الاثنين، 20 مارس 2017

هارفارد الشؤون المعنوية والأنا الأعلى


هارفارد الشؤون المعنوية والأنا الأعلى

أحمد عمر


ظهر النمر الثاني في سورية قبل أيام نحسات، في التلفزيون السوري، النمر الأول هو سهيل النمر، صاحب نظرية اللاشعور الشهيرة، والعالم ضد العالم، ويظهر دائما بالزي العسكري، ظهر نجمه في الشرق مرة بعباءة واسعة، جامعا بين رهبة الزي العسكري، وجلال الزي القبلي، وبين يديه عسكريان يسجدان له، وهو جالس على كرسي في البيداء، ويضع يده على رأسيهما مباركا صنيعهما، وضع اليد على الرأس علامة دينية، ولكل امرئ مِنْ دَهْرِهِ ما تَعَوّدَا..

الشيخ المعروف بالهرم الصادق، وهو أحد وجهاء الغاب كما أفدنا علما، يريد التذكير بصالح العلي بزي الشماخ الأبيض، والإيحاء بأنه سليله ووريثه، وهو يحارب الاستعمار "بنور العقل ليتخلص من معمعمة الجهل"، والاستعمار هنا هو الشعب، أما الاستعمار الحقيقي فجاء بدعوات من النظام وتنسيق معه ليحارب الشعب في البيت. 

ليس استعمارا واحدا، إنه مجموعة من الاستعمارات والاحتلالات، ومنهم أمريكا، العدو اللدود الذي ينسق مع النظام، وله قاعدة في رميلان، وخمسمائة عنصر في منبج، تفصل بين الجيش الحر، والقوات الكردية الخديجة. 
يقول هذا المفوّه اللسِن في خطبته العرجاء لغة ومنطقا: "والجبل (الذي) قلدت فيه صبغة الخالق"، وفي كلامه تجديف غير مقصود جرفته سيول الإشراق: "شكرا لله على حسن الاستماع". 
كان قد ظهر يخطب في جمهرة ملتصقة به، وتهتف بالروح والدم لبشار.

وخطاب النمر الثاني، الهرم الصادق، هو ثاني ألبوم خطابي سياسي بعد نظرية اللاشعور الوردي لصاحبها النمر. يذهب بنا الظن في باص أخضر، في أول موقف، إلى أن هذه مدرسة سورية بعثية، فالحياة عندما تصبح عقيمة، غير منتجة، وخرائب من القصف، تكشف صاحب القناع عن قناعه، وتلجأ إلى الدين للتستر بستائر اللغة وعباءات التقوى والإيمان.
 
وكلاهما النمر والهرم، جاهلان ومهرّجان، فاللغة خالية من جملة عربية سليمة، الرجلان يقصدان الفصاحة لإيهام الناس بالقوة والبلاغة، وما هم ببالغيها إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فيقعان في الفهاهة والركاكة والعجمة .. لكن الجمهور يبدو مذهولاً بحشيش الكلمات ونظم الخطاب.
 
في البدء كانت الكلمة، والحرب تبدأ بكلمة، ومن قبلهما رأينا العالم اللوغاريتم، مخصي البعوض والقراد، السناتور خالد العبود، وهو يتحدث عن الدوائر والمربعات، وبعض الأشكال الهندسية، ويهتف من منبر التلفزيون السوري للجزيرة غاضباً في أول حصة رياضيات: اخرجوا من المربعات والدوائر، فخرج السوريون نازحين ونازفين من بيوتهم، راجلين أو بالباصات الخضراء.

ظهر أيضاً شاب من طرطوس يفتي برأيه في بعض الأزمات، فشاع خطابه تهريجاً: الارتكاز المؤسس لمنحاه، والمعمعة في خضم التفاعل..

لكن عبوداً ليس الأول، و"الارتكاز المؤسس لمنحاه" ليس الأخير، فالمعلم بشار الأسد بطلٌ في الخطابة، وعَقدِ نكاح المفردات الذكر على المفردات المقاومة الأنثى، نكاح متعة، فإذا سُئل بشار الأسد عن البراميل سفسط الأمر قائلا: "قصة طفولية.. أنا أعرف الجيش، والجيش يستخدم الرصاص والصواريخ والقنابل. لم أسمع عن جيش يستخدم البراميل أو أواني الطبخ"

إنه في كل لقاء، يقوم بحركة تصحيحية للأسئلة، علينا أن نسأل أنفسنا دوماً، لم  يُسأل بشار الأسد سؤالاً إلا وقلَبه وشكّك فيه وصححه، الرجل ليس طبيب عيون، وإنما هرم صادق مرتكز على منحاه.
إلا أن محللاً سياسياً انتبه إلى أمر، وهو أن روحاً من الجفر والهفت والكتب الباطنية، نفخت في خطاب النمر والمنصور روحاً  من البعث فتمثلت ضحكاً سوياً.

  ويمكن تحليل الخطاب أكثر بالقول: إن القصيدة السورية الشعرية الحديثة التي حلّت محل القصيدة العربية العمودية بعد نزحت من غير باصات خضراء، وبراميل، لأنها قصيدة قواعد وموازين وجهد، وهي قصيدة جماعة وأمة، وديوان العرب، أما القصيدة الشعرية الحديثة، فهي نصوص كهانة فردية مريضة وتمتمة وشعوذة، لا يفهمها إلا صاحبها، هي غامضة، أو شديدة الغموض، وهكذا يمكن أن نرى وجه الطائفية في الشعر الحديث، فأكثر ابطالها من الأقليات الطائفية.

  أما حال مصر فمختلف، كان مبارك دائماً يوزع خطابه بين الفصحى والعامية حسب المنبر، وكذا عبد الناصر، أما السيسي، فأكثر خطاباته باللهجة المصرية المحلية، وشتان بين مبارك والسيسي، فالسيسي عييٌ لا يكاد يبين، لكن سلطانه العسكري وقوة نفيره، وإعلامه يجعلان عجمته فصاحة وبساطة شعبية، إن يقولون إلا كذبا. 

يعتمد إعلام السيسي على سيرك الأداء والتمثيل، وحلاوة اللهجة ومبالغاتها: فإذا دخل السيسي إلى منبر وسلّم بيده واضعاً الأخرى على صدره، جعلها إعلامه وكأنه موسى عليه السلام، وقد أخرج يده بيضاء من غير سوء آية إلى فرعون: يا سلام ايه التواضع ده، بصّوا، حط ايده على سدره، معناها انتو في القلب... وتبدأ التأويلات والشروح والتفسيرات فيما لا يحتاج إلى تفسير أو شرح.
الخطاب المصري كان مباشراً دائماً، وليس مثل الخطاب السوري المعقد، وإن اتفقا في غاية، وقد وجدتُ مرة وزير الأوقاف السوري عبد الستار السيد مدعواً على عجل للخطابة، فبدأ بالقول: إن الهجمة الإرهابية لن تفتَّ في "عضدنا"، وعانى مشقة في لفظ عضدنا، وكررها ثلاث مرات، حتى نجح في تحريرها ليمهّد الطريق إلى القدس.

يقول المشهور بالهرم الصادق جملته السحرية ويضع يده على رأس أحد المستمعين الملتصقين به مباركا، والازدحام شديد، والناس حوله تهتف، إنها مدرسة الشؤون المعنوية، وقد عادت إلى السرداب، إنها مدرسة التبن الوثقى.

تأتي تقارير بأن المخدرات تباع في دمشق على الأرصفة، أما السيسي، فلم يأبه يوماً لنصائح أكبر صحافيي الانقلاب بضرورة القراءة من ورقة مكتوبة خشية والزلل. 

يقول هرم مصر الرابع: 

مصر بتقولكم مكانى مش كدة.. أنا برضوا حجمي كدة؟ وابقى عندكم كده؟ أنا متحوجش وانتم هنا، يعنى مانكلش.. أه مانكلش.. يعنى مانامش". 

كان قد زار مصر في مخدعها، ونال بوسة، فتقفت موهبته الشعرية، وسالت قريحته بتلك الكلمات فأنشدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق