الفارق الإنساني بين الحقوق النسوية واليسار الجندري
هناك قضية مهمة، بل أساسٌ فلسفي وقانوني فكري، يعني التخلّي عنه، بكل بساطة، التنازل عن الحقيقة التي تُبصر بها الأسرة البشرية آفاق التنوير العقلي. وبدون إقرار هذا الأساس، لا معنى لفرز قواعد الضمير العالمية، أو مؤشرات الحرية الشخصية والمجتمعية، ثم إعادة وضعها في إطارٍ كوني أو قارّي أو إقليمي أو قُطري، أو حتى تفاهم لأي مجتمع بشري، على الأرض.
هذا الأساس هو موازين قياس الفكرة، وفهم أي دعوى اجتماعية، لصالح الإنسانية، على ماذا تقيس هذه الأفكار والدعوات، وما هو برنامج تحريرها الواضح، وما هي قواعد القبول أو الرد العلمي والأخلاقي عليها، وهل أخذت مساحتها قبل تمكينها من المجتمع، أو اتخاذ برامج قانونية قهرية ضد من يخالفها، ويخالف الحرية المعارضة لها؟
هل أُتيحت لهذه الفكرة ولمعارضتها المساحة المطلوبة المحتاجة لتزكيتها أو تهذيبها، أو ردّها؟ هل وصلت دراسات علمية إلى مرحلة اليقين العقلي، أو القطعي الكلي؟ وما هو الفرق بين هذه المعادلات الكلية، والنظريات التي تُطرح، بناءً على معاناة ضحايا من المثليين، أو مشاعر وجدان عاطفي، أو حتى تفويج إعلامي أو سيكولوجي، صدر في الأصل بناءً على حالة فراغ ضخمة، عاشها الحوار الفلسفي والقانون الأخلاقي، وعجزت الآلة السياسية عن تحريره، فخضعت لمواسم خطابٍ فرضها الغرب القديم والجديد على المؤسسات الدولية، لهروبه هو ذاته من حسم السؤال في مجتمعه، فتَرَك عملية الجدل لحالة فوضى، تُستخدم اليوم كبازار سياسي، لا علاقة له بحقوق المرأة، بل هو مضّر بها، وبمسيرة الحقوق النسائية المتفقة مع الضمير الأخلاقي.
يحتاج تفكيك هذه المسارات اليوم إلى منصّات مستقلة تمارس حفرياتها الفكرية، ليس بناءً على التفويج المصلحي، ولا على استخدام القضية لإقناع الإنسان المنهك في الجنوب، أو الشمال، بأنه تائهٌ لا عقل له، ولا أخلاق ولا ضمير وجودي ولد معه، من الخلق الأول أو الفطرة، بغض النظر عن المؤمنين بالخالق وغير المؤمنين.
ولكن لا توجد مطلقاً أي نظرية عميقة أو تافهة، تُسقط المفهوم الفطري بأن هذا الخلق يحمل
سمات بيولوجية حاسمة، لم تتخلق في جسم المرأة ولا الرجل بناءً على انحياز عنصري، عند ميلاد العالم (المصادفة)، كما هو موقف ما يُسمى الإلحاد العلمي في قصة الخلق، أو المؤمنين بأن هناك خالقا مبدعا، بما فيها كل قصص التطوّر، لا يمكن أن تصنع مبرّراً مقنعا بنظريات عبثية، فالمسألة هنا ليست أنك مؤمن بخالق أو غير خالق، وإنما مؤمنٌ بتخلق وجودٍ دلائله قطعية أمام عينيك.
وتبرز أوّل قاعدة حين يحرّر السؤال: لماذا يعجز المؤمنون بعبثية الاختلاف البيولوجي، وعلاقته بالنفس والمشاعر والوجدان الضميري، عن فهم مساحة الرد والتوضيح من رحلة التاريخ الطبيعي للبشرية، حتى العلم النفسي الحديث؟ لا تقوم القضية على جدلٍ ديني، وإنما طرح هذه التساؤل العلمي والأخلاقي هو حق للنفس البشرية، لا يترتب عليه الإضرار بالضحية أو الممارس الجنسي كلٌ وتصنيفه، وإنما لماذا يُمنع المجتمع من مجرّد سماع الجواب، ولماذا تُفرض المثلية على العالم؟ ولماذا تُقهر الأسرة على وضع طفولتها تحت هذا الضخ النفسي والاجتماعي والإعلامي الذي قد تحرّكه مصالح سياسية، وما هي الدلائل العلمية لتبرير هذا القهر، وما هي مصلحة الأسرة من الخروج من مفهوم العائلة المتفاهمة التي لا توجد فيها سلطة ذكورية، ولا بطش، بل تقاسم أخلاقي يسوده الحب الرومانسي، والرعاية الأبوية لا التسلط. لماذا يُسقط هذا المفهوم، ولماذا عليّ أن أقبل إسقاطه كإنسان مؤمن أو غير مؤمن بدين؟
من الواضح تماماً أن ثمّة خلطا بشأن مفهوم الحقوق النسوية، وحين نقول مفهوما، وقل إن شئت عقيدة إيمان إنساني، الأوسع من مصطلح الحركة النسوية، وهذا المفهوم بالضبط حين يُعزل عن دائرة الخطاب الديني المزيّف، أو الذي دمج بتفسيرات شيوخ متشدّدين أو خصوم لائكيين شرسين، لا علاقة لهم بالموضوعية، تستطيع حينها أن توجد تحته ميثاقا أخلاقيا مشدّدا لحقوق المرأة ورعاية أحوالها.
وتقدير مواضع الضعف الطبيعي التي تعانيها المرأة بسبب فكرة التكامل الخلقي، كما ينقص
الرجل من دينه وعقله، حين ينزع إلى الغِلظة أو العنف، لمعالجة هذا النقص الذي يعتريه، فتكون عاطفة المرأة هي الميزان، حينها نخرج من جدل النص حين يكون قطعياً، ونفهم فلسفته ومقاصده، محالاً إلى الأصل لا منبتاً عنه.
ثم انطلق في رحلة كفاح، تُقر بل تؤمن بأن في العالم موازين وظروفا جاهلية، بتفسير الإسلام، وربما بعض الأديان، وعنصرية حقيرة ضد المرأة بمفهوم الثقافة، فما يطرحه مفهوم الحقوق النسوية هو انتزاع أو إقرار هذه الحقوق، لأجل المعادلة الفطرية للعالم، كل العالم، وهي أن الأسرة الأصلية الممتدة من عشرات آلاف السنين، والتي تم التوارث عبرها حتى جيلنا اليوم، قوامها معادلة الحب والتفاهم والود بين الرجل والمرأة.
عبر هذا الأمر، يُنظر إلى ثقافة المجتمعات، وهي ثقافة تحتاج أيضاً أن تستدعي أن خلاف المرأة والرجل وجدالهما أيضاً لهما صور خلاف ونزاع وظلم، في عالم الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة، بناءً على طبيعة الناس في أفكارهم ونزعة الخير والشر، غير أن منظومة المعالجة بين الزوجين ليست في كل ظرف هي المعالجة نفسها التي تنتزع عبرها حقوق المعنفة، أو يعاقب عبرها الجاني الذي تسبب على المرأة بضرر أو عنف. وإنما بتقدير مواسم الخلاف التي قد تعقبها مسارات حب وتفاهم، وأن منظور أو سلوك الحكمة، والملاطفة التي ينتهي بها هذا الإشكال، قد تتحوّل إلى محطة ود جديدة. وهنا يبرز لنا الفارق مع ما يطرحه اليسار الجندري، من تحويل كل خلاف، وكل مشكلة، إلى معادلة الحرب العدمية بين الرجل والمرأة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق