من قتل وائل غنيم؟
سأسمح لنفسي بالكلام عن وائل غنيم، لأنه اعتمد مبدأ حريته وحرية أي شخص في تناول الآخرين وتقييمهم ونصحهم، وحتى شتمهم وتلقي شتائمهم، بضحكة مريرة.
وأقول إن هذا الذي تراه أمامك عبر شاشة كمبيوتر أو موبايل، يبكي ويضحك بشكل هستيري، تشتمه بسفالة فيمتشق البذاءة، ليس وائل غنيم الذي عرفه الناس قبل أكثر من ثماني سنوات.
هذا شخص يحدّثك من العالم الآخر، عالم الموتى الأحياء، والأحياء الموتى، يخرج على الناس ليعلمهم برحيله عن هذا العالم، حتى وإن كان يبدو مهتمًا أكثر بصحته البدنية، ناقلًا خبرته الذاتية في التصالح مع الجسد، طريقًا للتصالح مع الذات.
لا أستطيع أن أستوعب أن ضغوط الحياة وشراسة الواقع يمكن أن تلقي بشاب ممتلئٍ بالحياة والإبداع إلى شواطئ العدمية والانهيار، على هذا النحو، كما لا أميل إلى فكرة أنه مدفوع ٌ من جهة ما للظهور بهذا الشكل للعب دور يخدم هذه الجهة أو تلك.
لا أستطيع أن أقرأ حالة وائل غنيم من دون أن أستدعي ما جرى في مصر عقب نكسة العام السابع والستين من القرن الماضي، وأستعيد حالة نجيب سرور وآخرين من المبدعين الذين كسرهم الطغيان والاستبداد، فرحلوا، وهم أحياء، عن هذا العالم، وصبّوا غضبهم عليه، وبصقوا في وجهه، ودانوه ودانوا ذواتهم ودانوا الجميع على ما فعلوه وما فعل بهم.
كانت المرّة الأولى التي أرى فيها وجه وائل غنيم، عبر شاشة التلفزيون، حين نجا من أقبية التعذيب بعد موقعة الجمل في أيام ثورة يناير 2011. كان يبكي بكاءً ملهمًا، فكان من أسباب إيقاد جذوة الثورة مرة أخرى، بعد أن أوشكت على الانطفاء.
وقتها كتبت عنه تحت عنوان "وائل غنيم سارق النار المقدسة"، أسمح لي أن أعيد بعض سطوره، قبل أن أقرأ ظهور وائل غنيم الأخير:
إن أجمل ما فى ثورتنا المصرية أنها أعادت اكتشاف عبقرية هذا الشعب.. نحن الآن أمام عبقرية شعبٍ ينهض وينفض عن نفسه غبار سنواتٍ من القهر والقمع والفساد.
في قلب عتمة المبادرات والمهارشات وألاعيب الحواة لإذابة الثورة في محيط تفاصيل الحياة اليومية، ووسط غبارٍ كثيفٍ لإلهاء الناس فى الهم اليومى، بحثا عن الخبز والوقود والعودة إلى العمل، وفي ظل مخطط شديد الانحطاط لضرب الثوار بالشعب، وتكفير الشعب بالثورة، يأتى ولد مصري ناصع الضمير، لا تستطيع أن تأتي به ولادة إلا مصر، اسمه وائل غنيم، يتحدّث فيصدق، فيصدّقه الناس، فتنبعث الثورة مجدّدا على نحو أوسع وأجمل وأكثر إصرارا على انتزاع الحق المطلق، وملامسة المستحيل، والوصول إلى سدرة منتهى الحلم بالتغيير الشامل.
إنها الثورة المقدّسة، الشعلة التى اختطفها بروميثيوس مصر المسمّى وائل غنيم، وألقى بها إلى الشعب الثائر، فتدفقت الملايين مجددا بعد أن تصور "آلهة الفساد" أنهم استطاعوا أن يحاصروا الثورة بموائد التفاوض والتحاور. من لا يملك من الثورة شيئا يحاور من لا يستحق، بينما صنّاع الثورة وأصحابها الحقيقيون هناك فى الميدان، صامدون مرابطون، واعون كل الوعي بمحاولات إجهاض ثورتهم واختطافها والمضاربة بها في بورصة المفاوضات العبثية.
كانت كلمات وائل غنيم المختلطة بدموعه في تلك الليلة من ليالي فبراير/ شباط 2011 من أسباب ما وصفتها، في ذلك الوقت، استعادة الإنسان المصري السريعة أجمل ما فى الشخصية المصرية، فى لحظةٍ بدا فيها أنهم قتلوا جوهر وجوده، ودمروا شعاب وجدانه المرجانية، وأحرقوا مساحات الخضرة فيه.
لهذه الأسباب، لا أستطيع أن أتصور أن تجربة ذاتية جوانية هي التي حولت وائل غنيم من بروميثيوس سارق النار لإضاءة العالم إلى محض حطام ورماد منطفئ، كما يبدو في إطلالاته الحالية على الناس، شتامًا وسبابًا وهارفًا بكلامٍ يثير الأسى أكثر مما يستفزّ العقل ويحرّك الوجدان.
وظني أن أوغادًا سفلة تمكّنوا من حفر أخدودٍ مخيفٍ في عمق روحه، ودمّروا مرجان وجدانه، وزرعوا فيه هذا الكائن المغترب عن ذاته، والغريب على الناس، فترفّقوا به وتحمّلوا انفجار بركانه حتى يخمد، وساعدوه كي يعود إلى الحياة، حتى وإن شتم وسب واستحدث قاموسًا جديدًا.
سأنتظر عودته إلى الحياة، حتى وإن شتمني، ويقيني أن مصر مقبلةٌ على عبورٍ جديد من النكسة الأفدح في تاريخها إلى انتصارٍ على الموت والقبح والعدمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق