الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

نزع الأنسنة في حلب: سيكولوجية التوحّش واللامبالاة

نزع الأنسنة في حلب: سيكولوجية التوحّش واللامبالاة

د.أحمد بن راشد بن سعيد
لم يكن طحن مدينة حلب ممكناً لولا عمليّة ممنهجة لإظهارهم في صورة غير إنسانية.
 يُعدّ نزع الأنسنة (dehumanization) عنصراً مفتاحياً لممارسة العنف الوحشي، لأنه يتضمّن عزل المجموعة أو الأمّة التي تتعرّض للعنف وتصنيفها في مرتبة «أنصاف بشر» أو حتى «حيوانات»، وهو ما فعله سفّاح الشام مطلع الثورة السورية عندما أشار في خطاب له بجامعة دمشق عام 2011، إلى الشعب الثائر بـ «الجراثيم التي تتكاثر على الجلد وفي الأحشاء»، وعندما أبلغ شبكة سي بي أس الأميركية بعد ذلك بعامين أنه يمارس مع الشعب السوري دور الجرّاح الذي يُضطر إلى بتر قدم مريض ليجنّبه الموت بالآكلة (الغرغرينا).

نزع الأنسنة يقود إلى التوحّش، لأنه يجعل البشر المستهدَفين مستثنيْن من الخصائص الإنسانية وغير مستحقين للحياة، ومن ثَمّ يصبح قتلهم وحرقهم أحياء وهدم منازلهم واغتصاب نسائهم- كلّ ذلك مُبرّراً ومُستساغاً. 

النازيون وصفوا اليهود بالجرذان. 
شامير وصف الفلسطينيين المنتفضين أواسط الثمانينيات بالجنادب. 
قبائل الهوتو في رواندا وصفت الأقلية التوتسية بالصراصير. جورج بوش الأب قارن صدام حسين بهتلر في وحشيّته وخطورته ليبرّر تدمير العراق عام 1990، واستمرّ حملة شيطنته حتى غزو 2003. 

من الصعب أن يقتل الإنسان إنساناً آخر، ولكن عندما يعتقد أن ضحيّته حشرة مؤذية أو مخلوق ضارّ، فإنه يقتله بدم بارد. 

نزع الأنسنة من أخطر الأسلحة فتكاً في التاريخ الإنساني، فهو الذي جعل كثيراً من عمليات القتل الجماعي وتدمير البلدان ممكنة.
في حلب لم يكن الذين يتعرضون للقتل المجّاني بكل أنواع القنابل حلبيّين أسوياء، كانوا مجموعات «تكفيرية» و «إرهابيّة» تشكّل خطراً على «الحضارة» التي يمثّلها بوتن والأسد وخامنئي، ولهذا كان لا بدّ من «سحقهم». 

تختفي القيمة الإنسانية للحلبي، ويحلّ محلّها تصوّر آخر يسمح باستئصاله. 
تتوارى تفاصيل الحياة المعقّدة وتصبح محض «تجريدات» (abstractions): فلا أطفال ولا أزواج، ولا أعراس، ولا سهرات، ولا مدارس، ولا مطاعم، ولا مستشفيات. 
تموت المشاعر تجاه كل ذلك، لأن من في حلب ليسوا متحضّرين «مثلنا»، بل ليسوا بشراً. وما داموا كذلك، فلا بأس بقصفهم ليل نهاربلا رحمة، ولا بأس بتجويعهم حتى الموت، ولا بأس بخداعهم ليخرجوا عبر ممرّات آمنة، ثم مفاجأتهم بالقصف ليسقطوا مضرّجين بالدم وعلى أكتافهم المتعبة بعض ما خفّ حمله وغلا ثمنه من أمتعتهم، ولا بأس بمهاجمتهم في الحافلات، وتخيّر عدد من الرجال، ثم إعدامهم، ولا بأس باختطاف فتيات نازحات واغتصابهن. 
ماذا ينتظر هؤلاء الحلبيين في المنفى؟ «المتحضّرون» بانتظارهم. 
سيلاحقونهم في إدلب وغيرها. إنّهم جميعاً همَج، قَتَلة، تكفيريون، أنصاف بشر، بهائم. بعد سقوط حلب المحاصَرة، انطلقت المسيرات وتعالت الأهازيج من قسمها الغربي، ورفع المحتفلون رايات مكتوب عليها «حلب عيونها خضر»، بينما كانت صرخات الحلبيين تتعالى شرقي المدينة تحت الحصار والقصف. نزع الأنسنة يحوّل الوطن إلى وطنيْن.

المدعو «المجتمع الدولي» وحتى دول عربية مؤيّدة للحق السوري، تحاول أن تشتري دعاية «منزوعي الأنسنة» و «التكفيريين» (تسمّيهم الصحافة الغربية «جهاديّين») ولوعلى استحياء لتبرّر تخاذلها عن إنقاذ حلب، أو الوقوف أمام تدميرها موقف المتفرّج، وكأنّ الطرف الآخر الذي يستعين بقوى إقليمية وكبرى، وميليشيات طائفية عابرة للحدود، لاقتلاع شعب من أرضه، يمثّل التسامح والحداثة. 
نزع الأنسنة يقود إلى اللامبالاة كما يقود إلى التوحّش. لكن من السّخريات، أنّ خطيب جمعة طهران، محمد إمامي كاشاني، قال عن احتلال حلب وتهجير أهلها: «حلب لم تسقط ولكنّ المسلمين انتصروا فيها على الكفّار»!;




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق