عن مفاجأة ميدان التحرير من جديد وأسئلة كثيرة
ما جرى يوم الجمعة الماضي في مصر، بخاصة في ساعات الليل، وما تبعه أيضا، لم يكن حدثا عاديا بحال.
لقد فاجأ ما جرى حتى أشدّ المتفائلين من المعارضة، وإن بشّر بعضهم بغير ذلك من أجل بث الأمل، ذلك أن خروج تلك الأعداد المعقولة إلى الساحات، وإلى ميدان التحرير تحديدا بما له من رمزية تتجاوز مصر إلى العالم أجمع، لم يكن أمرا عاديا في ظل حالة الرعب وسطوة القمع التي كانت تتصاعد تباعا منذ سبع سنوات ولغاية الآن.
من نزلوا إلى الشوارع كانوا يغامرون بدخول سجون من أسوأ السجون، ومع ذلك خرجوا. والغريب أن ذلك لم يكن بدعوة من القوى السياسية، بل من مقاول خرج من رحم النظام وتمرّد عليه، وفضح الكثير من فساده، وإن سانده نشطاء على مواقع التواصل.
لهذا الأمر أكثر من دلالة؛ أولها أن في مصر نبضا هائلا من الرفض من جهة، وفيها قدر من البطولة الاستثنائية من جهة أخرى، الأمر الذي ينسحب على فضائنا العربي الذي كلما اعتقدوا أنهم ركّعوه جاءهم من حيث لم يحتسبوا.
ما جرى يوم الجمعة الماضية في مصر، بخاصة في ساعات الليل، وما تبعه أيضا، لم يكن حدثا عاديا بحال.
أما الدلالة الثانية، فهي أن كل مشاريع "الفنكوش"، والدعاية اليومية من قبل أبواق النظام لم تأت بأي نتيجة، لأن الناس تشاهد ما يجري على الأرض، ولا يغيّر في حقيقته جحافل منتفعين يزيّنونه للناس بالكذب والتهريج.
الواقع الاقتصادي هو الأكثر ضغطا على أعصاب الغالبية من الشعب المصري، وحين تكتشف هذه الغالبية أن كل دعوات شدّ الأحزمة على البطون لا تخصّ أحدا سواها، بينما يقوم النظام بتبديد الأموال بطريقة رعناء (أموال طائلة صبّت من الخارج في خزائنه منذ الانقلاب)، فمن الطبيعي أن يضاعف ذلك غضبها على نحو استثنائي. وإذا ما تحدثت إلى بعض القادمين من مصر، فلم يكن لديهم سوى الحديث عن ثورة جياع، وليست ثورة من الطبقة المتوسطة كحال ثورة يناير، لكن التردي الاقتصادي كان يتزامن مع اتساع سطوة البطش أيضا، وهذا كان يستفز الجميع.
هناك سؤال يتعلق بمفاجأة الجانب الأمني، صحيح أن هناك بعض القمع والاعتقالات التي واكبت الاحتجاجات، إلا أن الحشد الأمني، وعموم رد الفعل على الأرض لم يكونا بالمستوى التقليدي أو لنقل المتوقع؛ ما طرح أسئلة بشأن وجود تململ في المؤسسة الأمنية والعسكرية من رأس النظام، واحتمالات أن يكون هناك من يفكر في التخلص منه.. ولكن لماذا؟
في مصر نبض هائل من الرفض من جهة، وفيها قدر من البطولة الاستثنائية من جهة أخرى
من الصعب الجزم بشيء كهذا بالطبع، لكنه وارد لأكثر من سبب؛ منها بجانب الأبعاد المتعلقة بالمنافسات الشخصية والمصالح الفردية والفئوية، ما يتعلق بإخراج البلاد من دائرة الانقلاب العسكري إلى الوضع الطبيعي، لأن انقلابا على الانقلاب يختلف عن انقلاب على رئيس منتخب (صار الآن في ذمة الله)، إذ يمكن الحديث في الحالة الجديدة عن مصالحات داخلية تسمح للبلد بأن يتنفس بعيدا عن بث الأحقاد على نحو يومي، ومنظومة "احنا شعب وإنتوا شعب"، لأن البلد لا يمكنه البقاء طويلا في ظل هذا الوضع المتوتر.
ما يحدث منذ سنوات هو عملية دفن للسياسة بالكامل، بل لكل أشكال العمل العام (جمعيات، نقابات، اتحادات طلاب وبرلمان مهمته التطبيل). والاستهداف لا يتعلق بالإخوان وحدهم، بل بكل القوى التي ساندت الانقلاب (حزب حمدين صباحي لوّح بحلّ نفسه قبل أيام). أي أننا إزاء حالة مريعة من الانسداد السياسي الكامل، مع رفض هستيري من قبل النظام لسماع أي صوت سوى صوته، بجانب عجزه بعد 7 سنوات عن تكوين حزب أو تيار مدني يمثله ويكون وسيطا بينه وبين الشعب، كما فعل ناصر والسادات (الاتحاد الاشتراكي)، ومبارك (الحزب الوطني)، ما يجعل الشعب مباشرة في مواجهة الجيش دون وسيط مدني، مع سيطرة الجيش على كل القطاعات الحيوية في البلاد، بما في ذلك قوت الناس.
ما يحدث منذ سنوات هو عملية دفن للسياسة بالكامل، بل لكل أشكال العمل العام، والاستهداف لا يتعلق بالإخوان وحدهم، بل بكل القوى التي ساندت الانقلاب
بجانب ذلك، لا يبدو من السهل على أي نظام أن يتعايش مع ما يقرب من مئة ألف معتقل سياسي في السجون، لكلٍّ منهم أهل وأقارب، ومع أكثر من ذلك العدد كهاربين في الخارج، وكل ذلك في زمن مواقع التواصل التي تثبت في كل يوم سطوة أكبر مما توقع الكثيرون، وهذا الذي جرى يوم الجمعة وما بعدها أثبت ذلك أيضا.
لا يُستبعد أن يكون للموقف من الكيان الصهيوني راهنا، ومن العدوان الإيراني صلة ما بخلافات المؤسسة العسكرية والأمنية. فالنظام القائم يدفع للصهاينة ثمن وقوفهم معه بعد الانقلاب، ما دفعه للتقارب معهم على نحو لم يحدث من قبل، لكن من سيأتي بعده لن يكون مضطرا لذلك، كما أن خطر التمدد الإيراني ليس هامشيا كي يتم التعامل معه بهذا الاستخفاف الأقرب إلى الدعم (الحياد المصري هو شكل من الدعم كونها الدولة العربية الأكبر). وأحلام استعادة الدولة الفاطمية لن تغادر عقل بعض محافظي إيران إذا نجح مشروعهم للتمدد. كما أن حجم ما دفعه النظام القائم للأقباط بسبب وقوفهم معه، يبدو أكبر مما تحتمله المؤسسة العسكرية والأمنية، لا سيما إذا تذكرنا موقفها التقليدي منهم منذ انقلاب عبد الناصر.
هل للأمر صلة بعامل خارجي؟
هذا البعد كان مما طرحته الاحتجاجات أيضا، وتراخي القبضة الأمنية النسبي حيالها، إذ إن الدول التي دعمت الانقلاب، تشعر بخيبة من سلوكه حيال معركتها الكبرى مع إيران، وتصاعدت الخيبة بعد صمته على استهداف أرامكو، والتهديدات التي سبقتها، ما سيجعلها غير حريصة على نصرته. وإذا كان رفضها لمنطق الثورة حاسما، فإن الانقلاب من داخل المؤسسة قد يكون شيئا آخر.
كان المشهد مذهلا بكل المقاييس، وسيكون له ما بعده دون شك؛ إن كان في القريب عبر سيناريو انقلاب، أم ضمن ذات سيناريو الجرأة التي تتصاعد تدريجيا عليه، كما حدث مع نظام مبارك
ومن راقب إعلام تلك الدول (السعودية والإمارات تحديدا)، لا بد أنه لاحظ محدودية التعاطف مع النظام، مع عدم التورط في ترويج رواياته حول الأحداث أو شيطنتها.
وإذا جئنا إلى العامل الدولي، فإنه منحاز للنظام بكل تأكيد (ترامب يعشق الدكتاتوريات، وكذا الصين وروسيا)، ولكنه لن يتوقف كثيرا إذا كان التغيير من داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ذاتها، وسيعترف بالجديد كما اعترف بالقديم.
في أي حال، وسواءً تعلق الأمر باحتجاج طبيعي مفاجئ سيرتب قدرا من التمرد التدريجي على النظام، كما حدث مع نظام مبارك، أم كانت له صلة ما بتناقضات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، فقد كان المشهد مذهلا بكل المقاييس، وسيكون له ما بعده دون شك؛ إن كان في القريب عبر سيناريو انقلاب، أم ضمن ذات سيناريو الجرأة التي تتصاعد تدريجيا عليه، كما حدث مع نظام مبارك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق