الاثنين، 15 أبريل 2024

قبور أحبابي

 

قبور أحبابي

                                

أبريل 15, 2024

إن أوجع ما في الموت أن تفقد وجه من تحب، أن يحول الموت بينك وبين أن تقول له كلمة أخيرة، أن تنظر إليه نظرة وداع تنزع ما فيك من شوق إذا صار على الضفة الأخرى، أن تتمكن من مصافحته فتشعر أن ندى يديه قد أنبت في كفَّيك أنهارًا وجداول من المحبة قبل أن يولّي ظهره للحياة، فلا تراه من بعدها أبدًا.

كثيرون من أهل غزّة فقدوا ذويهم في الحروب قبل أن يحظوا بتلك النظرة أو تلك الهمسة أو تلك اللمسة؛ بل إن بعضهم خرج من بيته على أمل أن يعود لأبيه برغيف خبز، وحين عاد لم يعرف إن كان عاد إلى بيته أو ضلّ الطريق، لِما رأى من أثر التفجير الذي حوّل بيته في لحظات إلى ركام، ودفن تحته من يحب.. إذا كان الحجر قد مُسح فصار غبارًا، فما الذي يتبقى من لحم أبيه من بعدُ؟ سيكون قد صار رمادًا! ولكن.. أيكون قد نجت عيناه من دون جوارحه كلها، فهو يطوف بين الردم والهدم يبحث عنهما؟!

في العيد يتعارف الناس بالتحايا والأفراح، وأما في غزّة فيتعارفون بالشهداء، بالأسماء التي حلّقت في فضاء الحرية، يتعارفون بالدم الذي صبغ أرجوان الأفق فظل ينزف إلى اليوم، يتعارفون بالضحايا، بعدد الآهات التي صَمّتْ سَمْع الكون ولا مجيب، بعدد الصرخات التي تفطّر لها كبد السماء ولا مُصْغٍ، بعدد الظلمات التي زادت ليلَ غزّة وحشةً ولا أنيس.

في العيد تجد طفلاً بين قبرَين مهمَّشَين، لا يبدو منهما إلا قُبّة الرمل الخفيفة، ولا شاهد لأي منهما، تجده حزينًا باكيًا على غير عادة الأطفال في الأعياد، قد تشقّق خدّه مما سال فوقهما من حرّ الدمع، فإذا اقتربتَ منه وسألته: “ماذا تفعل هنا والدنيا عيد؟” نظر إليك نظرة الواجم المؤلَم المستنكِر، كأن عليك أن تعرف ما حل به: “إنني أزور أبويّ؟”.. “هذان قبرا أبويك؟”؛ فيغلبه الدمع ويجيب بهزّة من رأسه.

المقابر ممتلئة بالناس، كأن أهل غزّة في العيد انقسموا إلى قسمين، زائرٍ ومَزور، فأما المزور فأجداث الراحلين، وأما الزائرين فمنْ تبقّى منهم على قيد الحياة.. وكأن من فوقها يحسد من تحتها هامسًا: “لماذا ذهبتم وتركتموني وحيدًا؟”.

فإذا حانت منكَ التفاتة إلى موضع آخر، ستجد أُمًّا قد تلفّعتْ بالسواد، وهي منكبّة على قبر تحضنه، فإذا اقتربتَ منها وحاولت أن تسمع نشيجها، رفعتْ إليكَ وجهًا غطّته ملاءات البؤس الممزّقة، وعينين لم تعودا تبصران لكثرة ما اغرورقتا بالدموع، فإذا سألتَ، أجابك القلب: “إنه قبر ثلاثة من أبنائي جُمِعوا في مكان واحد، بعد أن رحلوا في لحظة واحدة.. إنني لست حزينة على أنهم قد قضَوا بقدر حزني على أن الموت أخذهم مني وهم جوعى، لقد خرجتُ لآتي لهم برغيف خبز ليأكلوا”.. وكان خبزًا ملطّخًا بالدم.

إن المرور بقبور الأحباب يوم العيد ينهض بغصّة لا يمكن أن تذوب، وبنارٍ في الصدر لا يمكن أن تطفئها بحار الكون، وبذكرى تنشب في الروح فتمزّقها، كلما عادَكَ من أصواتهم صوت نُحْتَ نوحَ الحمائم في أبيات بدوي الجبل:




وقبور إِخواني وما أَبقى من السيف الضِّراب

الصامتات وللطيور على مشارفها اصطخاب

أشتاق أحضنها وألثمها وللدمع انسكاب

تحنو الدموع على القبور فَتُورِق الصُّمُّ الصِّلاب

ولها إلينا لهفة ولِطول غربتنا انتحاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق