الخميس، 11 أبريل 2024

طوفان تلقف ما يأفكون

 طوفان تلقف ما يأفكون 

بقلم: بوشرة بوطيب

تلتقط أعيننا كل يوم من عدسات الإعلام طوفانا من الفلسطينيين يتنقلون ويجبرون على النزوح من جهة إلى جهة في ربوع القطاع المدمر بنيانه، المشرد أهله، المنكوبة مساكنه، الغاصة مستشفياته بالجرحى ومن يصارعون المنية ومن استشهدوا، ناهيك عن الجوع والعري. يمنع المحتل الإمداد والغذاء والدواء ويحتجزه الجار بالجنب والجار ذو القربى تطبيعا واستبدادا، ويكثر المتفرجون الناعقون في كل واد يهيمون، والإنسان الغزاوي والمقدسي يطحن بين مطرقة الاستكبار العالمي وسندان صمت الاستبداد العربي.

 نفر بقلوبنا المثخنة حيث يخاطب الوحي في رحمة بالغة ابن آدم ” أيها الإنسان” تحذيرا وموعظة ونهيا رحيما بتركيبته وخلقه: فالله عز وجل أعلم بضعفه وقلة حيلته حين غفلته وجحوده في مجابهة الطغيان، وهو أدرى بمكامن قوته إذا ارتقى قلبه إلى مراتب الإيمان.

وفي المقابل تسمع نداءات كثر من أباطرة التسويق العالمي في كل المجالات تمجد تطوره، وصنعه وابتكاره، واستهلاكه وما تعلم وعلم وفاز وحاز و … كلها تسخر لهذا المخلوق الطيني، لكنها تخلو من” الإنسان” ورحمة “الإنسان”. وحده الوحي ذو المصدر الإلهي من كرم الإنسان ورحمه، وهيأ له سبل الحرية في الهداية والعبودية لله وحده، فلا حق لأحد أن يغتصب حرية غيره في العيش الكريم أو ينتهك الكرامة الآدمية، أو يمعن في تجويعه وتقتيله ببطء.

طوف غزة:

أغرق الاستكبار والاستبداد قطاع غزة في سيل عرم من العدوان والتهجير القسري والتجويع والتعطيش وإبادة الإنسانية، وفجأة تبخرت سمفونيته النشاز عبر الأثيرالعالمي والدولي ” الميز ضد المرأة والطفل”، واحترقت أسطوانة “حقوق الإنسان” بين دخان ألسنة حرب الإبادة على قطاع غزة. تخفت أجهزة العالم الحقوقية بمنظماتها ومحاكمها وجمعياتها أمام فيتو الشرطي الأمريكي الذي يكنس كل إدانة أممية في حق المجرم الصهيوني. يتوهم الإجرام الوحشي إن ظن أنه أوقف بقية الخير الكامن في فطرة الإنسان عامة، تحتاج بصيص نور وكشف حقيقة وهزة قوية تفرغ القلب من الوهن والخنوع للمألوف في الحروب، صوت يجلجل بقوة يا ناس إنها حرب غير عادية، إنها حرب على الإنسان، على الإسلام وكفى.

 تكاثفت جهود ” الإنسان” في غزة وأحرار الشعوب الإسلامية والعربية والعالم الغربي الذي استيقظ على مذابح وإبادة في بضع شهور أطاحت بالآلاف ناهيك عن أمثالهم تحت الأنقاض أشلاء ومزقا. خرجت ووقفت، وتكبدت زحام مسيرات تندد وتصرخ وتطلق الحناجر أن أوقفوا حرب الإبادة العنصرية، لتصنع غزة الأبية منه وبمعية مقاومتها طوفا يشد بعضه بعضا، يحملون عليه بقايا صمودهم الخالد أمام الطاغوت المغتصب للأرض والإنسان والفطرة. و يشمخون باستماتتهم التاريخية بعد أن طاف وجال حولها الاستكبار شمالا وجنوبا وغربا وشرقا بأحدث آلياته بعنجيهته الوحشية وعنصريته الحاقدة على “الإنسان”.

في منتصف 2023 و2024 مرحلة تاريخية من تاريخ الإنسانية المقاومة للظلم وكل أشكال الحيف والتمييز والاستئصال العرقي والديني. 

عدوان الاستكبار العالمي نفث نفثة مصدور على الأرض المباركة ليتبر ما علا تتبيرا ولينتقم من انبعاث وصمود من صندوق الحصار كان قد شدده وصنعه ليس على غزة فحسب بل على انبعاث الإيمان من أرض الإسلام. تحمله عقول وقلوب وسواعد مسلمة تنصر الوحي والنبوة العصماء. 

فالعلو اليهودي لا حدود لجوره وقسوة طغيانه عبر التاريخ، بمعونة أدعياء النصرانية اللائكية المتصهينة لطالما كتموا أنفاس صحوة الإسلام في شباب وأجيال المسلمين، في كل المربعات التي استهدفوها بالاستعمار الامبريالي قبل ذلك بعصابة الاستبداد وخنجر التطبيع و وحشية الاحتلال.

 يمارس المحتل الغاصب الدمار الشامل للبنيان والبنى التحتية، ويتسبب في مجاعة إنسانية يذهب ضحيتها الرضع والأطفال والمسنون جراء سوء التغذية. يعيش قطاع بدون مخابز أو أرغفة خبز تقتات منها الأسر. 

تضطر النساء والرجال معا إلى صنع الرغيف من علف الحيوانات. وأمام سياسة التعطيش والتجويع تتفشى الأوبئة وتحصد بقية النازحين. 

إنسانية تحتضر في بقعة أرضية صغيرة من العالم، والاستكبار يكبل أيدي من تحركت فيهم الرحم الإنسانية ليسعفوا أهل غزة الشرفاء، ويبقى الجدار العازل المتمثل في دويلات التطبيع مانعا لكل نبرة تصدح بفلسطين، ومعوقا سير كل حر مؤمن يفتح الأفهام ويوقظ الألباب النيام عما يعمله الظالمون المستكبرون.

 الاستكبار العالمي وعلو الصهيونية واختراقها لربوع الأمة المحمدية بإيعاز وترحيب مكشوف مقيت من الأنظمة الحاكمة طوفان يجتاح الأمة، ويجرف معالم وباطن الإنسانية المكرمة من لدن خالق الكون البر الرحيم. 

ظلام جارف ألقى عصا التطواف في أرض ومسجد، وهوية، وإنسان، وغذاء، وأمن الشعوب الإسلامية بل والعالم. 

وفي غفلة من أهلها ووهنهم وركونهم للفساد والإفساد استساغ المقام منذ قرون. لا يؤرق راحته في خيرات هذه الأمة إلا انبعاث الأصوات الحرة المؤمنة بالقضية المركزية العظمى والمجاهرة بالحق ضد الباطل، والمغيرة لأوثان الجاهلية وروح الجاهلية التي أردت الإنسان مسخا والمرأة دمية والطفل ملوث الفطرة عابثا.

الطوفان، أصحاب السفينة والمغرقون:

ظلم الكفر والعلو اجتمعا في الاستكبار الصهيوني، لم يحاربوا ويعاندوا الوحي فحسب، بل هي حرب استئصالية عرقية دينية إنسانية تبيد مدنيين نازحين منكوبين ومرضى ورضع في المستشفيات وفي سيارات الإسعاف وعلى مرأى من العالم الإسلامي والغربي معا. 

هم ابتلاء الأمة في هذا القرن، كما الصهيونية وإفسادها، سرطان خبيث يجتاح جسمها وجسوم العالم بأسره: 

فالشعوب الإسلامية القابعة تحت نير الاستبداد تندد بما أوتيت من جهد تندب عجزها عن إيقاف إجرامه حينا، وحينا آخر تستمطر من نور الوحي بشارات النصر على كل مستكبر جبار عنيد.

يقول الله تعالى مخاطبا نبيه وصفيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واعظا إياه ومربيا بقصص من سبقه من الأمم السابقة المكذبة لإخوته الأنبياء صلوات ربي عليهم أجمعين: ” ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات” (الرعد،6) هذه المثلات التي تحدث عنها القرآن عقوبات منكلات كما يتفضل شراح الآية من سادتنا الأئمة رحمهم الله. يحدث بها الله حبيبه ورسوله “أن قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناها مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ، وأن لولا حلمه وعفوه(سبحانه) لعالجهم بالعقوبة كما قال تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة”[1]. ومن مثلات القرآن طوفان[2] قوم نوح وقوم موسى عليهم السلام. سيول عذاب وقهر وغرق بألوان شتى، يقول تعالى: “كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا عليهم أبواب السماء بماء منهمر”[3] فتح عليهم السماء وعيون الأرض فأغرقت كل جاحد جبار في الأرض. 

ولما عتا الطاغية فرعون وملأه على البشر والأرض، سلط عليه الله الطوفان وآيات من العذاب تقتلع جبروتهم وتسومهم السوء، “فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع آيات مفصلات”[4].

 تشترك عقوبة الطوفان في محاربة النبوة ورسالة الله للناس بالعبودية له والعدل في الأرض. 

طوفان يبعثه الله كلما حوربت النبوة والحق، واستفحل الظلم وطغى واستكبر الإنسان في ملك الله سبحانه، يقول المولى البر جل وعلا: ” وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون”[5]

إن المثلات للأمم التي سبقت أمة الإسلام المحمدية لتتذكر وتتدبر قرآنها وتتبع نبيها وتنهج منهاجه القويم وشرعة الله في الأرض يقول الله تعالى ” فهل من مدكر”[6].

طوفان الطغيان في الألفية الثالثة أعتى وأمر يجتاح مطره الغالب الظالم المستبد الشعوب المستضعفة في ديار الإسلام، ويسلخ جلد الإنسانية والآدمية في فلسطين. فالوحي والسيرة العطرة تؤكدان لإنسان اليوم أنه لا يركب سفينة النجاة والعبور من دنيا الجور إلى رحمة الله في هذا العالم إلا من جاور الحق وصدق وبلغ، واتبع النبوة وعلم وعمل نصرة وانتصارا لله كما يخبر القرآن الكريم والسنة الشريفة.

طوفان يجوس خلال الديار:

حجبت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودوام توسله لربه أن لا يصيب أمته من بعده بهذه المثلاث، فرحمه إلا من ابتلاء بأس بعضها ببعض. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الخسف والرجم…”[7] وفي حديث ثوبان في صحيح مسلم حين سأل الرسول ألا يعذب أمته بالسنة العامة[8] وأن لا يسلط عليهم عدوا أجابه ربه” يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا”[9] يعلق العسقلاني رحمه الله على مسألة عدم تعميم تسليط العدو على كافة الأمة قائلا: ” فلما كان تسليط العدو الكافر قد يقع على بعض المؤمنين لكنه لا يقع عموما فكذلك الخسف والقذف”[10].

تتقلب الأمة في سنن الله وتعيش أقدار الوحي:” وتلك الأيام نداولها بين الناس”، تداول يكشف به الله خيرية هذه الأمة التي رحمها الله من الاستئصال القدري كسابقاتها في كل حقبة زمنية. يبرز فيها المؤمنون الصادقون قياما بالقسط دعوة وجهادا. 

طوفان الأقصى دوران قدري يحط الرحال في أصقاع الأمة والعالم لتتكشف مخازي الطاغوت الأكبر التي طالما زينها بأصباغ حضارة الدواب والمادة والتقدم على حساب آدمية الإنسان. الاستكبار العالمي الدركي المستأسد الذي ملك البلاد والعباد استعمر الكون بجبروته.

في الطوفان برز الرجال والإيمان والإحسان يقينا في قضية أرض ومسجد وأمة هي وصايا القرآن والنبوة أن تحفظ ويجاهد في سبيلها. عصابة مؤمنة تدافع عن عقيدة راسخة تجوس فوق الأرض وفي الأنفاق لا يضرها من خذلها من الجيران والإخوان في الملة والدين فالله عاصمها من لأواء الطوفان. الجوس عند ابن عباس بمعنى “مشوا بين منازلهم ” وقال الزجاج طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحدهم لم يقتلوه، والجوس طلب الشيء باستقصاء وقال الفراء قتلوهم بين بيوتهم وقال مجاهد يتجسسون أخبارهم”[11]

وعد الله قدر مؤكد لا يرتاب فيه قلب مؤمن موقن بالآخرة وهو يرى المقاومة في غزة وأكناف فلسطين تلقم أفواه الصهاينة علقم الهزيمة وتنكل بألويتهم العسكرية.

فتحت غزة أمام المسلمين جبهة كبرى في استقصاء داء الدعة والركون للدنيا وبيع الآخرة بثمن بخس. البون شاسع بين المسلم وربه ودينه وآخرته. 

غزة صنع الله في الأرض تعلم الاستماتة والفداء لأجل الحق ومعنى ” سبيل الله”. مدرسة تعلم المسلمين أن الغاية الله و ما دونها من أرض وولد ومال وبنيان وعيش، وسائل وجسور للعبور في أرض استخلفنا فيها الله عز وجل نتحاكم فيها تحت إمرته وناموسه، وليس إلى الطاغوت، ندافع فيه الباطل بالحق والجاهلية بالإيمان والموعد الله سبحانه والدار الآخرة.


[1] تفسير ابن كثير سورة الرعد الآية 6.

[2] ومن معانيه طغيان الماء أو العذاب أو الموت.

[3] القمر، (9-11)

[4] الأعراف، 133

[5] الزخرف، 48

[6] القمر، 51

[7] فتح الباري أبي حجر العسقلاني. ج9 رقم 4628 ، ص178 -179

[8] الجدب والقحط والمجاعة التي تستأصلهم جميعا.

[9] فتح الباري نفسه ص179

[10] نفسه

[11] ابن الجوزي ، زاد المسير الباحث القرآنيhttps // www tafssir :appli

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق