أمريكا والإمبراطورية الرومانية، هل يتشاركان نفس المصير؟
بالنظر لحالة الجمود الموجودة في واشنطن، أتساءل هل تسير الولايات المتحدة الأمريكية على خُطى الإمبراطورية الرومانية في سقوطها؟ يرى بعض المحللين أن تكاليف ممارسات أمريكا من حيث محاولات فرض نفوذها على مناطق خارج حدود الأراضي الأمريكية لا تضعف الاقتصاد المحلي فحسب، بل تساهم في انهياره أيضًا، وذلك بسبب “التوسع الإمبريالي”.
إلا أن تلك النظرية لا تتناسب مع وضع أمريكا الحالي، إذ تم بالفعل تقليل نسبة نفقات وزارتي الدفاع والشئون الخارجية من الناتج المحلي على مدى العقود القليلة الماضية.
التوسع الإمبريالي أم الصراعات الداخلية؟!
ومع ذلك، من الممكن أن تنهار الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ليس بسبب توسعاتها الإمبريالية، وإنما لأسبابٍ تتعلق بالشأن الداخلي. فعلى كل حال، روما لم تسقط بإذعانها لظهور إمبراطورية أُخرى – ربما أقوى -، بل تعرضت لتَهاوٍ مُطلق على جميع الأصعدة الاجتماعي والاقتصادي والمؤسسي، فأصبحت غير قادرة على حماية نفسها من غزو القبائل البربرية. فقد فَسَدت روما وعطبت من الداخل عندما فَقَدَ الناس الثقة في ثقافتهم ومؤسساتهم، وتصارعت النُّخَب في سعيها للسيطرة، وتفشى الفساد، وفشل الاقتصاد في النمو على نحوٍ كافٍ.
فإلى أي مدى إذًا تسهم الصراعات الداخلية الثقافية والسياسية والاقتصادية في سقوط الولايات المتحدة الأمريكية؟
الثقافية
هل من المحتمل أن تفقد الولايات المتحدة الأمريكية قدرتها على التأثير في الأحداث العالمية بسبب الصراعات المحلية على الثقافة والمؤسسات؟
الثقافة ليست أبدًا جامدة، وكثيرًا ما يمتعض النقاد من أساليب الأجيال الحديثة. في حين أن الولايات المتحدة تعاني من العديد من المشكلات الاجتماعية، إلا إن بعضها لم يزددْ سوءًا بل يتحسن مثل معدلات الجريمة والطلاق وحمل المراهقين.
وبينما هناك حروب ثقافية حول قضايا مختلفة مثل زواج المثليين والإجهاض، تُظهِر الاستطلاعات زيادة كلية في معدلات التسامح الأخلاقي في المجتمع؛ فالمجتمع المدني الأمريكي قوي.
أما بالنسبة للجانب الديني من الثقافة والذي يتمثل في نسب الحضور في الكنائس، تُظهِر الاستطلاعات أيضا أن نِسَب الحضور في الكنائس تصل أسبوعيًا إلى 37%، وهو حضور أقل قليلًا عما كان عليه منذ عقد مضى.
الصراعات الثقافية قديمًا كانت صراعاتٍ حول الرِّق والحَظر والمكارثية والحقوق المدنية؛ وكلها تعد أخطر بكثير من قضايا اليوم. وعادةً ينسب الناس أوصافًا براقة للماضي، وهو ما يُسهِّل تأكيد فكرة اضمحلال الحضارة حاليًا.
صورة مأخوذة من استطلاع حول التسامح الأخلاقي في المجتمع تجاه مجموعة من القضايا التي أثارت جدلا كبيرًا
السياسية
يحيط غموض أكبر بمسألة المؤسسات الأمريكية، حيث يعتقد العديد من المراقبين أن الجمود في النظام السياسي الأمريكي اليوم هو ما سيؤدي إلى سقوطنا.
وبينما يزداد الجمود الحزبي، السؤال هنا ما مدى سوء الوضع الآن عما كان عليه في الماضي؟ يستند دستورنا إلى وجهة نظر ليبرالية تعود للقرن الثامن عشر مفادها أن أفضل السُّبُل للسيطرة على السلطة هي بتقسيمها وتفتيتها، ومعادلة “الموانع والموازين” بدلَا من التمركز. فـ”الموانع والموازين” هي آلية تَحُول دون حيازة هيئة حاكمة على السلطة المطلقة بخلق توازن بين كل الهيئات الحاكمة. فهي توزع السلطة بصفة عادلة ومتوازنة بين قطاعات الحكومة الفيدرالية (مثلا القطاع الاستشاري والقضائي والتنفيذي). ويشكل هذا النظام جزءًا مهمًا من نظام الحكم الأمريكي، وينص عليه الدستور بهدف منع أي شخص أو مجموعة أشخاص في أي قطاع من القطاعات أن ينال المزيد من السلطة.
صُمِّمَت الحكومة الأمريكية منذ البداية بحيث تكون عاجزة، وهكذا تكون أقل تهديدًا على الحرية. وكما تقول صحيفة الإيكونوميست بلندن “الهيكل السياسي الأمريكي تم تصميمه بحيث يكون التشريع على المستوى الفيدرالي أمرًا صعبًا.
إذ يعتقد مؤسسوه أن بلدًا بحجم أمريكا من الأفضل أن يكون حكمها على المستوى المحلي وليس الوطني.
لذا فإن النظام الأساسي يعمل بنجاح؛ ولكنه ليس عذرًا لتجاهل مناطق أٌخرى يمكن إصلاحه من خلالها” فعلى سبيل المثال، فبركة الانتخابات عن طريق تقسيم الدوائر الانتخابية بانحياز بما يضمن الحصول على مجموعة من المقاعد الآمنة لصالح حزب ما في مجلس النواب، إضافة إلى إجراءات حجب قواعد مجلس الشيوخ. فعلى الرغم من تزايد الاختلافات الأيديولوجية منذ السبعينات من القرن الماضي، ما تزال حركة الأحزاب مستمرة، ولم تُصَبْ بالشلل بعد.
الاقتصادية
على عكس أمريكا، لم يكن اقتصاد الإمبراطورية الرومانية اقتصادًا إنتاجيًا. علاوة على ذلك، مجتمعها مزقته الحرب الضروس، واستشرى الفساد والاضمحلال في مؤسساتها السياسية، فباتت روما غير قادرة على الدفاع عن نفسها.
وعلى الرغم من مشاكلنا الآن، تنفي الحقائق وجود تماثلٍ بين حال الإمبراطورية الرومانية والحال في الولايات المتحدة الأمريكية. الثقافة الأمريكية بالفعل بها انقسامات، لكنها تظل معقولة ويمكن إدارتها، وهي أقل خطورة مما كانت عليه في الماضي.
فما يزال مجتمعنا مفتوحًا للعالم الخارجي، وهو أقدر من غيره على تجديد نفسه من خلال الهجرة.
وما يزال الاقتصاد الأمريكي اقتصادًا مبتَكِرًا في استخدام وتسويق التكنولوجيا وذلك بسبب ثقافة تنظيم المشاريع، وصناعة رأس المال الاستثماري الأكثر نضجًا، علاوة على العلاقات الوثيقة بين الصناعة والتعليم الجامعي، حيث وجود أفضل الجامعات على مستوى العالم كهارفارد وستانفورد. فأمريكا تقود العالم في “البحث والتطوير” وتحتل مرتبة الصدارة في تكنولوجيا الإنترنت والنانو والتقنيات الحيوية وتقنيات الطاقة والتي ستكون جميعًا حيوية في هذا القرن.
بالفعل توجد مشاكل حقيقية كعدم المساواة وتعليم القوى العاملة المستقبلية، لكن أيًا من تلك المشاكل لم تمنع النمو الاقتصادي. والتساؤلات الأكبر هنا تدور حول المؤسسات السياسية. إذ تم تصميم حالة الجمود السياسي لتتناسب مع النظام الفيدرالي منذ البداية، لكنها ازدادت في واشنطن في السنوات الأخيرة. وفي نفس الوقت، يضمن النظام الفيدرالي التنوع والقدرة على الابتكار في الولايات والمدن.
وكلما قل دور الحكومة، يعني ذلك المزيد من الابتكار داخل أمريكا ولكنه خارج حدود واشنطن العاصمة.
علاوة على ذلك، بالرغم من زيادة المشاحنات الحزبية، فقد تحسنت العديد من المشكلات الخطيرة الموجودة بالفعل كعجز الميزانية وتكاليف الرعاية الصحية، بعكس التدهور الذي عانت منه في السنوات الأخيرة.
أمريكا بالفعل لديها العديد من المشاكل، لكن حتمًا لسنا مثل الإمبراطورية الرومانية.
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق