احذروني.. وإليكم الأسباب
وضعوا صورتي في قائمة مزدحمة بالوجوه، وقالوا لكم: احذروهم.
صنّفونا أعداءً خطرين، لمجرد أننا نرفض أن تتحوّل مصر إلى مستنقع للدماء، وأن تُدار على أنها بقرة يحلبها طاغية لا يمانع في حرق البلاد والعباد، كي ينعم بطول البقاء، هو وعائلته وحاشيته فوق أجساد الجميع... سأقول لكم لماذا يجب أن تحذروني.
احذروني، لأنني حذّرت من تلبية دعوة القتلة إلى حضور حفل الدماء قبل الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وكتبت وتكلمت، وقلت إن دم المصري على المصري حرام، وإن مصر تعيش الآن حالة عنصرية شوفينية بامتياز، تجعلنا قريبين للغاية من قيم الهولوكوست والتطهير العرقي، بعد أن انتقلنا من شوفينيةٍ سياسيةٍ تقوم على استباحة المختلفين، واستئصالهم، وإزاحتهم من المشهد السياسي، إلى عنصرية مجتمعية متعصبة، تضخ خطابا ينفى المواطنة والإنسانية عن قطاعاتٍ واسعة من المصريين، ويضعها فى مرتبة الأعداء يجب إبادتهم واجتثاثهم.
احذروني، لأنني رفضت، منذ البداية، تلك اللعبة غير الأخلاقية التى تقوم على صناعة عدو تُلصق به كل الشرور والآثام، وتعلّق عليه الأخطاء والكوارث السابقة والحالية. باختصار، يتم تصويره في حالة شيطانية كاملة، لكي ينعم من عداه بحالةٍ ملائكيةٍ مزيفة، تفتح المجال للفسدة والمطبعين والمجرمين، لكي يغسلوا تاريخهم، ويداروا سوءاتهم، ويدفنوا فضائحهم وجرائمهم.
احذروني، لأنني قلت إن ما يجرى من استباحةٍ لدماء المصريين، واسترخاص حياتهم، وامتهان حقوقهم كموتى بعد قتلهم، ليس له تعريفٌ سوى أنه ردّة حضارية عنيفة، وانسلاخ من قيمٍ تجسّد الحد الأدنى من الفطرة الإنسانية السوية.
احذروني، لأنني حذّرت من نجاح الانقلابيين فى استدعاء الجزء المعتم من الوجود الإنساني، وإطلاق أسوأ ما فى الشخصية المصرية من نوازع وحشية، بحيث صار المجتمع يمور برغبات الانتقام والتلذّذ بالدماء، واستعذاب التضليل والتزييف وقلب الحقائق، لينعم المجرم بإجرامه، ويُساق الضحايا إلى الجحيم.
ولأنني قلت وقتها إن شبح دفع البلاد إلى سعير احتراب أهلي لم يكن قريبا كما هو في هذه اللحظات العصيبة، خصوصا مع ارتفاع نبرة تأليب الشعب ضد قطاع آخر عريض وأصيل من أبناء مصر إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في شراستها وانسلاخها عن كل منطق إنساني.
احذروني، لأنني ناديت على عقلاء الأمة، قبل مذبحة رابعة العدوية، أن يفعلوا شيئا لكبح جماح المندفعين إلى المحرقة، يكون لزاما على كل مواطن مصري أن يستدعي ضميره، ويستنهض فطرته السوية، قبل أن يكون مجرّد سكينٍ يغرسه آخرون في كبد جاره أو قلب صديقه، أو حتى في جسد عابر سبيل.
احذروني، لأنني رفضت ما قلت عنه "هذا الرقص الثوري الماجن على إيقاع الوعود بالتدفقات المالية والنفطية من دول خليجية، ليس بينها وبين ثورة 25 يناير عمار، والذي يذكّر بأغنية شديدة الإسفاف، فى فيلم منقوع فى الإثارة والقتامة والدماء، أدّاها الممثل خالد الصاوي في علبة ليل، وبعض كلامها يقول "وبحيي السعودية والأمم العربية وبمسّي على الإمارات عشان كلها دولارات". .. الفيلم اسمه "كباريه" والأغنية لمطربٍ يحتفى بالأموال التي تنهمر على رأسه وفوق أجساد عارية تتمايل على أنغام أغنيته.
احذروني، لأنني أنتمي لقيم ثورة يناير التي لم تستحل الدماء والمنشآت والممتلكات، ولم تتعامل مع أتباع مبارك باعتبارهم احتلالا يجب تطهير مصر منه.. ولم تطرب لقتل مؤيدى النظام، ولم ترقص فرحا فوق جثثهم، ولم تستحل دماءهم أو تسترخصها وتعتبرها بلا ثمن.
جسّدت ثورة يناير أرقى تجليات الإنسانية المصرية وقيم التحضر المحترمة. لم نسمع أن ثوار يناير رقصوا فوق جثة خصمٍ لهم أو مثلوا بها، ولم نعرف أن صوتا منها خرج يستبيح روحا مصرية، أو يستحل جسد إنسان.
احذروني، لأنني قلت لمن باعوا لحم الوطن، ونهشوا لحم المواطن، أن الوطنية ليست أن تحافظ، فقط، على الوطن بحدوده الجغرافية، وسلامة أراضيه، بل أن تفعل ذلك، بالقدر ذاته، والوضوح عينه، في المحافظة على الحدود الإنسانية للوطن، وضمان سلامة قواه الأخلاقية والعقلية.
احذروني، لأنني رفضت أن تقع مصر فريسةً في يد قرصان صُنِعَ في إسرائيل، يرسل الآباء إلى الموت، ويقيم للأبناء حفلاتٍ يستعرض فيها إنسانياته الكاذبة، وقوته الزائفة في معركةٍ عنوانها الحرب على الإرهاب، وجوهرُها تثبيت الجنرال الذي يتغذّى على الدم في السلطة، ومن خلفه أسرابٌ من الطبالين والزمارين وجراثيم "السوشيال الميديا" تنهش كل من يجرؤ على السؤال والمساءلة، وتبتذل الحزن والأسى على ضحايا هذا التحالف الشرير بين الطغيان والإرهاب، الذين يسقطون كل يوم، لا فرق بين مدني وعسكري.
احذروني، لأنني تألمت لسفك دماء المصريبن، وقلت إن الذين قتلوا في ميداني رابعة العدوية والنهضة، والذين يموتون في الأكمنة هم أبناؤنا وأخوتنا، مثلهم مثل الذين يموتون في الزنازين وأقبية التعذيب، كلهم من أهالينا ودمنا ولحمنا. نحزن عليهم، ونتألم لموتهم غدرًا وغيلة، في لعبةٍ قذرة بين إرهابيْن، إرهاب في قصر الحكم وآخر في كهوف الجبال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق