من يشعل الحرائق في مصر ؟
يعتبر عيسي بن موسي الهاشمي من فحول شعراء العرب وفرسانهم وذوي الرأي والنجدة فيهم ، وكان ولي عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور في بادئ الأمر حتى أرغمه أبو جعفر على التنازل عن ولاية العهد لولد المنصور محمد المهدي ، وقد أنشد عيسى عدة أبيات شهيرة في هذا الموقف صارت مضربا للأمثال
خيرت أمرين ضاع الحزم *** بينهما إما صغار وإما فتنة عمم
ولو هممت مرارا أو أساقيهم *** كأس المنية لولا الله والرحم
ولو فعلت لزالت عنهم نعم *** بكفر أمثالها تستنزل النقم
هذه الأبيات تنتطبق تماما على الأوضاع شديدة الالتهاب والالتباس في مصر اليوم ، آخرها أحداث مساء يوم الخميس بشمال سيناء والتي أسفرت عن مصرع العشرات وإصابة أضعافهم ،أغلبهم من العسكريين ، بعد سلسلة من الهجمات المدروسة والمخططة جيدا على عدة مرتكزات أمنية وقت استرخاء الجميع لمشاهدة مباراة كرة القدم بين الأهلي والزمالك.
ومنذ 3 يوليو ومصر تعيش حالة من عدم الاستقرار والفوضى السياسية والاجتماعية والأمنية بصورة دفعت الكثيرين للتساؤل: أين وعود الاستقرار والأمن الذي كان الباعث الرئيس لحركة 30 يونيو وما تلاها من أحداث جسام في مصر؟
أين ما وعدنا به محركو 3 يوليو من الأمن والأمان وانتهاء الأزمات؟
وما جدوى ما يسمى بخريطة الطريق التي تم الإعلان عنها؟
وهل كتب على المصريين أن يدفعوا فاتورة الفوضى التي هددهم بها المخلوع مبارك؟
الاستقرار كان هو الوتر الأكثر حساسية الذي لعب عليه مدبرو 3 يوليو ، بعد أن أفهموا المصريين أن بعد قرابة الثلاث سنوات من الفوضى والاضطراب، هناك ثمة شيء أسوأ من الديكتاتورية، وأسوأ من غياب الحرية وأسوأ من القمع: اسمه الحرب الأهلية والفوضى.
و"الدول الفاشلة" التي تمتد حاليا من باكستان إلى مالي تبين أن البديل عن الديكتاتورية ليس بالضرورة ديمقراطية، وإنما هي الفوضى في كثير من الأحيان.
وغالب من يعتقد أن الاستقرار أهم مطلب أنه لا يمنح أهمية كبيرة للحرية وحقوق الإنسان ، والاجابة المرحة عنده هي : أن الديكتاتورية في كثير من الأحيان أفضل من الفوضى.
ولو أعطي الناس حق الاختيار بين دكتاتورية تعمل وبين دولة فاشلة، فهم في كثير من الأحيان سوف ينظرون إلى الدكتاتورية باعتبارها أهون الشرين.
ومعظم الناس يعتقدون بأن معيشة آمنة وقدر ما من العدالة، هي أكثر أهمية من الحريات الفردية والديمقراطية المشكوك بها.
وعلى هذا المنوال وتلكم الرؤية بنى مدبرو 3 يوليو خطة الطريق ، ومن ثم أصبح الاستقرار مثل " كعب أخيل " تبرر به كل الانتهاكات، وتم تبوير الحياة السياسية بمنتهى القوة، وتكميم أصوات المعارضة بشتى أطيافها بمنتهى القمع ، وسرى التشقق الاجتماعي والشعبي بفعل الفاشية الأمنية والإعلامية والقضائية بالغة الضراوة طوليا وعرضيا، وامتلئت المعتقلات بالمعارضين السياسيين، حتى فاق عددهم الأربعين ألفا في رقم قياسي لم تعرفه مصر من قبل.
أما أبرز استحقاقات البحث عن الاستقرار والمتاجرة به ، أن مصر فعليا تحولت لاقطاع عسكري يتحكم في إدراة شئونها بصورة غير مسبوقة الجنرالات، وفي أعقاب استيلاء الجيش على السلطة، زاد حضور شخصيات عسكرية رفيعة في مناصب سياسية مؤثرة إلى جانب الرئاسة.
فقد عُين الجنرال خالد عبد السلام الصدر أمينا عاما لمجلس النواب المصري.
والصدر هو أول ضابط عسكري في تاريخ مصر يتولى هذه المهمة.
ومن مجموع 27 محافظة، 19 منها أو 70 في المائة يحكمها جنرالات، وفي اثنين منها الحاكم هو لواء شرطة والبقية من الجيش، وتضم قائمة المحافظين العسكريين اثنين على الأقل من كبار ضباط الاستخبارات العسكرية سابقا، ويتمتعون بسلطة كبيرة على المدن والبلدات والقرى داخل محافظاتهم، وفي المحافظات الثمانية التي لا يحكمها جنرال (القاهرة، الجيزة، بني سويف، كفر الشيخ، القليوبية، الفيوم، الشرقية والمنوفية) يشغل كبار الضباط فيها منصب نائب المحافظ أو الأمين العام للمحافظة.
وبالإضافة إلى المناصب العسكرية والسياسية التي يسيطر عليها الجنرالات في مصر، فإنهم أيضا يشغلون مجموعة من وظائف الدولة المدنية، إذ إن رئيس هيئة الإحصاءات الوطني في مصر الجهاز المركزي للتعبئة هو ضابط في الجيش، اللواء أبو بكر الجندي، وقائد الهيئة المصرية لسلامة الملاحة البحرية هو الجنرال طارق غانم برتبة "لواء بحري".
ورؤساء كل سلطات الموانئ الرئيسية الأربعة في مصر هم جنرالات أيضا: رئيس هيئة ميناء بورسعيد هو اللواء بحري مدحت مصطفى، وفى دمياط، الجنرال سامي سليمان محمود يتولى المهمة.
رئيس هيئة ميناء الإسكندرية هو الجنرال عبد القادر درويش، ورئيس هيئة موانئ البحر الأحمر هو الجنرال هشام أبو سينا.
كما إن رئيس هيئة قناة السويس في مصر هو عضو المجلس العسكري والقائد السابق للقوات البحرية، الفريق مهاب مميش، وهو عضو أيضا في مجلس إدارة بنك قناة السويس، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، وهي هيئة تنظيمية مستقلة اسميا قوية مسؤولة عن التحقيق في الفساد، ونائبه، وهما على التوالي كل من محمد عمر وهبى وحسام رشوان من الجنرالات المتقاعدين ، والهيئة المصرية العامة للطرق والجسور والنقل البري يرأسها ضابط في الجيش، اللواء سعد الجيوشي، ورئيس الوكالة المركزية لإعادة الإعمار، وهو الهيئة الرسمية التي تشرف على التخطيط وبناء العمل، هو اللواء محمد ناصر.
وبعد عام ونصف من الاعلان عن خارطة طريق 3 يوليو هل تحقق الاستقرار المزعوم ؟ وهل جنى المصريون من إهدار حقوقهم ومصادرة حرياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية شيئا سوى قبض الريح؟
الأساس الفكري الذي بنى عليه مدبرو 3 يوليو أن " الاستقرار أهم من الحرية " أساس جذاب شعبيا ، ولكنه في حقيقة أمره متهافت إستراتيجيا ، فالديكتاتوريات لم تصنع استقرارا على مر التاريخ ، بل إن الفوضى في حقيقة أمرها إحدى صنائع الاستبداد والديكتاتورية ، والأهم من ذلك أنه لا يوجد على وجه الحقيقة ديكتاتورية مستقرة ، وإذا كانت ديكتاتوريات حسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا وزين العابدين بن علي في تونس، مستقرة فلماذا انهارت ؟!
وبقطع النظر عما قد يعتقده البعض من أن مسار الثورات العربية لا يدعم حجة أن الدكتاتورية هي البديل الأفضل للفوضى، فإن هذا المسار يحكي قصة الأنظمة الاستبدادية والتي كانت مدعومة من الغرب لعقود، باستخدام الحجة نفسها، ثم سقطت في نهاية المطاف بسرعة مذهلة.
بعد أن التهمت البطالة بين الشباب، المشاكل الاقتصادية وتدهور مؤسسات الدولة الأساسات. ذلك أن جوهر هذه الأنظمة كان فاسدا منذ فترة طويلة. وقد حانت نهايتها بسبب تناقضاتها الداخلية وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. تلك الاحتياجات لم تكن بالضرورة حرية التعبير والديمقراطية، حيث غالبا ما كانت ثانوية، ولكنها كانت العمل، الطعام، والحق بحياة كريمة ، وهكذا.
والأنظمة السياسية عادة ما تنال شرعيتها برضا المحكومين عن أدائها بصورة عامة، أما في الأنظمة الاستبدادية التي تلعب على وتر الاستقرار، فإن الشرعية تنال بصورة أخرى مغايرة تماما ، تنالها بالقمع والقهر وإخماد أي صوت معارض حتى يكون الرضا بالسكوت والسكون ، الرد الوحيد الذي تميل الدكتاتوريات إلى استخدامه في وجه السخط الشعبي والتوتر الاجتماعي أو الصراع العرقي، هو القمع.
جمود أنظمة الحكم الديكتاتورية يجعلها غير قادرة على تذليل الصراعات داخل المجتمع، وهو ما يعني أنه، رغم إمكانية قمع الصراعات الاجتماعية أو السياسية لفترات طويلة من الزمن، إلا أن هذه المشاكل لديها القدرة على زعزعة استقرار الدولة بأكملها على المدى الطويل.
وهو ما نستطيع أن نفسر به ما يجري اليوم على أرض مصر، فإن جنوح معارضي 3 يوليو نحو مقابلة عنف النظام بعنف مثله هو متوالية طبيعية لاعتماد نظام الجنرال السيسي الحل الأمني كحل أوحد في مواجهة أزمات البلاد المتفاقمة ، فالقمع لا يولد إلا العنف ، وهذا مشاهد ومطرد في كل مكان ، فحركات العنف المسلح وتنظيم القاعدة وتفريعاته كلها نشأت كرد فعل طبيعي على سياسات القمع والاضطهاد التي مارسته أمريكا والغرب وتابعوهم في المنطقة ، فقمع الأسد في سوريا، والمالكي في العراق أفرز لنا داعشا ، والمقاربة الأمنية العسكرية المجردة لظاهرة ما يسمى الإرهاب ليست سوى عملية تخصيب ناجحة للظاهرة، تعمل على تكاثرها بشكل مخيف .
بالجملة فالاستبداد السياسي حجر الزاوية الذي انقدحت منه ظاهرة العنف، ثم تأتي أسباب ثانوية، تساعد في اكتمال تشكل الظاهرة العنفية. لكن يبقى الاستبداد وغياب الديمقراطية والحريات ، كناظم للمشهد السياسي في هذه الدول، بمثابة العامل الرئيسي في كل ما نشاهده اليوم، من انفلات أمني واقتتال بعناوين شتى، كلها نتاج طبيعي للاستبداد السياسي المدعوم غربياً .
المحصلة النهائية لاعتماد الحل الأمني أن الجميع في مصر اليوم يفقد السيطرة ، وعندما نقول الجميع فإننا فعلا نعني الجميع ، نظام السيسي يفقد السيطرة على أجزاء مطردة من الدولة ، في سيناء وبعض مناطق حيوية في جنوب القاهرة والجيزة والفيوم وبني سويف ، يفقد السيطرة على الانفلات الاقتصادي والأمني و الاجتماعي الكائن اليوم في مصر ، ومعايير الدولة الفاشلة قد اجتمعت في نظام الجنرال بعد أن تكثرت عليه الأزمات والنكبات ، بحيث صار نظامه بل الدولة كلها على شفا جرف هار .
أيضا جماعة الاخوان تفقد السيطرة على قواعدها الشعبية ، والخط الاصلاحي التقليدي المهيمن على الجماعة منذ نشأتها والذي ظل متماسكا حتى في أحلك فترات القمع في الستينيات من القرن الماضي ، وفي أعقاب مجزرة رابعة وأخواتها ، هذا الخط أصبح على المحك بعد أن قطعت الصلة بين القيادات المغيبة أما في السجون أو القبور أو الخارج ، والقواعد الشعبية من الشباب ، وبرز الخط الثوري في الجماعة على غير رغبة القيادات كما ألمح لذلك " مدحت الحداد " عضو مجلس إدارة الأزمة في أول حوار له مع قناة " مصر الآن " ويوم الأربعاء الماضي ، القمع والبطش غير كثيرا في الإخوان، واستفاد منها الشباب الإخواني الثائر المتذمر والساخط ليضغط بقوة في اتجاه تغيير ليس الوجوه التقليدية، وفقط، بل وحتى الخط، أما العقليات والذهنيات ، وهو ما يمثل أكبر تحدي يواجه النظام في مصر اليوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق