لماذا إيران على طريق الانكماش؟
شريف عبدالعزيز
لا يستطيع أحد أن يجادل في أن إيران تدير الآن بشكل كبير ثلاث عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت، وكانت في طريقها إلى إضافة الرابعة، صنعاء، لولا عاصفة الحزم التي اوقفت هذا التوسع الإيراني .
وهو ما يعني ببساطة أن إيران تبسط بنجاح ذراعيها في المنطقة؛ إلى غربها الشمالي وصولًا للبحر المتوسط، وإلى غربها الجنوبي وصولًا إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهو تمدّد يزيد من مخاوف غريمها الرئيسي ؛دول الخليج ، وبدرجة أقل ؛ الكيان الصهيوني ، فكلاهما قد أصبح محاصرا بدوائر النفوذ الإيراني إلى شرقها وغربها، وإلى شمالها وجنوبها.
بدأ النفوذ الإيراني في التمدّد بسهولة عقب الحربين الأمريكيتين الكبيرتين في المنطقة، ضد نظام طالبان في أفغانستان (بعد أحداث 11 سبتمبر) وضد نظام صدام في العراق، وقد كان هذان النظامان عدوّين أساسيَّين لطهران، وحائلاً دون قدرتها على بسط نفوذها في محيطها الإقليمي، سواء في الشرق الأوسط أو أسيا الوسطى.
وقد أفادت إيران من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، خلال العقدين الماضين تمام الفائدة ، أفادت المرة الأولى من سياسات الحرب الاستباقية المصبوغة بالهواجس الدينية التي تعهدتها إدارة بوش الصغير الذي كان يعتقد أن الله ــ سبحانه ــ يكلمه ويأمره بحرب المسلمين ، والأخطاء الفاحشة التي ارتكبتها واشنطن في هذه الحرب اللا أخلاقية ، بعد أن تسببت هذه الحرب في تدمير أفغانستان والعراق بالكلية ، والمشاكل الأممية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي أفرزتها هذه الحرب ،حيث وجدت طهران تلاقياً في المصالح بين توجه إدارة بوش لإطاحة نظامي طالبان وصدام حسين، وشجعت حلفاءها بالتالي في البلدين على الالتحاق بالهجمة الأمريكية.
وأفادت مرة ثانية من سياسة الانسحاب الجزئي التي تعهدتها إدارة أوباما من الشرق الأوسط،بعدما عجز الأمريكيون عن إدارة شؤون أفغانستان والعراق، وعن مواجهة تصاعد المقاومة الأفغانية والعراقية، فقرروا الانساحاب تاركين البلدين غنيمة باردة للنفوذ الإيراني، فاندفعت طهران لتعزيز النفوذ في البلدين، وإن بدرجات متفاوتة.
وأفادت إيران من حماقات أمريكا ثالثا ، عندما أكتشفت إيران أن سياسة أوباما وحركة الثورة العربية وكأنها تصنع فراغ قوة في المشرق، سيما وأن الدول العربية التي لم تشهد حركة معارضة ثورية، مثل دول الخليج، قد استنفرت كل قوتها وأدواتها في التصدي لعملية التحول الديمقراطي في الجوار العربي، والقوى الإسلامية على وجه الخصوص.
فأفسحت حالة فراغ القوة تلك لتوسع إيراني متزايد باتجاه سوريا واليمن، ولتعزيز النفوذ الإيراني في لبنان والعراق .
غير أن تطورات الأحداث الأخيرة ، وقراءة تفاصيل استراتيجية التمدد الإيراني ، يشير وبقوة إلى بداية التراجع في مشروع تصدير الثورة الإيرانية ، وانتقال الحالة الإيرانية من التمدد إلى الانكماش ، وأن حدود النفوذ الإيراني آخذ في التقلص يوم بعد يوم ، وذلك لأسباب عديدة :
1 ـ الفشل الأيديولوجي ، فالنفوذ الإيراني في كل تلك المناطق المذكورة يعتمد بالأساس على مرتكزين أساسيين: المال والسلاح، وقد حقق بالفعل نجاحا عسكريا لافتا ، بتأسيس العديد من الأذرع العسكرية في هذه المناطق ، ولكن في المقابل شهد مشروعه الفكري، وأيديولوجيته الثورية فشلا ذريعا في كل هذه المناطق ، فشلا في تصدير نموذجه الثوري، أو لنظامه السياسي المعتمد على ولاية الفقيه، أو حتى لمذهبه الجعفري الاثناعشري وزيادة أتباعه،حتى حزب الله الذي ربما يمثل النموذج الأنجح للنفوذ الإيراني، لم يقدم نموذجًا مذهبيًا جاذبًا على سبيل المثال، ويكسب كل يوم أعداءاً جدداً ، وحتى على الإطار السياسي فإنه يلعب دورًا سياسيًا حزبيًا محصورًا داخل إطار المنظومة السياسية اللبنانية لم يتعداها للترويج لأي من النماذج الإيرانية سالفة الذكر.أما على الصعيد اليمني، فإن الحوثيين بدورهم لم يقدموا أنفسهم سوى في غطاء ثوري وليس طائفي ، إلا أن طموحاتهم باستعادة الإمامية في اليمن تبدو شبه مستحيلة، وما ينجح فيه الحوثيون الآن هو فقط حشد معارضيهم من كافة القوى اليمنية من السنة والجنوبيين والقاعدة، واستثاروا الغضب المحلي والإقليمي والدولي تجاه مخططاتهم داخل اليمن ، أما الوضع في العراق وفي سوريا فهي غني عن البيان ، وحالة الاحتراب الطائفي هناك تجعل شعبي العراق وسوريا في حالة عداء كامل وسافر مع كل ما هو إيراني .
2 ـ الخروج من السر إلى العلن ، فإيران اعتمدت لفترة طويلة على سياسة السرية على تحركاتها التوسعية ، وغطت تمددها بجدار من العزلة حتى لا تصطدم مع عقبات الرفض الشعبي والديني لأفكارها ومبادئها الثورية الجعفرية ، ولكن مع دخول حقبة الثورات العربية أصيبت هذه السياسة برجة عنيفة تركت مشروع التمدد مكشوفا في العراء .فانطلاق حركة الثورة العربية في 2011، وامتدادها السريع إلى سوريا والعراق واليمن، أصاب الإيرانيين بقدر من الإرباك . فما كان طائفياً محدوداً، أو غامضاً بعض الشيء، في لبنان والعراق سوريا واليمن، تحول إلى طائفي غير قابل للجدل، وإلى اصطفاف مكشوف وصريح إلى جانب الاستبداد والقمع وحكم الأقلية. وحتى يتحقق الاستقرار والنفوذ والتأثير، لابد من توفر تأييد من الأغلبية في البلد المستهدف، شعور حقيقي لدى الأغلبية بأن العلاقة مع هذه القوة تعود عليها بمكتسبات اقتصادية وسياسية وثقافية، ولا تصطدم مع ثوابت وأصول قومية أو وطنية أو ثقافية لديها، إضافة إلى تحالفات إقليمية ودولية تسند هذا النفوذ أو تقبله وتجد فيه دعماً لاستقرار النظام الإقليمي أو الدولي.ولكنَ الإيرانيين اندفعوا في سياسة توسع النفوذ بدون توفر أي من هذه الشروط. نظرت الأغلبية في الإقليم إلى إيران باعتبارها قوة خارجية معتدية، وأن نفوذها في سوريا ولبنان والعراق واليمن يخدم مصالح أقلية صغيرة، بينما يستبيح مقدرات وحرمات الأغلبية.
3 ـ غياب القوة الناعمة ، فإيران كما أسلفنا اعتمدت على الاستثمار في القوة الخشنة وحدها ، عبر تشكيل ودعم المليشيات العسكرية في الدول التي تم التدخل فيها ، في حين أغفلت لأسباب كثيرة أدوات القوة الناعمة مما أفقدها عنصر التعاطف الشعبي والاقتناع الجماهيري لسياساتها وتحركاتها التوسعية ، وكونها خارج اللسان العربي فستظل وراء الحاجز الثقافي معزولة عن شعوب المنطقة، وستظل محبوسة في دور الدولة الساعية للهيمنة والسيطرة والتوسع الإمبريالي شأنها في ذلك شأن القوى المعادية للمنطقة مثل أمريكا وإسرائيل ، أضف إلى ذلك تخبط نموذجها السياسي المستقى من عقيدة الإمامة الاثنى عشرية الأسطورية ،ونظامها المذهبي الإقصائي لغير الجعفرية، وتعارضها مع المذهب السائد في المنطقة وهو المذهب السني المهيمن تاريخيا وفكريا وعلميا على شعوب المنطقة ، سيجعل طموحاتها بتشييع المنطقة محض خيال وأوهام في عقول سدنة وملالي الحوزات الدينية في قمّ .
4 ـ تراجع زخم الثورة الخومينية ، فقد أشارت العديد من التقارير الغربية المحايدة التي استقصت النموذج الإيراني من الداخل، إلى تراجع إيمان الإيرانيين بالثورة وأجوائها النضالية والحماسية ، في مقابل صعود المطالب الاقتصادية والسياسية ، وإلى رواج أفكار الانفتاح والتعايش الثقافي مع الخارج ، كما أن الأوضاع الاقتصادية المتعثرة تحد كثيرا من قدرات وطموحات مشاريع النفوذ والسيطرة والتمدد باهظة التكلفة والتي أرهقت الميزانية الإيرانية لسنوات طويلة ،وفي المقابل شهد الشارع الإيراني صعوداً للتيار الإصلاحي ،وارتفاعا في شعبيته ، مما أدى إلى المجئ بروحاني، الحاصل على الدكتوراه من اسكتلندا، وكذلك أعضاء حكومته الحاصلين على شهادات دكتوراه غربية،وأبرزهم وزير الخارجية جواد ظريف الذي كشفت إحصائيات إيرانية عن كونه الشخص الأكثر شعبية داخل إيران وأن شعبيته تفوق شعبية قاسم سليماني رمز الثورة الخومينية الآن في إيران .
5 ـ تضاءل القدرة على التصعيد ، فلا تملك إيران القدرة على أي تصعيد عسكري مفتوح في المنطقة، فهي تدعم سياساتها عبر حلفائها العسكريين، مثل دعم النظام السوري في وجه الثورة السورية وفي وجه داعش، وكذلك الجيش العراقي، وهو ما يكلفها أصلًا مليارات من الدولارات، وهي مليارات من ميزانية إيرانية تمر بضغوط مؤخرًا نظرًا لهبوط أسعار النفط.ورغم تقدم الصناعات العسكرية الإيرانية في مجالات الدفاع الجوي والصواريخ طويلة المدى وتصنيع المدمرات البحرية والغواصات، إلا أن الدولة الإيرانية لديها ثغرة هائلة في سلاح الجو وأية مواجهات مع دول الخليج المسلح بطائرات غربية متقدمة لن تكون في صالحها، إلا بهجوم بري/بحري موسع وإغلاق كامل لمياه الخليج يستتبعه اجتياح بري إيراني، سيؤدي غالبا لاندلع الحرب العالمية الثالثة والدمار الشامل للمنطقة .
6 ـ تغير السياسة الخليجية ، وعلى رأسها السياسة السعودية التي أعادت ترتيب أولوياتها، وأعادت النظر في قائمة أعدائها الاستراتيجيين والتي وضعت جماعة الاخوان المسلمين على رأس التهديدات الاستراتيجية أيام حكم الملك عبد الله ، مما أفقد المملكة ظهيرا سياسيا وشعبيا وإسلاميا قويا وأمميا ، قادر على الحشد والتأثير، والنتيجة ؛ تمدد إيراني غير مسبوق . فلما ولي الملك سلمان واستبدل الحاشية الضارة بأخرى أكثر وعيا ودراية بخطورة الموقف ، تم إعادة ترتيب التهديدات لتضع التوسع الإيراني على رأس القائمة، ومن ثم كان العمل العسكري السريع " عاصفة الحزم " في اليمن ، وهو العمل الذي استطاعت به السعودية أن تكشف للإيرانيين عن مدى الاصطفاف الشعبي لأي عمل ضد التوسعات الإيرانية ومشاريع هيمنتها ، فمشكلة إيران الحقيقية ليست مع السعودية وتركيا وقطر. مشكلة إيران مع شعوب المنطقة؛ وهذه المشكلة لا تزداد إلا تفاقماً يجعل مشروع التوسع الإيراني في المنطقة نوعاً من العبث قصير الأجل.
إيران وإن كانت قد حققت نجاحا كبيرا في الأونة الأخيرة ، واستطاعت أن تبسط ذراعيها ، إلا إن هذا لن يدوم طويلا ، ولن يذهب بعيدا ، ومشروعها التوسعي آخذ في الانحسار والتراجع ، والاستثمار في الجيوب والمليشيات الشيعية هنا وهناك لن يحقق لها ما ترجوه ، لأن المشكلة مع الشعوب والجماهير التي أدركت طبيعة هذا المشروع التوسعس وانكشف غطاؤه التآمري .
إيران تسير على نفس خطى الدولة الفاطمية والدولة الصفوية ، وكلاهما حاول من قبل التمدد والهيمنة وفرض الرؤية والمنهج ، فظلت الجماهير تقاومه والشعوب تعارضه حتى لفظوه بالكلية ، وستنهار المشاريع الخومينية كما انهارت من قبل المشاريع الفاطمية والصفوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق