقترح ، همستُ في أذن الشيخ "سيد سابق" أن العمل الحقيقي قد بدأ ، فإن المهم أن يوضع تقرير تبرز فيه الصبغة الإسلامية لمصر، ويخسر هذا التيار اليساري المنكور .

والواقع أن الجهاد المضني بذل في لجنة التقرير ، واستمات فيه الشيخ "سيد سابق" ، مع عدد من أولي الإخلاص والغيرة ، وأمكنهم تقليم أظافر الشيوعيين ، ووضع التقرير المطلوب .

ومن الإنصاف أن نوضح هنا أن عملنا كله كان سيذهب سدىً ، لولا صلابة الرجل المؤمن الصبور كمال الدين حسين ، فقد أبى المداهنة والعبث ، ووفر الحرية كاملة للأعضاء ، وهم لا يبغون بالإسلام بديلاً .

ولذلك انمحت الميوعة العقائدية التي تجعل الميثاق المقترح يصلح كما قلنا لدول أوربا الشرقية، ويجعل الشعب المصري مبتوت الصلة بدينه وشعائره .

وأثبتنا أننا على الإسلام نبيّن ، ومنه نستمد ، وجعلنا التقرير المحتفي بكتاب الله مهيمناً على ما سواه ، ولا بد من طبعه مع الميثاق ليكون جزءاً متمماً له!

وقرء التقرير ، ونال موافقة شبه إجماعية! ولم تكن هذه النتيجة متوقعة ، ولم يرض عنها جمال عبد الناصر...!

والحق أن الخصومة التي وقعت بين كمال الدين حسين وجمال عبد الناصر بدأت من ذلك اليوم، واتسعت الهوَّة على مرِّ الأيام ، حتى أُبعد الرجل الذي استمسك بدينه ، ودُمِّرت حياته المادية ، وعاش بعيداً عن أسباب السلطة!

لو يجد جمال صعوبة في طيّ التقرير وإهمال إرادة المؤتمر، وفرض ما يريده هو على المصريين...!

أما أنور السادات فهو صوت سيده! كان أقلّ وأذلّ من أن ينأى عن هوى زعيمه قيد أنملة! بل كان معروفاً بأنه الرجل الذي يُسلّي ويُسرِّي ، ويسارع في مرضاة سيده!

وعدت إلى عملي بوزارة الأوقاف، وقلبي مستريح لما بذلت ، وإن كنت محزوناً لما تمّ!

شيء ثمين استفدته من هذه المعركة ، أن الدعايات التي كانت يقوم بها بعض الإخوان ضدي توقفت ، وخرست الألسنة التي استمرأت عرضي حيناً من الدهر...!

ولا أكتم أني كنت أهتاج إذا سمعت من يقول: انضمّ إلى الحكومة أو باع دينه بعَرضٍ من الدنيا!

ولا أزال أرى أن معاصي القلوب تفتك بإيمان بعض المنتمين إلى الدين!
وأن التماسهم للبرآء العيب أمر يبطل طاعتهم...!

وما أبرئ نفسي من التقصير ، وإني لأعلم فقري المدقع إلى غفران الله ، ولكني بعيد عما أشاعوه عني ، وشاء الله في مواطن كثيرة أن يكشف كذبه من حيث لا أدري!

ولم يلحقني ضرٌّ عاجل من موقفي في المؤتمر ، ويبدوا أن القوم أمكر من ذلك ، فقد تربصوا بي عدة شهور ، ثم جاء وزير هبط بي من مدير للمساجد إلى مفتش بها ، أي رجع بي القهقري خمسة عشر عاماً في سلّم الوظائف ، ونقلني من مكتبي الخاص إلى مكتب به بعض الموظفين والموظفات!

وأجدني هنا مسوقاً إلى ذكر رجل عسكريّ وَلِيَ وزارة الأوقاف ، قبل هذه الأحداث بسنين ، هو أحمد عبد الله طعيمة ، لم أر مثله حباً في الخير ، ورغبة في خدمة الإسلام ، وحماساً في فتح المساجد ، ودعم الدعوة ، وتذليل العقبات أمامها .

جئته يوما – وأنا معتزٌ بتقويته لي - وقلت له : قمت بعمل لله في "المحلّة الكبرى" لا يجيزه القانون ، ولكني ثقة فيك ، واطمئناناً إلى عونك فعلته! قال مبتسماً: ماذا فعلت؟

قلت: وجدت الكنيسة التي تقع أمام مسجد أبي الفضل الوزيري ، يعاد تشييدها ، ورفع أبراجها ، وتجديد معالمها ، وبدا المسجد أمامها قزما ، وعلمت أن أرض الأوقاف حول المسجد سوف تباع بالمزاد ، وقد يشتريها إخواننا الأقباط ويتم حصار المسجد ، فأمرت الأهالي بالاستيلاء عليها وتوسيع المسجد فوقها ، وأثبتُّ ذلك في دفتر الأحوال ، وكلفت مدير المساجد بمتابعة التنفيذ وتلقي التبرعات لتجديد المسجد على النحو المعقول!

فأطال الرجل النظر في وجهي وسأل: باسم مَنْ مِنَ الواقفين يكون هذا العقار المراد ضمه إلى المسجد؟ قلت: لا أدري! قال: ابحث على عجل وتعال إليّ .

ولم يمض غير أسبوع حتى كان العقار قد ضًمَّ إلى المسجد ضماً قانونياً وصدرت الأوامر بجعل مسجد الوزيري مسجداً نموذجياً ، وتمَّ ذلك كله بفضل الله .

وكوفئ الوزير الغيور على الإسلام بإخراجه من الوزارة، وإرساله سفيراً إلى أمريكا الجنوبية .
وعندما خرج الرجل القويُّ الشجاع من الوزارة تذكرت قول الشاعر:

إن الأمير هو الذي يضحي أميراً يوم عزله!
إن ضاع سلطان الولاية لم يضع سلطان فضله!

وربما نسي الناس كفاح هذا الرجل ، لكن الله لا ينسى عمل عامل...!
مرَّت بي هذه الذكرى وأنا أنزوي في مكتبي المتواضع بالوزارة ، بعد ما نـزل بي من ظلم ، ثم انضمَّ إلي ذلك أني مُنعت من الخطابة في الجامع الأزهر! فقلت : لا داعي للعطلة ، فلأتفرّغ للتأليف .

أتممْتُ في هذه العزلة ثلاثة كتب : "الجانب العاطفي من الإسلام " ، و" معركة المصحف"، و" دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين" ، ووجدت من جميع العاملين بالوزارة معاونة تامة في العمل الصغير الذي كلّفتُ به ، وإحساساً بالغضب المكتوم لما حلَّ بي من غمط...

غير أن مصيبة لم تكن متوقعة هبطت عليّ ففزّعتني...!

أبلغني الناشر أن الشرطة تحفظت على ثلاثة كتب كانت في المطابع يعاد طبعها ، بعد نفاد طبعاتها الأولى هي: "مع الله" و "التعصب والتسامح" ، أما "كفاح دين" فقد نقل إلى الداخلية ، وتمت مصادرته...!

وشيء آخر حدث ، أبلغني أصدقائي أن حظراً صدر يقضي ألاّ أظهر في الإذاعات كلها مسموعة أو مرئية ، فإذا انضمّ ذلك كله بعضه إلى بعض، فالقصد واضح، هو تجميدي مادياً وأدبياً ، وضرب حصار خانق حولي...!

والمقلق في هذا الوضع أني كنت بدأت بناء مسكن لي في الجيزة، وسأضطر لعدم الوفاء بما التزمت به! ثم إن نفقاتي أنا ستقلّ بعد أن جفّ أغلب المنابع!

وأنـزلت بالله حاجتي ، وكتمت مخاوفي في أعماقي ، ولم تَزَل ابتسامتي عن فمي أمام أهلي وأصدقائي ، وكلَّ يوم يمر يتناقص معه رصيدي ، ويتسلل القلق إلى فؤادي ، بيد أني أعلل النفس بالأمل ، وأرقب من الله الفرج .

وذهب الوزير الذي آذاني ، وجاء آخر ، لم يلبث غير قليل حتى أرسل إليّ ، فصعدت إلى مكتبه ، قال لي باقتضاب: دولة الكويت أرسلت تطلبك لتقضي شهر رمضان بها في الدعوة والوعظ! ألديك مانع؟ قلت: لا ، فأمر باتخاذ إجراءات السفر!

عدت من الكويت، وقد قضيت شهراً مباركاً ، أبيح لي فيه ما كان محظوراً عليّ في القاهرة، حاضرت في المساجد الكبرى ، وتحدثت إلى أمهات الصحف ، وسجلت دروساً كثيرة في التلفاز ، والإذاعة ، وتعاقدت مع الناشرين على طبع عشرة كتب من مؤلفاتي!

ماذا كان على القاهرة لو وسعتني كما وسعت الشيوعيين والملحدين من كل لون...؟
إنني أحتقر من أقصى القلب ناساً يتشدقون بالحرية العقلانية ، فإذا تحدث الربانيون الدارسون ، وشرعت الجماهير تتدافع إلى ساحتهم ، جفّت حلوقهم من الذعر والهلع ، وتنادوا فيما بينهم : امنعوا فلاناً وفلاناً من الكلام ، وحولوا بين الناس وبينهم حتى لا يسمعوا منهم حجة...

ثم رجعوا في صفاقة نادرة يقولون: الحرية ، التقدمية ، العلمانية... إلخ!
كأن الحرية لهم وحدهم، والسجون والمنافي لخصومهم في الرأي .

عدت من الكويت ، وكنت قبل سفري شديد الوجل من الأزمات الزاحفة عليّ ، وكنت أحفظ حديثاً عن رمضان أنه شهر "يزاد رزق المؤمن فيه"، فسرَّني أن جعلني ربي في عداد أولئك المؤمنين المعانين ، ووفيتُ بالتزاماتي كلها ، ومنحت قُصّادي ما ألفوا نيله مني ، لو يشعر ذو سلطة أني محتاج إلى بابه ، فلله الحمد والمنّة .

واستدعاني السيد حسين الشافعي، وفهمت منه أني أستطيع أن أخطب الجمعة ، واختار لي وكيل الوزارة مسجد عمر مكرم بميدان التحرير ، وذهبت إلى المسجد ، وبدأت أؤدي فيه واجبي ، وما أن علم الناس أني أخطب هناك حتى تدفقوا ألوفاً على المسجد والميدان المحيط به...!

وتكرر اعتراض الداخلية على ظهوري مرة أخرى ، وهمس في أذني الأستاذ "القرماني" وكيل الوزارة ، أن أدع الخطابة من تلقاء نفسي بدل أن أحرج السيد حسين الشافعي مع الوزارة المسؤولة عن الأمن!

فكتبت اعتذاراً عن أداء الخطبة، وتوفرت على الكتابة – وهي هواي الأصيل ، ورأيت أن أحاضر في المساجد الأهلية ، والأندية العامة ، وأن أعمل مع العاملين على تقوية الروح الديني ، ونشر الثقافة الإسلامية ، ومطاردة الانحراف الفكري والخلقي ، وشعرت بفطرة المؤمن أن هذا التنقل أفاد، وأن جيشاً من أهل الإيمان استطاع أن يثب بالدعوة إلى الأمام ، فهل يترك الإسلام يتحرك وحده؟

كلا ، لقد وقع ما ليس في الحسبان!

أحسّ أعداء الإسلام أن المصريين متمسكون بدينهم، راغبون في إعلاء شعائره، وإحياء شرائعه، وأنهم تحت وطأة القمع ينكمشون، ثم سرعان ما يفيقون ويُسمع جؤارهم بضرورة العودة إلى الدين...!

وكانت مصر في أوائل الستينيات تتجه نحو الشيوعية وتطبق أوامر صارمة ضد الأغنياء عموماً ، وذهب جمال عبد الناصر إلى "موسكو"، وهناك قيل له : إن ترك الجماعات الإسلامية خصوصاً الإخوان المسلمين ينشطون على هذا النحو ، سوف يدمّر مستقبل الاشتراكية، فأسرع جمال – وهو لا يزال في موسكو - بإعلان الحرب على الإخوان ، وإنذارهم بالويل والثبور...!

وكان الشعار الذي تحركت تحته عساكر السلطة هو محاربة الإرهاب! والمرء يدهش للتوافق التام بين منطق الفراعنة في العصر القديم والحديث...!

إن موسى لما بعثه الله نبياً قال لرمسيس -فرعون مصر السابق-: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ (طـه: 47)!

فكان جوابه بعد أن رأى المعجزات: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ (طـه:57).

إن موسى يقول له: ابق وحدك في أرضك... وأرسل معنا هؤلاء الذين ضِقت بهم! فيكون الردّ: أتريد إخراجنا من أرضنا؟ ويمضي فرعون في قلب الحقائق، فيقول: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر:26)!

فرعون خائف من أن موسى يفسد في الأرض!

على هذا العوج في اختلاق التُّهم، والتماس العيب للأبرياء، قيل في دعاة الإسلام إنهم إرهابيون!

ترى، لو قال هؤلاء الإرهابيون لأصحاب السلطة : اقتلونا ، ونحن بذلك راضون ، على شرط أن تتركوا الإسلام يحكم أمته ويُسيّرها في كل ميدان! أيرضون؟... كلا ، لأن الحرب ضد الإسلام ذاته!

وفي سبيل ضرب الإسلام ضربة تشرِّد القريب والبعيد، اعتُقل في ليلة واحدة ثمانية عشر ألفاً من العاملين في الحقل الإسلامي، وكنتُ أنا واحداً من هذه الآلاف!

وقبل أن أصف أحداث هذه الليلة، أريد أن أذكر السبب المباشر الذي أدَّى إلى اعتقالي، وزجِّي في سجن "طرة"...

طُلبت إلى الإذاعة، فلما ذهبت وجدت عدداً من الشيوخ والإخوان الأقدمين. وكانت التعليقات محددة: إن الرئيس أمر بنشر مساوئ الإرهابيين، وتحذير الأمة من الثقة بهم أو التعاون معهم، ويجب أن تقوم بهذا الواجب الوطني على عجل!

تَمَلْمَلتُ فوق كرسيَّ ضائقاً، ولاحظ ذلك المشرفون على البرنامج فتجاهلوني، ثم كلفوني –بوصفي مفصولاً من الإخوان- أن أبدأ التسجيل!

كان جوابي حاسماً: أنا على استعداد للحديث عن الإسلام، وضرورة إحياء ما مات من أحكامه! ومستعد لإرشاد المخطئين، حكاماً كانوا أو محكومين، لإصلاح ما يكون قد بدر منهم من خطأ، أمّا شتم الإخوان وحدهم، فليس من خلقي أن أجهز على جريح...!

قيل: إنهم فصلوك من جماعتهم؟ فلماذا تُبقي عليهم؟ قلتُ: إذا استضعفوني أيام قوتهم، فلن أستضعفهم أيام حريتي...!

وما هي إلا ساعات حتى كانت القيود في يدي!
جاءت الشرطة بعد منتصف الليل بساعة، وطرقت الباب ففتحتُ، ودخلوا يديرون عيونهم في أرجاء المكان، ثم أفهموني بأدب أن أجيء معهم! وعرفت الوضع، وكانت إحدى بناتي قد استيقظت، فصاحت: بابا، فأمسكتها بلطف، وقلت لها: لا تخافي، سأعود بسرعة إن شاء الله، وقلت لزوجتي: أعدي حقيبة فيها عدد من الثياب...

وانطلقت السيارة بنا إلى سجن طرة...
نظر الضابط إليّ نظرة سيئة، ثم أمرني أن أخلع ملابسي وأرتدي ملابس السجن فاستجبت، ثم نظر مرة أخرى وصاح بغضب: في رجلك جوربٌ؟ ممنوع! فخلعت الجورب، واقتادني اثنان من الجنود إلى "الزنزانة" المعدَّة لي، وأرياني داخلها، على ضوء خافت، "جردليْن": أحدهما لقضاء الحاجة، والآخر غطاء! ثم أوصدا الباب وتركاني وحدي في ظلمة يضيئها جو السماء من خلال كُوَّة في السقف...

كأنما حدث كله مباغتة بعيدة التصوُّر! فبقيت مكاني أفكر كيف سأحيا هنا؟ وعلى أي نحو وهل سأعذب كثيرا؟ وبينما أنا في استغراقي سمعت أذان الفجر، فصليت إلى ما ظننت أنه قبلة، ولفَفْتُ حذائي في سراويل معي، وجعلته وسادة، واستغرقت في النوم، بعد أن قلت لربي: جعلت زمامي في يدك، آمنت بك وتوكلت عليك، "رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين"، لن أفكر في أسرتي أبداً فهي في ودائعك، اخلفني في أهلي بخير...! ثم رحت في سُبات عميق!

وصحَوتُ مع مطلع الشمس، فإذا خنفساء إلى جواري تزحف على الأرض المليئة بالحفر والشقوق، فقلت لها ضاحكاً: متى اعتقلت أنت الأخرى؟ امضي بسلام فلن يمسّك مني سوء...

وبدأتُ قراءة القرآن الكريم، واضعاً نصب عينيّ أن أختمه كل أربعة أيام...
كان الأكل رديئاً جداً، ولكنه يقيم الأوَد مهما تقزّز المرء عند تناوله! أما المشكلة التي خشيت منها على حياتي، فهي البرد الذي يهبط من كوّة مفتوحة أبداً، لأنها المنفذ الوحيد إلى الدنيا، ففي أثناء الليل أشعر بتيار يريد فتح جنبي الأيمن أو الأيسر كلما تقلبتُ، وأين المفر؟...

وتضرّعت إلى السجّان بعد أن آنست منه نظرات عطف أن يصنع لي شيئاً، فأتاني بقطعة خيش كبيرة، جعلتها على "الأسفلت"، واتخذت "البطانيتين" المهلهلتين غطاءاً...!

وأحسّ الإخوان المسجونون بمقدمي، وكان بعضهم يتطوع مع الموظفين الرَّسميين في الخدمة والنظافة، فاتفقوا على إراحتي من كنس المكان الذي أعيش فيه، ومن رمي فضلاته بعيداً، وعرفت بعدُ أن الذي قام عني بهذه المهمة مدرس بإحدى المدارس الثانوية...

في غبش الفجر يوماً ما جاء المدرس النبيل، ومعه أخصائي اجتماعيّ معتقل مثله،وأخذا يؤديان عملهما! ونظرت إلى أنضر شباب مصر يُهانُ عمداً لأنه مسلم! وهزّني الألم، بيد أني تماسكت حتى انصرفا، فوضعت وجهي تلقاء الجدار، وبكيت في صمت! فلما سمعت خفق أقدامهما عائدين أصلحت هيئتي بسرعة، وكلّماني فرددت عليهما، ونمَّ صوتي عما بي، فإذا هما يقولان: أكنت تبكي؟ فقلت: والله من أجلكما!

فضحكا وقالا: لا تعذيب هنا، نحن هنا في راحة، التعذيب في السجن الحربي، وفي القلعة، وفي... وذكرا أماكن أخرى... الأهوال هناك، أهوال من وراء الخيال!

إنني في كتابي قذائف الحق نقلت أطرافاً من صنوف النكال الذي نـزل بأولئك الشباب فهلك، وفقد من بقي صوابه أو سكنينته، أو طعم الحياة نفسها إلى أن يلقى الله، وذلك كله لتنصرف الأمة عن دينها، لتنسى الإسلام، وتسكت عن المناداة بكتابه وسنته!

ومع المحن السود التي مرّت بالعاملين لهذا الدين إبّان هزيمته؛ فإن ألوفاً مؤلفة من الشباب الأبرار ظلوا أوفياء للحق مخلصين لله، والغريب أن ضرب الإسلام وبنيه أصبح عادة مألوفة لكل وغد يملك السلطة، هذا يخدم الشيوعية، وذاك يخدم الصليبية!

وكلتا الجبهتين تخدم اليهود، وترى أن إسرائيل خلقت لتبقى... وكلتاهما تعتمد في منهجها السياسي على عقيدة صلبة، أما العقيدة عندنا –وهي الإسلام- فمنكورة محصورة، يستطيع أي تافه أن يتناولها بالهمز واللمز، ثم يمضي لشأنه كأنه لم يفعل شيئاً!

وعُدْت من خواطري إلى الواقع الذي يحيط بي، وتذكرت أهلي وأولادي وعزلتي، ثم لمتُ نفسي سريعاً على هذا الضعف، إنني استودعتهم الله، فلا معنى للخشية، ولقد بقيت في منفى الطور قريباً من عام فماذا حدث لهم؟ وهذا فلان ترك ابنته طفلة، ثم خرج من السجن فوجدها تزوجت، إنه غاب عنها طويلاً، فهل غاب الله عنها لحظة؟ كلا! وعادت السكينة إلى نفسي، وقررت أن أنكبَّ على تدبُّر القرآن الكريم ما بقيت هنا، وأن أضع نصب عيني قول الله لنبيه: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ (المزمل:8-9).

وشرعت في إنفاذ خطتي العلمية، مستبعداً الأمل في مخرج قريب! وبعد أن صليت العشاء سمعت ضجة غير معتادة، وانفتح الباب، وتدلّى سلك من الكوّة فيه مصباح كهربيّ، ودخل ضابط كبير عرفت أنه رئيس المعتقل، وسألني:شيخ غزالي: تطلب شيئاً؟ قلت: الملابس عندكم! فأمر فجيئ بها! وشرعت أرتديها، واقتادوني إلى إدارة السجن، فشربت كوباً من الماء لأول مرة من عشرة أيام في إناء زجاجي! ثم نقلتني سيارة إلى وزارة الداخلية، فقلت في نفسي: الآن يبدأ التحقيق...

ووقفت أمام ضابط جالس في ركن الحجرة، وقفت على بعد منه، وتهيأت للأسئلة، وإذا هو يقول لي:تفضل! فنظرت حولي فلم أجد كرسياً أجلس عليه!

فأعاد الأمر: تفضل! فقلت له: ماذا أفعل؟ قال: تفضل عد إلى بيتك!
فخرجت وأنا لا أصدق نفسي ولا ما حولي، وسرت قليلاً بجوار الوزارة فوجدت عمارة شاهقة مكتوباً عليها اسم الجلالة مناراً بالكهرباء...

شعرت برغبة عميقة أن أقبِّل اسم اللهَ لكن كيف؟ طويت حبي في قلبي، وأخذت سيارة إلى بيتي، وكان منظر القاهرة غريباً أمام عيني، لقد كنت في الجبّ، والآن أن على ظهر الأرض، وعلى قيد الحياة، ما أجمل الحرية! وما أجملها مع الأمن والإيمان!

إذا كان الله قد فكّ إساري فليكن شكري لنعمائه أن أسعى في فكّ إسار الآخرين، لأقل للناس: إن الله حق، وإن الجهاد في سبيله مضمون الثمرات في الدنيا والآخرة، صحيح أني أهون المؤمنين عذاباً، بيد أني أسرعهم إلى الله كلما دهمني كرب، ومازلت أرجو عافيته، وأفرح بها لنفسي ولغيري من عباد الله...!

وفيما أنا أستعد لاستئناف نشاطي، جاء بيتي المهندس أحمد عبده الشرباصي، والشيخ أحمد حسن الباقوري، فخفَفتُ لاستقبالهما... فقال لي الشيخ الباقوري بعد التهنئة بالإفراج: تدري من أخرجك؟ فقلت بصوت عالٍ عجل متحمِّس: الله!

وكانت اللهجة مفعمة باليقين والتقدير لربِّ العزَّة!

فسادَ صمتٌ طويل، احتراماً لهذا الإيمان، ثم قال المهندس الشرباصي بلطف: حقاً إن الله وراء كل فضل، وهناك مفاتيح للخير، تكون سبباً فيه، وهناك من أجرى الله على يده! قلت في استغراب!: من؟

قال: جمال عبد الناصر، إنه لما حضر من مؤتمر المغرب، بُلّغ بمن اعتقُلوا في غيابه، وكنتَ أحدهم، فسأل: ماذا حدث منه؟ فلم يلق من أحد جواباً! فأمر بإخراجك فوراً... فنُفّذ أمره ليلاً ساعة صدر...!

ألجم هذا الخبر لساني، وكان له دويٌّ هائل في نفسي، ثم قلت: إذن سأذهب إلى قصر عابدين، وأكتب شكري في سجل الزيارات... غداً الجمعة، سأؤدي واحبي بعد غد!

ولكن يوم السبت لم يجيء حتى أُلقيَ القبض على زوج ابنتي الكبرى، وزُجَّ به في السجون مع آخرين، فقلت: أهذا يليق؟ علام الشكر بعد هذا؟ لن أذهب!

وبقي صهري في السجن أربعة أشهر ، ثم أفرج عنه ، ما سئل في شيء ، ولا نُسب إليه شيء!

أحسست أن العمل للإسلام مضطرب، وأن التقوى عقبة أمام صاحبها، تعترض طريقه، فلا يمضي إلى الأمام أبدا ، وأن الكفاية الشخصية جريمة ترشح من أصيب بها للخلف، والاستخفاء، وخَلَتْ مساجد من الشبان فما يصلي الفجر فيها إلا الشيوخ الفانون!
الحكم الفردي يأبى أن يسمع من بشر هذه الكلمة:

خُلقتُ عَيوفاً لا أرى لابن حرة * عليَّ يداً أُغضي لها حين يغضب!

إنه يفضِّل رجلاً له زلَّة يسترها عليه، لينكّس بها رأسه أبدا، ويقفه أمامه عبداً، أما ذو الكفاية الشامخ الذي يناقش طباً للحقيقة ويقررها غير هيّاب، فهذا لا مكان له، ولا ينبغي أن يبقى...!

العملة السائدة هي الملق والزلفى، الملق والزلفى!!، أما الخبرة والنـزاهة فتلك عاهات لا أوسمة!

وقد فُرضت هذه السياسة على كل شيء في مصر، وأول الميادين نصيباً من هذا البلاء، الجيش، ثم الأزهر...

كنت واحداً من الذين حاربوا الإقطاعيين أيام الملك السابق، وها أنا ذا في عهد الثورة، وقد ذهب الإقطاع القديم فماذا أرى؟

إن عبود باشا اغتنى من إنشاء شركات أسمدة، وبواخر، وسكر. إلخ، فكيف اغتنى فلان، وأصبح عضواً في مجلس الشعب؟ قالوا: من تجارة المخدرات...!

أكان الأول عدوا للشعب لأنه اغتنى من طرق قانونية، والآخر صديقاً للشعب لأنه اغتنى عن طريق الحرام والملق والرشوة؟

ثم ما بال أولئك المنفيين في الواحات والسجون النائية؟ أيُكتب الشقاء على كل امرئ منهم، لأنه قال: أريد الحكم إسلاميا!
إلى متى يرسفون في قيودهم؟

تساؤلات كثيرة كانت تهجس بها نفسي، وأنا أمشي على صراط أحدٍّ من السيف، وأدَقّ من الشعرة، كي أستبقي للدعوة وجوداً وسط هذا الظلام...!

ثم جاءت سنة 1967 ، وجَنَينا الحصاد علقماً، لكني ما فكرت قط في أن الخزي الذي نـزل يحمل كل هذا السواد ، ويلفُّنا في عارٍ لا أول له ولا آخر...

يا أسفاً على بلدي المحروب وأمتنا المغشوشة ؛ في عشرين دقيقة فقط ، دُمّرت مطاراتنا كلها ، واحترقت طائراتنا وهي جاثمة على الأرض !

ولما كان لدينا أعظم جهاز للكذب في دنيا الناس، فقد خرج الغلام الموجَّه بجناحيه : الصحافة والإذاعة يقول للناس : إننا دمرنا طائرات اليهود...!

وما هي إلا أيام تعد على الأصابع ، حتى كان الجيش بين قتيل وأسير وهارب ، ما أغنى الكذب عنه شيئاً!

غالطت نفسي يوماً، وقلت لها: صحيح أن الحريات لا بد منها لضمان مصالحنا المادية والأدبية، أما يمكن أن يكون تولٍّ العسكر الحكم ضرورة مقبول لمواجهة إسرائيل؟ سيبنون جيشاً قوياً ، ويوجهون مواردنا كلها لكسب الحرب، وهذا ميدانهم الذي تخصصوا فيه!

وجاءت الأحداث تقول : إن الحكم الفردي الجائر لا يكسب معركة أبدا!
بل الغريب أن أعظم هزائمه كانت في الميدان الذي تخصص فيه...!

إن جمال عبد الناصر لم يكسب معركة قط، إلا المعركة التي أدارها ضد إخوانه ، وضد الإسلام ، وضد كرامات الناس!

في هذه المعركة قدر على تخريب آلاف البيوت، وسجن الألوف من الأبرياء، واستطاع أن يدفن في أرض اليمن مائة ألف مسلم ، عدا الذين قتلوا سرّاً وعلنا في مصر!

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة * فتخاء تنفر من صفي الصافر!
هلاّ برزت إلى غزالٍ في الوغى * بل كان قلبك في جناحَيْ طائر!
وإن تعجب فاعجب لجهاز الكذب الذي بقي يعمل دون توقٌّف...!

قيل لنا: أتظنون أننا انهزمنا؟ كلا، إن العدوّ لم يحقق هدفه! إنه كان يريد إسقاط جمال فخاب سعيه!

أرأيت صفاقة أوقح من ذلك؟

وعلمت بعدُ أن هذا الإسفاف منقول عن دعايات البعث العربي، بعد الهزيمة التي مُنّيَ بها هو الآخر!

إن إسرائيل تدفع أضعاف ميزانيتها بضع سنين، كي يقع انقلاب عسكري من هذا الطراز ، في كل بلد عربي...! لأنه يضاعف رقعتها،ويؤكد سلامتها، ويحفظ حاضرها ومستقبلها...
وفي الأزهر والأوقاف أخذت الدعاية تعمل تحت عنوان:"نكسة أحد"! بالله ما صلة هزيمة 1967 بما أصاب المسلمين في أحد؟

ما صلة السكارى والحشاشين، بالصديقين والشهداء؟

ما صلة ناس لم يخسروا شبراً من أرض، ولم يضيعوا ساعة من الوقت بعد خطأ تورّط فيه تعضهم، فاحتشدوا على عجل، وخرجوا يطاردون العدوّ الذي أصاب منهم غِرّة، ما صلة هؤلاء بمن فقدوا كل شيء دون سبب واضح إلا الغفلة والسفه ؟

إن (الدين) مُرِّغ في الوحل كي يرضى الحاكم الصغير عن بعض الناس...!
الواقع أن حالة الجيش كانت رديئة، لأن أحسن الكفايات أبعدت عنه عمداً، ولو تمّ تحقيق نـزيه في حالة مصر كلها، لظهر أن مصر بعد رُبع قرن من الانقلاب العسكري، كانت تترنح من الناحية الروحية والخلقية، والاجتماعية والاقتصادية...

وإذا كانت الظروف قد كشفت تخلُّفنا السياسي والعسكري، فهي المصادفات التي أزاحت الغطاء عن المستور.

ورأيي أننا تقهقرنا إلى أيام الخديوي إسماعيل، وأن تخلفنا الحضاريّ لا يستره ازدياد عدد السكان، وارتفاع المقادير المستهلكة من الطعام والشراب...

لاحظت أنا الحس الديني عند المصريين جعلهم يردُّون الهزيمة إلى هجران الدين ومحاربة أهله! فماذا فعل جمال عبد الناصر ليعلن انعطافه إلى الدين، وصلحه مع الله؟ انتظر أول حفل لمولد النبيّ r، فذهب إلى مسجد الحسين ليشارك فيه! ذهب بعد صلاة الغرب، وانصرف قبل صلاة العشاء!

إن الرجل انقطعت علاقته بالإسلام من أمَدٍ بعيد، وأظن ذلك يرجع إلى صداقته مع تيتو وسوكارنو ونهرو وغيرهم، فقد حسب أن أولئك الرهط من الرؤساء على درجة عالية من الثقافة والمكانة، فأحبَّ التشبُّه بهم، والنسج على منوالهم!

ولم تكن لديه حصيلة من المعرفة واليقين تنأى به عنهم، فألحَدَ مثلهم ليكون عظيماً هو الآخر!

ولعل مما أعانه على مروقه شيوخ الأزهر الذين ازدلفوا عنده طلاب دنيا... ولو كان فيهم من يهاب الله لتماسك الإيمان قليلاً في نفس هذا البائس...

وحدثت بعد الهزيمة تمثيلية الاستقالة والنكول فيها، ورأى الناس في مجلس الأمة المصري منظراً نُقِلَ إلى القارات كلها لما يصرخ به من دلالة مهينة، فقد وقف عضو في المجلس يرقص! لعودة الرئيس في استقالته...!

والعضو الراقص يفعل فعلته تلك وعشرات الألوف من جنودنا أسرى لم يطلق سراحهم، وآلاف القتلى والجرحى يملأون البيوت أحزاناً...

إن هذا العضو لا يحسن تمثيل نفسه ولا أسرته، ولكن النظام الذي وضعه الحاكم الفذ الذي استكثر من هذا النوع، وجعله –وهو الجدير بأن يُحجرَ عليه- قوّاماً على شؤون الأمة!

إنه يرقص لأنه سيبقى هو، فلو جاء حكم شرعي لا زيف فيه، لعاد إلى الفلاحة أو إلى أي حرفة آلية يأكل منها، وحسبه ذلك...

إن الاستبداد الأعمى يحتاج في سناده إلى أشخاص غير طبيعيين يتبادل معهم المنفعة، يسترون نقصه ويتجاوز عن قصورهم، ويتعاونون جميعاً على قيادة القافلة... إلى الهاوية.
الحق يقال إن سوق الجهل نفقت في هذه السنوات العجاف، انهزمت الرجولة والخبرة والديانة، وتقدم مجيدوا الانحناء والتزوير والاستغلال!

إنني أعتبر أن جمال عبد الناصر مات سنة1967، وإذا كان قد تأخر سنتين عن ترك هذه الدنيا، فإنه على أية حال ورَّث العرب عاراً تسودُّ له الوجوه، وورَّث اليهود نصراً لم يحلموا به يوماً، وورَّث المسلمين مشكلات أعقد من ذَنَب الضَّبّ...!

• مع أنور السادات•
عدت من محاضرة تدريبية لأئمة المساجد إلى وزارة الأوقاف ، كي أنجز الأعمال الإدارية المطلوبة مني ، فوجدت موظف الاستعلامات ينتظرني بصبر نافذ ، ويقول: إن الوزير انتظرك كثيراً لتذهب معه إلى رئيس الجمهورية ، وأوصى أن تلحق به فور مجيئك ، فإنه وشيخ الأزهر على رأس وفد سيلقى الرئيس السادات!

وكان الموظف من الإخوان ، وكان حريصاً على ما يراه الخير ، فلما وجدني فاتراً في الاستماع إليه ، أقسم عليّ أن أذهب ، وأمر سائق السيارة أن ينطلق بي للحاق بالوفد .

إن أنور السادات لم يكن أفضل زملائه بعد جمال عبد الناصر ، ربما كان أقلّهم ، غير أن الأقدار جاءت به ، برغم أنوفهم جميعاً ، وقد قبلوه على مضض ، وزيَّن لهم الرضا به أن الأمور ستكون في أيديهم ، أي أنه سيكون رئيساً صورياً .

والحق أن الجيش كان في أيديهم، والشرطة ، والإعلام ، وكل ما يورث القوة ، على حين كان السادات مجرَّداً من أي دعم! ومع ذلك فقد انهزموا أمامه ، وتغَّذى بهم قبل أن يتعشَّوا به...!

ما السبب؟ ألذكاء السادات ودهائه؟ لقائل أن يقول ذلك!
أما رأيي فهو أن خذلان الله للقوم حرمهم من كل توفيق ، فانتحروا ، ولا أقول: انتصروا!
إنهم جميعاً اضربوا عن العمل ظانين أن أجهزة الدولة ستتوقف!

فما توقف جهاز ، بل ظل كل شيء يدور وفق العادة ، كما ظل جنُّ سليمان مسخرين في العمل ، يتلقَّون الهوان ، وسليمان ميت!

وانتهز السادات الفرصة ، وتفاهم مع بعض الرجال الناقمين ، واستولى على السلطة ، وزج بخصومه في السجن جنباً إلى جنب مع الإخوان المسلمين .

وكان منظراً عجباً أن الذين كانوا يضربون الإخوان أمس ، يتلَقَّون العذاب معهم اليوم!

وبعد ما انفرد السادات بالسلطة ، هرعت الوفود للتأييد! ألا ما أحقر الحياة!

وقادتني السيارة على عجل فلحقت بوفد الأزهر ، وعلى رأسه الشيخ محمد الفحام ، ووفد الأوقاف وعل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق