الإنسانوية الجديدة .. تفسير الإسلام أم إسقاطه؟
الإنسانوية الجديدة .. تفسير الإسلام أم إسقاطه؟
لربما اعتَبرت مراكز البحث الغربي، المستقلة أو الممولة من أنظمة الاستبداد العربي، أن مشروع اليوم منشغل بما بعد "الإسلام السياسي"، وأن العملية الفكرية الحديثة التي تنشغل بها بعض هذه المؤسسات تركز على إيجاد البديل الديني للفراغ الذي يُحدثه التعقب الشرس للفكر الإسلامي حالياً، والعملية الدموية المصاحبة له.
تقوم هذه الدراسات العميقة على تأمين جيوسياسية مناسبة للشرق المسلم، ولكنّها تتركز على الوطن العربي اليوم، لأن حركة التدافع المحمومة، التي تخوض حروباً حقيقية، لإعادة استثمار المشروع الغربي، وقابلية المنطقة للاستعمار بنموذجه الجديد، تسعى إلى ضمان توجيه الخريطة السياسية لتأمين مصالحها، في ظل حماسٍة منقطعة النظير، من دولٍ مسلمةٍ بذاتها، لإسقاط الإسلام، لصالح المشروع المشترك مع الغرب.
وقد كانت تراعي "الإسلام التقليدي" قديماً، وإن أبقت على مصطلح الإسلام قائماً في خطابها، على الرغم من أنها تهدم كل معالمه الفكرية، ومساراته العدلية، التي تُهدد قدرات المستبد، غير أن سؤال المركز هنا: كيف يُحقق الاستبداد مساحة أسرع، للتجاوب مع الكولونيانية الجديدة، وإعادة صناعة الإسلام ذاته، عبر التطوع المادّي الضخم للنفط الخليجي، لتحقيق معادلة الغرب في الوطن العربي.
تأتي مهمة الدين المصنوع الجديد، على أثر إسقاط نموذج ديني قديم، استخدمته المنظومة الغربية، وخصوصاً الأميركية، لتأمين مصالحها في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وفي مسارات صراع أخرى، وخصوصاً النموذج "الوهابي" الذي يُهجّن محلياً من الدولة الراعية، لكنه يشهد سقوطاً مدوّياً في العالم الإسلامي، والمهجر على حدٍ سواء، بصورةٍ سريعة ساهمت في صناعة فراغ وصدمة كُبرى لدى الشباب الإسلامي، الذي عُلّق بها فترة زمنية، ولم يخطر "النموذج "الوهابي الذي يُهجّن محلياً من الدولة الراعية، يشهد سقوطاً مدوّياً في العالم الإسلامي" بباله أن الدولة الراعية هي من سينقض أحجار هذا التديّن.
وهنا لسنا في معرض تحديد معالم التأثير، في كل ساحة إسلامية، ولا نُغفل الجناية التي يمارسها الاستبداد، على أولئك الشباب الذين حملوا مهجاً إيمانية روحية متصلة بأصول الإسلام، ولكن لم تُتَح لهم فرص التعرّف إلى منظومة القيم، والأفق النهضوي والإنساني الذي كان من الممكن أن تشارك به الصناعة الفكرية العربية، مسارها التقدمي والحقوقي والاستقلالي لأوطانها الجديدة، ولقُطرها العربي المحدّد.
لكننا نركز هنا على أن مشروع الصدمة بحدّ ذاته، ليس عفوياً كما أنه ليس مرتبطاً فقط بحماسة المستبدّ العربي، في أكثر من منطقة، كعملٍ مبتور دولياً، وإنما يأتي أيضاً في سياقات ترتيب غربي للمشهد الثقافي للمنطقة العربية، ولسنا نتحدّث عن تحريك دمى شامل، كلا.. وإنما نربط مصالح الغرب القائمة على الأرض بالمشروع التنفيذي الذي تتبنّاه قوى الثورة المضادّة في الوطن العربي، التي تتجاوز مرحلة مواجهة مقدّمات أي ربيع عربي جديد إلى صناعة فكرية خلّاقة لصالحها، مُدمرة لطموحات الشعوب. ولذلك، فإن المسار اليوم يتكثف على صناعة البديل الديني الذي يستغلّ فشل منظومة "الإسلام السياسي"، أو أي تخلف ساد في بعض توجهات "الإسلام المذهبي" بمذاهبه المختلفة، ليُنفّس عن الشباب بتدين جديد، يُبشّر به على نطاق واسع، وبدعم مادّي ضخم.
المشكلة هنا أن بعض مصطلحات الحرب الفكرية الحديثة، تختلط بين المشروع الجديد لقوى الاستبداد الغربي والأفق المطلوب بالفعل للحياة العربية المعاصرة، كي تتقدّم في تكاملها "المسار اليوم يتكثف على صناعة البديل الديني الذي يستغلّ فشل منظومة "الإسلام السياسي"" الإنساني نحو مفاهيم العدالة الاجتماعية والفنون والحياة المدنية، من دون أن يكون ذلك مُسقطاً حق الشعوب والفكر الإسلامي الذي ترتضيه، في مسار الروح الإيمانية والقيم والأخلاق للرسالة، فالفارق هنا ليس في المصطلح، وإنما في المشروع الذي يبشّر باسمه، فتستطيع أن تتحدث باسم النهضة، وأنت تقمع أساسيات حرية الفرد في الإبداع، والرأي السياسي، بل حتى حقه في رفض تقديس الحاكم، وتستطيع أن تتحدّث عن الفنون والحياة الإنسانية الجميلة التي قُمعت سابقاً، وأنت تخنق الناس باسم حمايتها، فلن تكون مهمة الإعلام إلا ترديد مصطلحاتها، من دون حقّ وجداني، تضمنه مساحة الدستور والقانون لهذا الشعب أو ذاك.
التلاعب بالفكرة الدينية في أكثر من مذهب أو مدرسة قديم وليس جديداً، لكن المشروع اليوم يمثل عاصفة هوجاء قوية، تقول للناس ضمناً إن الخلل في فكرة الإسلام ذاتها، ولا تسمح لهم بالدفاع، ولا بمنصّات حوار حرّة، مع الفلسفات الوجودية، أو المختلفين عقائدياً ومدنياً، في سبيل الوصول إلى مقارنات النهضة والحياة الفاضلة، ويتزامن ذلك مع حركة قمعٍ حكوميٍّ مزدوجة، الأولى ضد الوجدان المسلم الطبيعي نفسه، والثاني عنيفة مسلحة تقتل أو تسجن أو تعذب بتوحش قهري، بغض النظر عمن هو المعتدل أو المحافظ، أو المتشدّد من تلك الجماعات أو الشخصيات الإسلامية.
الفارق المهم هنا هو بين المفهوم الإنساني للإسلام، ركناً أساساً مع العدالة الاجتماعية، وإعادة "الإنسانوية الحديثة، باسم الطقس الإسلامي القلبي للحب والعشق والتسامح، تُقدم اليوم لتعزيز قوة القهر للشعوب، ودعم السلطة القمعية" صياغة الوعي الإسلامي عبره، بما فيها الحياة المدنية للشعوب، وإعلان الإنسانوية الطقوسية بديلاً، وهو ما يروّج له اليوم.
وقد تستدعي هذه الإنسانوية مسارات تصوّف قديمة، تُفهم تماماً، ضمن خريطة الحريات الأخلاقية والفكرية التي سادت في الشرق، لكنها لا تمثل معادلة مقابلة للرسالة الإسلامية، بل إن الإنسانوية الحديثة، باسم الطقس الإسلامي القلبي للحب والعشق والتسامح، تُقدم اليوم لتعزيز قوة القهر للشعوب، ودعم السلطة القمعية، ورفض أي موقفٍ احتجاجيٍّ على ازدواجية الغرب، أو مذابحه قديماً وحديثاً. وإنما طقوس وترانيم، ملائمة جداً للمسرح الغربي الحديث، فيُقال للناس، في كل الوطن العربي، هذا هو دينكم فغنّوا معنا، واتركونا نسرق مالكم ونعتدي على أوطانكم، وندفن أطفالكم فقراً، ولا نسمح لكم بصوتٍ سياسيٍّ ولا حقوقي، فقط على الشعب أن يُدندن أو يصمت أو يموت كمداً.
يقوم البعد الإنساني الحقيقي لمساحة الفنون والأخلاق والوجدان، ومفهوم التسامح، على ركن العدالة الشاملة، لا الرفاهية المنتخبة للنخبة الظالمة، وهنا الفرق الكبير، غير أن صفقة المستبدّين والغرب تتحد في مشروعها الكبير، لسحق الشعوب باسم الإنسانية المزيّفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق