البابا فرنسيس والقتل العرقى
أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
إن إستخدام البابا فرنسيس لعبارة "القتل العرقى" لكى يصف حرب أهلية وقعت بين المواطنين العثمانيين والأقلية الأرمنية يكشف، سياسيا، عن بابا متعدد الأوجه. فإختيار إثارة أحداث مضت فى مناخ الظروف المقلقة التى يعيشها العالم حاليا، لهو تصرف "يسوعى" بحت ، لأن كل خطوة وكل كلمة ينطقها تتم مراجعتها وإعادة مراجعتها من الترسانة التى تحيط به.
فلقد تعمد إختيار الكلمة ليختلق فرصة تحقيق الحلم الذى يتمناه.
إن أسلوب الإعلان عن القداس الذى كان سيقام يوم الأحد 12/4/2015 ، بناء على طلب الكنيسة الكاثوليكية الأرمنية ، أعلنته دولة الفاتيكان عشية القداس بالعبارات التالية : "إن البابا فرنسيس سيقيم صباح يوم الأحد قداسا فى روما خاص بذكرى الأرمن منذ مائة عام، إذ أن كل واحد ينتظر لمعرفة إن كان سيجاذف بإغضاب تركيا بنطق عبارة "القتل العرقى"(...) إلا أن المجاذفة ستكون الإطاحة بحليف قوى فى الصراع ضد الإسلام الراديكالى".
وهو ما يعنى أن إختيار الكلمة لم يكن عفويا، وإنما تم الترتيب لها ودراستها. بما ان ما كانوا ينتظرونه هو معرفة إن كانت ستكون لديه الشجاعة للتصدى مواجهتاً لمسألة بمثل هذه الحساسية.
وقد تم وصف عبارته بأنها مرفوضة، ومتحيزة، وغير حقيقية، وغير دقيقة، وتفتقد لأسس قانونية ووقائع تاريخية، وهى بلا أى أساس، وبعيدة عن الواقع التاريخى بل وعدوانية. لذلك إن كلمات البابا تستحق تحليلا أوسع من هذا المقال.
إن تركيا تؤكد أنها كانت حرب أهلية راح ضحيتها من 300 إلى 500 الف أرمنى ومثلهم من الأتراك. بينما تعلن أرمينيا أن عدد القتلى مليونا ونصف.
وحينما يكون الفارق بمثابة ثلاثة أضعاف، فلا يحق لرجل دين أن يبت فى الموضوع، إنما لجنة من الشرفاء، غير المتحيزين، التى يتعين عليها دراسة الوثائق التاريخية للطرفين. لكن بما أن الموضة منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 هى مطاردة الإسلام، فكل أتباع الشيطان تخضع لعصا من يتولى قيادتهم !
إن نظرة خاطفة تكشف عن أحداث شديدة التقلب فى تلك الدويلة. ففى سنة 640 ميلادية إمتد الإسلام بشموخ حتى أرمينيا. وبدأت الكنيسة حرب دينية غير معلنة، رغم الرخاء الذى عرفته أرمينيا حتى عصر المماليك. ورغمها قام الأرمن بمساعدة جحافل الصليبيين فى حربهم ضد الإسلام.
وفيما بين 1813 و1828 إحتلت روسيا أرمينيا الشرقية.
وفى عام 1918 تم إعلان الجمهورية الأرمينية، وتم الإعتراف بها فى معاهدة سيڤر.
وفى عام 1922 تم ضمها إلى الإتحاد السوفييتى، وفى عام 1936 أصبحت جمهورية فيدرالية.
وفى عام 2009 إتفق كل من أرمينيا وتركيا على تطبيع العلاقات بينهما رغم المعارك التى طالت الطرفين.
وحينما نتأمل كلمات البابا فرنسيس حيال أحداث 1915ـ1917 ، فى إطار الحرب العالمية الأولى، فإن عباراته تبدو جد غريبة. لأن إستغلال التاريخ والتلاعب به من أجل أغراض سياسية هى أساس أيديولوجية الفاتيكان.
ومثلما حدث فى إسبانيا، رغم كل الإسهام الحضارى الذى قام به المسلمون طوال ثمانية قرون، فإن الإسلام فى حد ذاته يحرج الكنيسة التى لا تتورع عن عمل أى شئ لإقتلاعه.
وهنا يتبادر سؤال لا بد منه : لماذا يصمت البابا فيما يتعلق بالفِرق الأرمينية المسلحة التى كانت داخل الدولة العثمانية ؟ لماذا لا يقوم البابا بإدانة هذه المنظمات التى خانت تركيا وإنضمت إلى روسيا وذبحت آلاف من العثمانيين ؟
فى واقع الأمر إن الفِرق الأرمنية هى التى بدأت المعارك، خيانة للدولة التركية، وتحالفت مع روسيا الأرثوذكسية.
وفى أكتوبر 1914 دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب المانيا والنمساـ هنغاريا. والأقلية الأرمنية التابعة للكنيسة الأورثوذكسية تحالفت مع روسيا، المقر السيادى للأرثوذكسية التى استعانت بهؤلاء الأتباع !
وفى 24 إبريل 1915، بعد أن أظهر الأرمن عداءهم للحكومة المركزية التركية، تم إعتقالهم ومحاكمتهم على أنهم "أعداء من الداخل" : ألا يعد ذلك أمرا طبيعيا ؟
ولقد تم تفتيت الإمبراطورية العثماهية عام 1920 ، بعد إختلاق دويلة أرمينية مستقلة فى مايو 1918. دويلة مكونة من ثلاثة ملايين مواطن إضافة إلى ثمانية ملايين يعيشون فى المهجر بإرادتهم...
وفى نفس ذلك القداس الذى أقامه البابا فرنسيس يوم 12 إبريل، تحدث عن أرمينيا على أنها دولة مسيحية، تكوّن هى والسوريين والآشوريين والكلدانيين واليونانيين الجماعات الأولى التى ضمت أوائل أتباع المسيحية الوليدة ، والذين يمثلون حاليا ، إجمالا، الأقليات المسيحية قى الشرق الأوسط. وهنا تحديدا يتجلى برنامج البابا فرنسيس، الذى يتفق مع برنامج الولايات المتحدة الرامى إلى تقسيم الشرق الأوسط لإختلاق دويلات صغيرة تُمنح لتلك الأقليات التى تفتقد الأمانة حيال البلدان التى تحويها. وذلك هو السبب الذى من أجله استخدم البابا عبارة "القتل العرقى".
أما عن شجاعة التصدى مواجهة لمثل هذه المسائل الشائكة فإن هذا البابا ليس على مستوى المقعد الذى يتصدره.
فالأمانة تقتضى بأن يبدأ بالإعتراف بكل مجازر القتل العرقى التى قامت بها كنيسته وتواصل القيام به منذ إحتلالها الأمريكتين، بفضل القرار البابوى "عقيدة الإكتشاف المسيحية"، ويكفى أن نطالع مذكرات الأب لاس كازاس لنرى البشاعات التى لا يمكن تصورها التى قام بها المتوحشون من أتباعه ضد تلك الشعوب. ولا نقول شيئا على مجازر القتل العرقى التى قامت بها "إبنته الكبرى" فرنسا التنوير، سواء فى الجزائر حيث اغتالت أكثر من مليون شهيد ماتوا بأبشع وسائل التعذيب، أو ما قامت به فى مقاطعة لورين ، على حدودها، أيام حرب الثلاثين عاما، أو عن المذابح التى قام بها نابليون بونابرت فى مصر.
أما عن القتل العرقى الممتد لأكثر من ستين عاما فى فلسطين، ليس فقط على مرآى ومسمع من العالم أجمع، لكن خاصة بالمساندة التى يقدمها الكرسى الرسولى لإخوانه "الأكبر"، الصهاينة.
والقائمة لا تمتد فحسب، لكنها بشعة منفرة من رؤية الإصرار والضراوة التى تحاول بها الكنيسة إقتلاع الإسلام بأى وسيلة وبأى ثمن.
أ.د. زينب عبد العزيز
2 مايو 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق