الجمعة، 19 أبريل 2024

هل يستقيل الأمين العام للأمم المتحدة؟


هل يستقيل الأمين العام للأمم المتحدة؟

لم يفشل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش طيلة تاريخ عمله فيها مثلما فشل في إدارة أزمة حرب الإبادة الجماعية الشاملة، التي يقودها التحالف الصهيو-أميركي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر، مسطّرة أكبر مأساة إنسانية من نوعها عرفها التاريخ.

وها هو غوتيريش، وقبل أن يغادر أروقة الأمم المتحدة التي قضى فيها قرابة ٢٠ عاماً؛ يرى كيف تتساقط أنظمة الأمم المتحدة وتتطاير مواثيقها ودساتيرها وقوانينها الدولية والإنسانية أمام القاصي والداني، لتدوس عليها أقدام الجبابرة والطغاة وسدنة المعبد العالمي الجديد، دون أن يجرؤ على الاستنكار أو اللوم؛ وعندما حاول ذلك في إحدى المرات انهالت فوق رأسه الاتهامات، بل والتجريح الشائن.. فهل يثأر غوتيريش لكرامته وللإنسانية التي تعيش أسوأ تجاربها، وللمعذبين والمسحوقين والمضطهدين؟ هل يثأر لهم ويستقيل من منصبه احتجاجاً على فشل الأمم المتحدة وعجزها عن تطبيق مواثيقها ومبادئها إلا على الضعفاء والمعوزين؟

أصبح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بحاجة ماسة إلى أن يتحلى بالشجاعة الكافية ويستقيل من منصبه، الذي لم يبق له فيه سوى أقل من ثلاثة أعوام، حتى يحترم تاريخه ويحافظ على رصيده من أن يتراجع أكثر من ذلك.

مسيرة حافلة بالنجاحات

تكلّلت مسيرة عمل رئيس الوزراء البرتغالي الأسبق، أنطونيو غوتيريش، بالنجاح منذ بدايات حياته العملية؛ حيث التحق بالعمل السياسي بعد تخرجه وحصوله على بكالوريوس الهندسة، وشارك في الاحتجاجات التي أطاحت بحكومة مارسيلو كايتانو عام ١٩٧٤م، وساهم في تأسيس الحزب الاشتراكي، وصار أمينه العام سنة ١٩٩٢م.

أصبح غوتيريش عضواً في البرلمان البرتغالي عام ١٩٧٦م وعمره لم يتجاوز بعد ٢٧ عاماً، واستمر فيه حتى عام ١٩٩٣م، وكان عضواً في مجلس الدولة البرتغالي في الفترة بين سنتي ١٩٩١ و٢٠٠٢، ورئيساً للوزراء لفترتين متتاليتين من ١٩٩٥ إلى ٢٠٠٢م. كما ترأس منظمة الأممية الاشتراكية  في الفترة (١٩٩٩- ٢٠٠٥م) بعد أن كان نائباً لرئيسها في الفترة من ١٩٩٢ إلى ١٩٩٩م، وهي منظمة عالمية تضم الأحزاب السياسية من التيار الديمقراطي الاجتماعي.

في عام ٢٠٠٥م، التحق غوتيريش بالأمم المتحدة كمفوضٍ سامٍ لشؤون اللاجئين، لمدة عشر سنوات حتى عام ٢٠١٥م، وكانت فترة كثيرة الأزمات والصراعات، ارتفع فيها عدد المشردين في العالم من ٣٨ مليوناً عام ٢٠٠٥م إلى أكثر من ٦٠ مليوناً عام ٢٠١٥م. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من عام ٢٠١٦م تم اختياره ليكون خلفاً للأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، وباشر عمله أميناً عاماً للأمم المتحدة مطلع يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧م، لمدة خمس سنوات، تم تمديدها لفترة ثانية تنتهي في ديسمبر/ كانون الأول ٢٠٢٧م. وعندما صدرت الموافقة على تعيينه أميناً عاماً للأمم المتحدة في أكتوبر ٢٠١٦م؛ تعهّد غوتيريش بخدمة الفئات الأكثر ضعفاً في العالم، وخاصة ضحايا الصراع والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان.

كانت سنوات غوتيريش في الأمم المتحدة حافلة بالعمل من أجل إنهاء الصراعات وإحلال السلام، وتعزيز التنمية ومحاربة الفقر والمرض والتمييز، إلا أنها لم تنجح في أن تحقق شيئاً للشعب الفلسطيني على صعيد تنفيذ القرارات الدولية، التي تنهي معاناته وترفع الظلم الذي يتعرض له على أيدي الكيان الصهيوني.

في عام 2020م، منحه المؤتمر اليهودي العالمي جائزة ثيودور هيرتزل. وفي كلمته بهذه المناسبة؛ وصف رئيس المؤتمر، رونالد لودر، غوتيريش بأنه "صديق حقيقي ومخلص للشعب اليهودي ودولة إسرائيل"، وأنه "صوت الإنصاف والعدالة الذي كانت دولة إسرائيل والشعب اليهودي ينتظرانه في الأمم المتحدة منذ فترة طويلة جداً". فهل كان هذا هو السبب الذي يقف وراء فشل غوتيريش تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني؟

إن استقالة غوتيريش هي خير برهان على صدق إيمانه وقوّة مبادئه وصدق وعوده، وهي خير دليل على انحيازه إلى جانب الإنسانية الجريحة التي فشل قادة الحضارة الحديثة وزعماء النظام العالمي القائم في تضميد جراحها وتسكين آلامها.

فشل متسلسل

فضحت حرب الإبادة الجماعية الشاملة في قطاع غزة أطرافاً عديدة، كان من بينها الأمم المتحدة، حيث فضحت ازدواجية المعايير التي تتحكم في قراراتها، وكشفت عن الجهات التي تتسلط عليها وتفرض عليها أجندتها بما يتناسب مع مصالحها، بغض النظر عن الثمن الذي تدفعه الأطراف المتضررة من هذه القرارات؛ كما كشفت الحرب الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى فشل غوتيريش -ومَن قبله- في حل القضية الفلسطينية وتمكين الفلسطينيين من استعادة حقوقهم.. فشل غوتيريش في قطاع غزة فشلاً ذريعاً، لم يترك مجالاً أو جانباً من الجوانب إلا وأتى عليه:

  • فشل في حماية المدنيين العزّل من الشيوخ والنساء والأطفال والعاطلين عن العمل.
  • فشل في إيقاف إطلاق النار، والدفع باتجاه حل الأزمة بالطرق السلمية.
  • فشل في إنفاذ قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
  • فشل في إدخال المساعدات الإنسانية للنازحين والجرحى والقتلى.
  • فشل في حماية مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية والصحية والتعليمية.
  • فشل في حماية المستشفيات والمستوصفات والأطباء والممرضين وسيارات الإسعاف وطواقمها.
  • فشل في حماية المؤسسات الإعلامية وطواقمها من الصحفيين والمصورين.
  • فشل في حماية المؤسسات التعليمية والاجتماعية والخيرية.
  • فشل في حماية دور العبادة والأسواق وأفران الخبز والمراكز الثقافية والآثار والمزارع وآبار المياه.
  • فشل في إيقاف المجازر المباشرة والتنكيل بالأحياء والأموات، وهدم المقابر ونبش القبور.
  • فشل في منع تدمير البنى الفوقية والتحتية بكافة قطاعاتها، ومنع قطع الكهرباء والماء.
  • فشل في إدخال الطواقم العالمية الإغاثية والإعلامية والصحية ولجان المراقبة الدولية؛ للوقوف على ما يحدث وتوثيقه وتقديمه للأجهزة الأممية المختصة.
  • فشل في جمع أدلة حرب الإبادة الجماعية الشاملة التي يقوم بها الكيان الصهيوني في قطاع غزة.

هذا غيض من فيض، إذ لم يبق شيء لم تفشل فيه الأمم المتحدة إزاء الحرب الدائرة في قطاع غزة. وقد سارع غوتيريش إلى إدانة هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣م، ولكنه عندما أعرب عن استيائه من الحصار التي فرضه الكيان الصهيوني على قطاع غزة، والعدد الهائل من القتلى والجرحى الذين يتساقطون هناك، تحت القصف الذي يدك المباني على من فيها على مدار الساعة، مشيراً إلى أن هجوم حماس لم يأت من فراغ، وإنما ترجع جذوره إلى ٥٦ عاماً من الاحتلال؛ حينها طالبه سفير الكيان الصهيوني لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان بالاستقالة، ووصف تصريحاته بأنها تشهير بالدم النقي (اليهودي).

ستكون هذه الاستقالة بمثابة إعلان لانهيار النظام العالمي الظالم المنافق، الذي لا يخدم سوى مصالح أسياده، وإعلان عدم صلاحيته للعمل أكثر من ذلك.

وإلى يومنا هذا لم يجرؤ غوتيريش على المطالبة بإجراء تحقيق كامل لما يجري في قطاع غزة، على غرار ما فعل عندما دعا في فبراير/ شباط الماضي إلى إجراء تحقيق مماثل كامل في وفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني.

واحتراماً لتاريخه، وحفاظاً على رصيده من أن يتراجع أكثر من ذلك؛ فإن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أصبح بحاجة ماسة إلى أن يتحلى بالشجاعة الكافية ليستقيل من منصبه، الذي لم يبق له فيه سوى أقل من ثلاثة أعوام.

إن استقالة غوتيريش من منصبه هي أفضل ما يختم به حياته المهنية التي امتدت لما يقرب من ٥٠ عاماً من عمره البالغ ٧٥ عاماً، بين السياسة والحكم والعمل الإنساني، وهي خير برهان على صدق إيمانه وقوّة مبادئه وصدق وعوده التي عرف بها في حياته السياسية وأكّد عليها عندما استلم عمله أميناً عاماً للأمم المتحدة، وهي خير دليل على انحيازه الدائم إلى جانب الإنسانية الجريحة التي فشل قادة الحضارة الحديثة وزعماء النظام العالمي القائم في تضميد جراحها وتسكين آلامها.

وستكون هذه الاستقالة بمثابة إعلان لانهيار النظام العالمي الظالم المنافق، الذي لا يخدم سوى مصالح أسياده، وإعلان عدم صلاحيته للعمل أكثر من ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق