أيها السيسي.. لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا
بهاء قابيل
مدون، ماركتير، صحفي.
سأمنحكم حق أن تخدموني، وأن ترفعوا صوري فوق جدرانكم
وأن تشكروني لأني رضيت بكم أمّة لي، فسيروا إلى خدمتي آمنين
أذنتُ لكم أن تخرّوا على قدمي ساجدين
وفى السجن مُتّسع للجميع، من الشيخ حتى الرضيع
-محمود درويش
في الحرب العالمية الثانية، خالف ثلاثةُ ضباطٍ أوامر "هتلر"، فقرر عقابهم، فقيّد كل ضابط في سجن، ووضع أمامه ماسورة مياه تنقّط ببطء. وقال لهم، أنّ تسريبًا لغازٍ سام سيقتلهم خلال 6 ساعات، وبعد 4 ساعات فقط ذهب يتفقّدهم، فإذا باثنين منهم قد ماتا، والثالث يلفظ أنفاسه الأخيرة. الغاز كان حربا نفسية، ليجعل عقولهم هي التي تقتلهم، حيث اتضح أن أجسامهم أفرزت هرمونات تؤثر سلبا على أجهزة الجسم. وهذا ما يفعله الاستبداد، يشيع الرُّعب، ليجعل البشر في حالةٍ دائمة من الخوف والامتثال لسلطتة، يجرد الإنسان من مقوّمات وجوده، فيفرض رقابةً كاملة ليس فقط على الحرّيّات، بل أيضاً على الانفعالات والأحاسيس وحتّى على الأحلام، ليصبح سائر أفراد المجتمع وكأنّهم شخص واحد مُستَنسَخ. نجاح نظام الاستبداد، يتعلّق بمدى قدرته على تطويع الكائنات البشريّة وتدجينها، والتعاطي معها كحيوانات مُعدَّلة.
هل يجب علينا أن ننتظر زمنا آخرًا أقل وحشية؟
لا فرق بين الطغاة، جميعهم جبناء يخافون صرير الأقلام، كما قال نابليون: "ألف مدفع أهون على من صرير قلم"، كلهم يرتعدون من كلماتٍ لا توجد في قواميسهم: حريّة، عدالة، مساواة، ديمقراطيّة. وهذا الجبن يدفعهم لفعل المجازر بشعوبِهم. يتكرّر التاريخ ولا يتعلمون، كل ديكتاتور يعتقد أنه استثناء، وأن القمع سيجلب له الاستقرار، ثم ينتهي إلى سجنٍ أو إعدام.
أتعلم أيها السيسي لماذا أبغضك؟ كم وصل عدد فقراء شعبك؟ لماذا يسكن الملايين المقابر؟ وفسادك أنت وجيشك بالمليارات. كم عدد قتلي قطاراتك؟ كم عدد العاطلين؟ كم عدد المغتربين؟ فلتتخيل نفسك معتقلًا بلا ذنب، ومسجونًا بتهمة ملفّقة، وأطفالك لا يعرفون مصيرك ويتسوّلون من الجوع، هل بعد هذا ستحب حاكمك أم تلعنه؟ سَل أجهزتك الأمنية ماذا تفعل؟ لقد وصلت بهم القذارة أن عذّبوا ضحاياهم ونشروا صورهم، انظر إليهم كيف يقتلون العزّل من شعبك بدم بارد، وسل نفسك من المسؤول؟ من سيجادل الله عنك؟ جنودُك، أم مستشاروك، أم مشايخُ السوء الذين باعوا دينهم وسبقوك إلى العذاب؟
يستغرب البعض وصول حاكم إلى مرحلة العنجهية والغرور، فيعتقد أنه ملك كل شيء، ولا يمكن لإنسان أن يقف في وجهه، رأيت هذا في كلامك وتصرفاتك. إنها السلطة عندما تتحول إلى مفسدة. إنك تعتقد أن كل شيء قد دان لك، وأنك قادر في سبيل الحفاظ على مصالحك الشخصية، على استباحة المحارم، وقتل الأنفس، وتعذيب الأبرياء، وأنت آمن من الحساب. وكما يقول المثل "كلبُ الأمير أمير"، وصل داء الاستبداد إلى زبانيتك، يرتكبون ما يريدون، وأصدرت قانونًا يحميهم، حولتهم إلى مجرمين بترخيص رسمي. ولم يبق إلا أن تصرخ فينا "أنا ربكم الأعلى."
إذا لم نجعل من كل مواطن شرطياً، سنحتاج إلى شرطي لكل مواطن
كي أعيش في مصر، على أن أتخلّى عن أي شعور، وأن أنسى القيم، وأتأقلم مع فكرة أنني انسان بلا حقوق، عندها أستطيع الاستمتاع بنشرات أخبارك، أو بفيض تفاهاتك التليفزيونية، وأن أتنعم بالعفن المحيط بك.
كان انقلاب 3 يوليو نهايةً لحلم ربيعنا، عاد الظلم، تعسكرت الحياة، وتحول المشهد إلى ساحة تحكمها قبضتك الأمنية، التي لم يستمر نظامك حتى الآن، إلا بها. قتلت ألفَ نفسٍ بريئة في يوم واحد، وحظرت حرية التعبير، واعتقلت مئات الآلاف، وانتهكت الخصوصية، وفاقمت حالات الاختفاء القسري، وأصبح "الإعدام" أسهل ما ينطق به قضاؤك، واحتلت مصر ذيل مؤشر الحريات، وتنازلت عن الأرض، ثم هددتنا: "لا تستمعوا إلى أحد غيري، كونوا حذرين، أُقسم، أي شخص يقترب، سأزيله من على وجه الأرض؟"
ووقف أمين عام جامعتك العربية ليعلن، أن "الربيع العربي لو كان قد نجح، لدُمّرت الأمة." إنه يزهو بانتصار الطغاة على شعوبهم، ولأن السخرية تقوم على مفارقات الواقع، فهي تفترض أن يحيا الساخر في بلدٍ تسمح له بحد أدنى من الأمان، ليسخر وينكّت، لكن حين يصير الواقع نفسه مفارقة، تفقد السخرية معناها.
إنّ دولتك المستبدة تقوم على الخوف ويسودها النفاق، وأنت تستخدم قوتك وسلطتك في إشاعة الخوف بيننا. والتاريخ ينبئنا أن الخوف هو السلاح الأساسي في توطيد الاستبداد. ولإثارة خوفنا، اعتمدت على إعلامك المضلل، وعلى تنفيذ أجهزتك الأمنية لأوامرك، دون مساءلة، وأوهمت الناس أنها تدافع عن الوطن، بينما هي في الحقيقة تحمي نظامك الفاسد ضد أي تحرك في سبيل الحرية. وتحت ستار مقاومة الإرهاب قمعت معارضيك، تحت ظل قانون الطوارئ، لتتأكد من سيطرة الخوف على الجميع.
إن دولتك آيلة للسقوط، فَلَا تَغُرَّنَّك دباباتك وأسلحتك، وَلَا يَغُرَّنَّك أتباعك المنتفعين. ان الفساد والرشوة والمحسوبية وعدم المصداقية، من أهم أسباب سقوط الأنظمة |
لقد حوّلك الغرور الى حيوان مفترس، فلا كلمة حق تنفذ الى قلبك، بل لفّ قلبَك حجابٌ كثيف، فشكّل حاجزاً سميكاً بينك وبين الناس. ألم تر أنه في دول كثيرة، هناك رؤساء خلف القضبان متهمين بالفساد واستغلال النفوذ. معظمهم أنجزوا لشعوبهم، ولم يخرج أحد يطلب العفو عنهم. لأنها دول لا تبرر الفساد بوجوده في كل مكان، كما تقول أنت. إنك بطانةٌ سيئة تشكلت من جيش يشرّع الظلم ويشتري الذمم ويقلب الحقائق، سرطانٌ عسكري يسري في وطني، فرسّخ فيه كل الرذائل، من التطبيل للحاكم، إلى اليأس من الإصلاح والصمت عن المنكرات.
التحدي الذي تطرحه هذه الفترة السوداء من تاريخنا، لن يجد أحدٌ له حلاً سوانا. لقد انتهى زمن الاتكال على توازن دولي يحفظ لنا حقوقنا. انه زمن لن يستقيم، إلا إذا صنعنا وطنًا جديدًا وسط هذا الخراب الذي يحاصرنا، التخلص منك هو الخطوة أولى، بعدها يجب إزالة كل الدجالين وقطّاع الطرق. لقد ناضلنا لإزالة جرذٍ جثم على صدورنا ثلاثين عاما، فجاء جرذ آخر يريد فعل الشيء نفسه. هذا لأننا لم نفكك الدولة العسكرية.
قد تكون مخيفًا من الخارج، لكنك في الحقيقة هشّ وخاوٍ. وما لا تعرفه هو أن من يلعب بالدمار، يصير ضحيته، وأن انتصارك اليوم، مؤقت لن يدوم. فالشعب الذي كسر جدران الخوف، لن يعود إلى زمن الظلمات، مهما كانت قوة البطش. الشعب الذي كسر تماثيل المستبد، لن يرفعها من جديد. نعم لقد انتصرت جزئيا، لكن بغبائك ستحوّل انتصارك إلى وهم، وهذا من حسن حظنا، انها البداية لزمن سنصنعه بالصبر والإصرار على حلم الحرية.
لقد وصل استبدادك إلى نهاياته الإجراميّة، محوّلا احتمالات النهضة التي رفعت شعارات الخبز والحرّية والديمقراطيّة، إلى كابوسٍ من الثورة المضادّة التي أعادت تأسيس الطائفيّة والتمزّق الاجتماعي. انت لا تترك فرصة دون تذكيرنا بصعوبة الأوضاع الاقتصادية وضرورة التقشف، وتتجاهل أن الأزمة هي سياسية واجتماعية أكثر من كونها اقتصادية، ذلك أنه بافتراض تحسن الاقتصاد فهو عديم الفائدة ما لم تعمل على ضبط سياساتك وتعزز الشفافية والرقابة والمحاسبة وتحقق العدالة الاجتماعية التي طالبنا بها خلال ثورة يناير. تلك الثورة التي يعاديها نظامك، ويعتبرها مؤامرة لإسقاط الدولة وليست انفجاراً ضد الظلم، وفي تناقض تخرج لتقول عن هذه الدولة بأنها شبه دولة. متناسيا أن أشباه الدول لا تحتاج لمن يتآمر عليها، لأنها ستُسقط نفسَها بنفسِها.
إن دولتك آيلة للسقوط، فَلَا تَغُرَّنَّك دباباتك وأسلحتك، وَلَا يَغُرَّنَّك أتباعك المنتفعين. ان الفساد والرشوة والمحسوبية وعدم المصداقية، من أهم أسباب سقوط الأنظمة. وقد ضبطك الشعبُ متلبّساً مراتٍ، فأيقن أنك أجرمت في حقه، وزيّفت وعيَه بتضليلك.
في النهاية، لن تموت الثورة ولو طال حكمك ألفَ عام. لن نيأس ولو ضاقت علينا الأرض. أذكر أنني هتفت قبل ثمان سنوات: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ورفعت لافتةً: "يسقط مبارك." واليوم نطق لسانك ليجرّم ثورتنا ويحمّلها مسؤوليةَ الدمار والدماء. نذلٌ لئيمٌ، أسوأ الناس مَن يلوم الضحية لا القاتل. لا يجرّم الثورة إلا مجرمٌ معدوم الضمير. فمتى كان حبّ الحرية جريمةً؟ ومتي كان السعي للخلاص من الطغيان جريمةً؟ إن الجريمةَ هي السكوت عن الظلم، والرضا بالهوان، والتصالح مع القتلة.
ما كانت الثورة خطأً يستحق اللوم، ولا كان الشرفاء الذين حملوا مشعلها في شوارع اليأس مخطئين، بل كانت حقاً مشروعاً لأسرى العبودية وضحايا الاستبداد. وإن خسرنا اليوم حريتنا، فنحن لم نخسر إرادة الثبات. لأننا ندافع عن الحق، وإن غداً لناظره لقريب. ستنتصر دماؤنا على رصاصك، وتُدكّ قصورك التي شيدتها من أموالنا. قد يطول الزمن، لكن لن نفقد الأمل، ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق