الاثنين، 12 ديسمبر 2016

الفكّة في شرح مسافة السكّة

الفكّة في شرح مسافة السكّة

أحمد عمر

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا، وادعى عبد الفتاح السيسي العلم، واختراع معادلة علمّية اسمها "مسافة السكة"، وكان قد زعم أنّ مصر ستبقى قدِّ الدنيا، وانتظرنا، وصارت مصر قدّ الرزة، وتغيّر الزمن في معادلة مسافة السكة من سنتين إلى عشرين ثم إلى ستين سنة، وفي خطاب الخدعة قال: إن تدخل العسكر سيعيد مصر أربعين سنة إلى الوراء، المسكين تُركت له تركة ثقيلة من عصر مبارك الذي يحمل كل اللوم، وهي جملة قيلت لبشار الأسد عندما تولى، على سبيل نقد الماضي من غير تعيين، فهو ثقيل، هكذا ولد ثقيلا، بسبب الصراع الدولي، بسبب قانون الثقالة في الجاذبية، بسبب حلاوة الجبن، هو ثقيل.. قضاء وقدرا! 

والقصد الثاني من تعبير "التركة الثقيلة" هو التخفيف من واجبات الرئيس السياسية، فهو غير قادر على حلِّ مشاكل الأرض، وليس لديه عصا سحرية، لكن مسألة السكة نبه إليها محمود درويش عندما قال: ندعو لأندلس إن حوصرت حلب، ولم يعد أحد يدعو لأندلس وقد دمرت حلب ونحن نتفرج وبين أندلس وحلب فرق كبير، فأندلس هي شام نقلها عبد الرحمن الداخل، على سكة خارقة، إلى إسبانيا. 

حلب عمرا تمتد لاثني عشرة ألف سنة ومسافة السكة بينها وبين اللاذقية التي تقام فيها مهرجانات السينما وعرض الأزياء احتفالا بتدميرها، قصيرة جدا، وما كان عدو على الأرض ليجرؤ على تدميرها بهذه الطريقة الفاجرة، وكان رؤساؤنا الأفاضل العلماء بقوانين المسافة والسكة والزمن، الذين اكتشفوا أن أسرع الطرق والسكك للوصول إلى العرش هي الجزمة العسكرية مع أنها ثقيلة في الجري، قد اكتشفوا سككا أخرى يدعمون بها كنوزهم الثقيلة، كأن يرسل الأسد جيشه إلى لبنان الشقيق محتلا، أو إلى تل الزعتر، أو يرسل جمال عبد الناصر جيشه إلى اليمن الشقيق، أو يرسل صدام حسين جيشه إلى الكويت، وتبيّن الأخبار إرسال السيسي بعضا من جيشه وطائراته إلى سوريا لنزع الألغام، وإلى حفتر المتقاعد، العسكري العربي لا يتقاعد إلا في اللحد. والسيسي يدعم الحوثي، ويغازل طهران بعد أن انقطع نهر الرز السعودي، وكان قد هدد شعبه، أنه في غضون ست ساعات سيحتل مصر كلها! فالجيش في بلدان العالم المحترمة هي لحماية الحدود أما في بلادنا فهي لحماية القدود والخدود والنهود، والنخبة كلها تغني للسيسي تسلم الأيادي وهو أحيانا يخطئ في معرفة سكة قصيرة من بضع خطوات فلا يجيد الوصول إلى أوباما ليسلم عليه، فينتظر في الطابور وراء رئيس وزراء الرئيس الهندي، نسي الله فأنساه نفسه.. 

المسافة هي السكة القصيرة بين الجيش والخدمة الديلفري، صارت المسافة كبيرة في مصر وسوريا بين الشعب والشعب، فهما شعبان، وبينهما كامخ. شعب السيسي وشعب الحرية، أو شعب الأسد وشعب الحرية، والمسافة كبيرة بين الجار وجاره والسبب هو قانون مسافة السكة. السكة لنجدة إسرائيل وحصار غزة وإغراقها بماء البحر، والمشي بالسيارة على السجاد الأحمر ومصر تجري وراء فرخة فتسبقه الفرخة.

ومن أفضل قوانين السكة المنصوح بالتأسي بها تجريه مهاتير محمد في ماليزيا الذي قفز ببلاده من تحت خطر الفقر إلى دولة تنتج السيارات، فارتفع الدخل فيها وصارت نمرا آسيويا، وتجربة العدالة والتنمية في تركيا الذي جعل البلاد من دولة مديونة إلى مدينة لصندوق النقد الدولي، وتنتج الأسلحة والأقمار الصناعية وتخرق الجبال، وعندما سئل أردوغان عن سبب هذه التطور المذهل قال ببساطة: أنا لا أسرق.

وتجربة الحاج الطبيب محمد مهاتير، بدأت بخطة فيها أهداف تقطف في عشر سنوات فجعل التعليم أول خطوات بلده، وأعلن للشعب بكل شفافية خطته واستراتيجيته فخصص أكبر قسم في ميزانية الدولة للتربية والتعليم وتأهيل الحرفيين ومحو الأمية وتقتير الإنفاق على القصور، وليس للتوكتوك وعربيات الخضار ومحو الكرامة، وأمس سخر السيسي من التعليم، لا تعليم حتى يقضي الرجل على الإرهاب!

لم يكن مثل السيسي الذي كانت خطته: كده أطلع "محاضر" محمد الشعب على القصاص، الثواب والعقاب: ففيه حياة يا أولي الألباب وليس مثل السيسي الذي ضحك للسرقات في المجالس المحلية وكأنها دعابة وفهلوية، لابد من الثواب والعقاب للوصول إلى "النهضة الشاملة"، ثم جعل خطوته التالية "بقطاع الزراعة".. لتصبح ماليزيا أولى دول العالم في إنتاج وتصدير «زيت النخيل»! وكانت الخطوة الرابعة في السياحة وماليزيا ليست صاحبة ثلاثة أرباع الآثار العالمية، وليس فيها الأهرام ولا أبو الهول. 

حوّل مهاتير المعسكرات اليابانية المخلفة من أيام الحرب العالمية الثانية إلى مثابات سياحية تشمل جميع أنواع الأنشطة الترفيهية، والمدن الرياضية، والمراكز الثقافية والفنية.. لتصبح ماليزيا "مركزا عالميا" للسباقات الدولية في السيارات، والخيول، والألعاب المائية، والعلاج الطبيعي...
وفي "قطاع الصناعة": حقق في عام 96 طفرة بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة في الأجهزة الكهربائية، والحاسبات الإلكترونية.

وكانت الخطوة الرابعة هي فتح الباب بضوابط شفافة أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية لبناء أعلى برجين توأم في العالم.. وأنشأ البورصة التي وصل حجم تعاملها اليومي إلى ملياري دولار يوميا.

وأنشأ أكبر جامعة إسلامية على وجه الأرض، أصبحت ضمن أهم خمسمائة جامعة في العالم يقف أمامها شباب الخليج بالطوابير، كما أنشأ عاصمة إدارية جديدة putrajaya بجانب العاصمة التجارية «كوالالمبور» التي يقطنها الآن أقل من مليوني نسمة، وخطط مع فريقه أن تستوعب 7 ملايين عام 2020، وبنى مطارين وعشرات الطرق السريعة تسهيلا للسائحين، والمقيمين، والمستثمرين، الذين أتوا من الصين، والهند والخليج ومن كل بقاع الأرض، بنوا آلاف الفنادق بدءا من الخمس نجوم حتى الموتيلات بأسعار لا تضاهى: عشرين دولار في الليلة!

كل ذلك من غير جيش، أو نفط، أو نظرية مسافة السكة، وتأتي التجربة التركية وهي أقرب وأصعب: ذلك أن ماليزيا ليس لها خصوم عقائد مثل تركيا سليلة السلطنة العثمانية. إعلانها عن هويتها جلب عليها الأعداء من كل مكان، حتى رفاق السلاح في حلف الإطلسي.

ألغى حزب العدالة والتنمية حالة الطوارئ والمحاكم الخاصة ومحاكم أمن الدولة، وأعاد حقوق من نزعت منهم الجنسية التركية وصار انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب وضاقت صلاحيات القضاء العسكري، وحوكم منفذو الانقلابات العسكرية، وأصلحت بنية المجلس الأعلى للقضاء، وتصالح مع جيرانه، وأنهيت الحروب على حدود الدولة، وحول الجيران من دول محاربة إلى أسواق لمنتجاته، لولا أن الكيد استمر فقد تحولت سوريا القرداحية الروسية الفارسية إلى عدو، وبذلك تكونت البيئة الديمقراطية المدنية. حقق إنجازات اقتصادية وديمقراطية عجزت حكومات المنطقة العربية العسكرية بأسرها عن تنفيذها، وهي في الحكم لعقود طويلة. 

وأصبح الاقتصاد التركي في المرتبة السابعة عشر عالميا والسادس في القارة الأوروبية، فسدد ديون تركيا لصندوق النقد الدولي البالغة 23 مليار دولار، بل وأقرضت الصندوق نفسه خمسة مليارات دولار، لتتخلص من سياسات الصندوق المفقرة، وتشارك في رسم سياساته الاقتصادية. 
وعلى الصعيد الدولي، نجحت شركات الإنشاء التركية في الظفر بمناقصات قيمتها 260 مليار دولار وأتمّتها في موعدها بنجاح. ذلك في سكة الدول أما في سكك تركيا فإنجاز العدالة والتنمية الأكبر كان في الطرق والسكك: 
*بنى أكبر مطار في أوروبا، وأنشأ جسر الغازي عثمان وهو رابع أطول جسر معلق بالعالم على خليج إزميت وقصر زمن المسافة بين إسطنبول وإزمير من ثماني ساعات إلى ثلاث ساعات ونصف...

*وقصر زمن المسافة بين أنقرة وإسطنبول إلى ساعتين ونصف بالقطارات السريعة، أما سكة صاحب الفكة فكانت الكفتة وفيروس الكبد الوبائي وعربيات الخضار والتوكتوك وطرق تمسك مصر "كده"!

لم يكتف صاحب نظرية مسافة السكة بحرق المراحل، فحرق البلاد والعباد، وجعل سكة الأمل الوحيدة للشباب هي النزوح إلى أوروبا، مقابل مدخرات العمر، والعمر نفسه، غرقا في البحار أو على يد القراصنة، وبدلا من قياس الرئيس المسافة بالمتر ها هو يقيسها الآن بالرز.. القصير وليس الطويل.

قَلَب السيسي مصر، والأسد سوريا على ظهريهما كما تقلب السلحفاة، وهما تخبطان في الهواء، وتجفّان تحت الشمس والأبواط والبراميل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق