الخميس، 1 ديسمبر 2016

"غوانتانامو قصتي".. لُطف الذئاب

 قصتي"غوانتنامو".. 
 لُطف الذئاب
سامي الحاج 

مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
لم أدرِ كيف يمكن لي أن أجاريهم وأنا موثق الرجلين، سقطت منكفئاً على وجهي فرفعوني إلى سيارة، بعد قليل أنزلوني منها ومع كل صعود ونزول كان يتم تفتيشي بطريقة وحشية همجية يتبعها مشيٌ سريع عنيف، في منحنىً متصاعد إلى الطائرة.

كان ذلك كافياً جداً لإرهاقي إلى الدرجة القصوى؛ إذ إنني أعاني عموماً وهناً بدنياً مع ضعف في السمع والبصر. أدخلوني الطائرة وأجلسوني على الأرض، ثم مددوا رجليَّ إلى الأمام، وجمعوا يديَّ بقيد واحد، مربوط بقيد آخر في خصري، وفيه حبل مرتبط بقيد القدمين.

استأنست كثيراً بوجودي بين أجساد الإخوة، ولم أكد أهنأ بهذا الاستئناس اللذيذ حتى وجدتهم يلقون فوقي ببعض الإخوة.
وبجوار رجلي وضعوا كلباً كنت أشعر بملمسه، ثم وضعوا حبلاً حديدياً على رقبتي، وشدوه بإحكام إلى درجة قريبة جداً من الاختناق، وكنت أسمع صوت شد الحبل وكأنه يشدُّ بماكينة. لم ينسوا أن يضربوني بكعوب أحذيتهم العسكرية الثقيلة مراراً على أطراف يدي، وأن يلكموني مرات عديدة على رأسي والحبل يخنقني. توقفت الطائرة فسمعت أصواتاً كثيرة تدل على أن آخرين يُقسرون على ركوب الطائرة. عرفتُ فيما بعد أنهم كانوا مجموعة من المحبوسين نقلوا معنا في رحلة واحدة إلى باغرام.

وفي النصف الثاني من الرحلة فكوا الحبل الحديدي وحولوه من رقبتي، وما كدت أحمد الله تعالى، حتى وجدتهم قد حولوه إلى صدري من الأمام وعلى ظهري من الخلف، وبدؤوا يعصرونني كقطعة من القماش ويضيقون ويضيقون حتى كاد الحبل يدخل في عظامي.
 
ومما ضاعف عليَّ الآلام أن الحبل كان موضوعاً محل جرح عملية جراحية كنت قد أجريتها في بيشاور من قبل، وتم فيها استئصال جزء من الرئة. استمر الحال حتى هبطت الطائرة في باغرام، وعند النزول دفعوني بكل قوتهم وجرُّوني مسافة كبيرة فاستسلمت بين أيديهم. لم يكن بمقدوري مجاراتهم في جريهم مع قيودي وهم يحولون دون سقوطي على الأرض، فما كان منهم إلا أن رموني كما يُرمى الكيس، فوقعت على بعض الإخوة الذين كانوا قد انتهوا من دورة الجري والعذاب هذه.
 
استأنست كثيراً بوجودي بين أجساد الإخوة، ولم أكد أهنأ بهذا الاستئناس اللذيذ حتى وجدتهم يلقون فوقي ببعض الإخوة. بعد ذلك بدأت جولة أخرى: امشِ مشيت، اصعد صعدت، انزل نزلت، اعبر عبرت، أسرع أسرعت، اِخفض رأسك، اخفض، اِنحنِ اِنحنِ، وبعد زمن ليس بالقصير لعلهم أصابهم التعب أدخلوني وأنا مُنْحَنٍ إلى مكان أظنه غرفة تحقيق، سمعت فيها أسئلة تنهال على أحد المستجوَبين.

تركوني فترة دون سؤال ثم أخذوني إلى مكان آخر ورموني مرة أخرى كما يرمى الكيس، وتركوني فترة ثم عادوا وغيروا القناع إلى قناع نصفي يمكنني الرؤية من ورائه شيئاً ما، بعدها قالوا لي: تخلع كل ملابسك وتقف عارياً كما ولدتك أمك، ثم تقف على رجل واحدة والكل ينظر رجالاً ونساءً! الأدهى والأمر في كل ذلك هو أنهم لابد أن يكشفوا على الدُّبر بالقهر والقوة حتى يطمئنوا على صحتنا!

وانقطع حبل ذكرياتي جرّاء حفيف أجنحة طائر الليل ذي الجناح المهيض؛ إنها حقاً مصادفة غريبة لتدفق هذه الذكريات وظهور هذا الطائر الوحيد؛ لكأنه يحاكي وحدتي في هذا الظلام!
 
وتتزاحم في ذهني خواطر من قبيل: ماذا كان سيكون منك لو أنّك ركنت لتلك الملاطفات التي يبدو لك اليوم أنها لم تكن إلا بداية طريق لإغراءات قد لا تنتهي ومساومات لا تربح مطلقاً!؟!
 
قبل ترحيلي إلى غوانتانامو، قال لي المحقق بلطف لم أعهده من قبل ولم يتقن هو تمثيله "أنت تعلم أننا في حرب، وأن الحرب تقع فيها أخطاء وتصرفات غير محسوبة، وقد تأكدنا من خلال تحقيقاتنا معك أننا مخطئون. وعلى ذلك، فقد قررت إدارة المعسكر إطلاق سراحك وإرجاعك إلى بلدك، وسنعطيك ملبساً ومبلغاً من المال يكفي لتوصيلك إلى بلدك".

عندما نظرت إليه قال "لا تحسبن أن المبلغ كبير، فهو محدود، محدود ولكنه يكفيك لتصل إلى بيتك"؛ بادرته قائلاً "إن لدي تذاكر توصلني الدوحة ولدي مبلغ من المال يكفيني، وكل ذلك موجود في الأمانات لديكم، فلا حاجة لي بما تعرضونه علي. أنا في حاجة فقط لورقة منكم تعترفون فيها بالخطأ، وتكون موجهة لقناة الجزيرة حتى أعود لعملي". رد بالإيجاب وقال: سنعطيك الرسالة التي تريد شريطة ألا تنشرها.

تعهدت له بذلك، وودعني على وعد بإطلاق سراحي خلال أيام. وبعد أسبوع من ذلك الزعم نادوني للتحقيق معي مجدداً، واستقبلوني بصورة مغايرة لما اعتدته منهم في السابق. تلقاني المحقق هاشاً وأسرع يقدم لي كرسياً لأجلس عليه وبطانية لأتغطى بها، تعامل معي بلطف، حتى الأسئلة كانت ودية تأخذ منحىً خاصاً بحياتي العائلية بعد الزواج وعلاقتي بأذربيجان. لاحظت أن المحقق هذه المرة كان يتكلم بهدوء ويرتدي ثياباً مدنية ـ عكس سابقيه ـ ويتكلم الإنجليزية بلكنة بريطانية، لا علاقة لها بما ألفته لدى الأمريكيين!

أعلمُ أن الأميركيين خليط من الشعوب والقوميات، وربما يكون هذا المحقِّق مهاجرا أو مقيما. كما لم أستبعد أن يكون موظفاً لديهم من جنسية بريطانية.

بعد ذلك بشهر، حقق معي جندي وبمعيته مجندة، رحبا بي وأجلساني على مقعد، وذكر الجندي أنهما يعرفان أنني مصور لقناة الجزيرة وأنني أتيت إلى أفغانستان لأداء مهمة إعلامية، وأكدا أنهما يعرفانني جيداً.
حتى لو فكر أحدنا بالهرب من السجن وتجاوز كل هؤلاء الجنود فإن الأفغان كفيلون بتصفيته، كيف يفكر أيٌّ منا في الهرب؟
رددت عليهما بهدوء، قائلا: حسنا، أنتما تعرفانني، فمن أنتما؟ قالت المجندة هازئة "نحن توم آند جيري، هو توم وأنا جيري. لم يكن يعنيني أن أبتسم للنكتة، فأظهرت الجدية وقلت لهما: ما الذي تريدانه مني؟

فأجابا: نحن نعرف أنك على وشك الخروج والسفر، ونود أن نسألك بعض الأسئلة: أيّ الأشخاص أكثرُ احتراماً داخل الخيمة التي تقيم فيها الآن؟ أو بتعبير آخر، من الأمير أو الشخصية الأهم في تلك الخيمة؟ ذلك الشخص الذي إذا تكلم أصغى له الجميع وإذا أمرهم أطاعوه؟

فقلت لهما: لا يوجد بيننا شخص بهذه المواصفات، نحن كلنا أشخاص عاديون. فردَّا بالسؤال: وكيف هو حمزة البطل؟ وكم بطّانية لديه؟ وكم وجبة يأكل يوميا؟ حمزة البطل هذا، مواطن تونسي أقل ما يوصف به فعلاً أنه رجل شجاع، لا يهاب ولا يخاف في الحق لومة لائم، ولا يستكين للجنود الأمريكيين في أي طلب، وكان يرد عليهم بقوة. قلت لهما إن حمزة رجل عادي وإنسان طبيعي تماماً، يحترم الآخرين ويؤدي صلاته ويعيش كأي سجين ليس له أي تسلط وليست لديه أي امتيازات.

بعد أن ساد صمت ثقيل سألاني عن موضوع آخر، قالا: "نريد أن نسألك: من في خيمتكم يفكر في الهرب؟ أو في تنفيذ أي عمل عنيف ضد المعسكر؟ فقلت لهما: أين المهرب!؟ نحن في قندهار، في المطار، حيث القاعدة العسكرية الأمريكية، يحيط بنا الجنود من كل مكان. فبأيِّ منطق نفكر في الهرب؟ وحتى لو خرج أحدنا من المكان وتجاوز كل هؤلاء الجنود فإن الأفغان كفيلون بتصفيته، كيف يفكر أيٌّ منا في الهرب؟ فردَّ علي الجندي قائلاً: إذا لم تكن أنت تفكر في الهرب فغيرك يفكر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق