الثلاثاء، 1 أبريل 2014

الأيديولوجيات المتناقضة للثورة المضادة


الأيديولوجيات المتناقضة للثورة المضادة



فتحت ثورة 25 يناير الباب لكثير من الآراء والاتجاهات لتعبر عن نفسها، ودفع هذا الباب المفتوح كثيرا من التوجهات إلى ساحة لم تعرفها من قبل، وهي ساحة الجماهير الواسعة المتباينة التي لا تتفق فيها الآراء، ولا تتوحد فيها الصيحات خلف زعيم بعينه.
ومن الطريف أن السياسة في مصر -ولا نقول في المنطقة التي نعيش فيها- كانت قد فرضت على بعض الاتجاهات بعينها أن تبتعد عن السياسة، كما ألجأت بعض الاتجاهات الأخرى ألا تظهر آراءها ومواقفها.

وعلى وجه التحديد، فإن ثورة 1952 ألجأت المسيحيين إلى الابتعاد عن الأحزاب الحقيقية، وانتقت مجموعة معينة من الأقباط ليكون لها -دون بقية المسيحيين- حق ممارسة الحياة السياسية، أما أغلبية الأقباط والملل الأخرى فلم يكن لهم على وجه العموم أن يستمتعوا بهذا الحق.

وفي الواقع فإن هذا الحظر -وإن لم يكن معلنا- كانت تنطق به صناديق السلطة المرتبة سلفا، وقد كانت كفيلة بأن تقوم بدق جرس التنبيه والإنذار لهؤلاء كيما يعرفون أن هذه منطقة قد توصف بما توصف به المناطق العسكرية من منع الاقتراب أو التصوير.

ألجأت ثورة 1952 المسيحيين إلى الابتعاد عن الأحزاب الحقيقية، وانتقت مجموعة معينة من الأقباط ليكون لها -دون بقية المسيحيين- حق ممارسة الحياة السياسية
عندما جاءت ثورة 25 يناير بما حققته من حريات كان لابد للأجهزة التي نتعارف على تسميتها بأجهزة أمن الدولة أن تبدأ بالبحث عن صيغة تمكنها من أن تتحكم في بعض الفيضانات الواردة إلى هذا الميدان الذي غابت عنه منذ 1952، ولم يكن من الصعب على هذه الأجهزة بخبراتها المتمرسة أن تلتقط من بين الطموحين والمندفعين والشاردين والسارقين والمنخدعين من يمكن أن توظفه على النحو الذي تعودت أن توظف به أسلافا مختلفين لهؤلاء.

ومن الحق أن نشير إلى أن أجهزة الأمن السياسي قد بذلت جهودا عديدة في هذا الطريق، وقد باء بعضها بل كثير منها بالفشل على الرغم من أنها بالطبع وبحكم العادة صورت جهودها في هذا الميدان على نحو أسطوري.

وقد كان من حسن حظ هذه الأجهزة أن كان هناك أكثر من نموذج متشوق لأن يكون ذا علاقة وثيقة بهذه الأجهزة التي اصطلح على وصفها بالعميقة، ولم تكن الأسباب الحقيقية وراء هذا التشوق بعيدة عن المنطق، فمن ابن كان يسمع من والده أن صديق الوالد وصل إلى وضع متميز في عهد ثورة ١٩٥٢ بفضل علاقاته مع أجهزة الأمن السياسي، ومن ابن آخر كان يحاول أن يكون مفيدا لأجهزة مخابرات عالمية كان يعمل لها بمكافآت سخية، ولكنه كان يتوقف عن هذا العمل وفي هذا الإنجاز عند حدود ما كان مسموحا به في ظل الشمولية، ومن حالة ثالثة لأكاديمي شاب كان لا يفتأ ينفس على نظير له علاقاته الخارجية التي تمهدت له بفضل العائلة التي تمكنت من إلحاقه بالبعثات التعليمية، ومن ثم تهيأت له مكانته رغم ضعف مستواه التحصيلي العلمي والعقلي.

في كل الأحوال، فإن هذه النماذج التي وجدت ضالتها عند هؤلاء الأمنيين ووجد فيها الأمنيون ضالتهم كانت تمثل مستوى شبيها بإنسان متوسط الذكاء وجد نفسه في مكان قريب من القمة فلم يحرص على الانتماء والتجديد، وإنما بدأ بتنفيذ سياسات إثبات الوجود بما يمكن تلخيصه في كلمة أو جملة واحدة تصفه بأنه بدلا من أن يقول "أنا مجيد" فقد آثر أن يقول "إنه موجود".

كان في وسع هذا النموذج أن ينجز الكثير والمفيد والجديد بما أتيح له من مال وفير لن نذكر المستور في آلية حصوله عليه في هذا التحليل حتى لا نضيف تشتتا آخر إلى ما تحتفظ به له الصورة العامة من تشتت وتشرذم، لكنه آثر أن يدور في حلقات مفرغة أثبت التاريخ على مدى سبعة آلاف عام أنها لا تؤدي إلى شيء.

وهكذا واجه المصريون لأول مرة في تاريخهم من يتبنى أيديولوجيات غريبة تماما لا لشيء إلا لأنها نقيض أيديولوجيات الأغلبية، ومن الطبيعي في مثل هذا الظرف أن تتلاقى هذه الأيديولوجيات مع أي توجه انقلابي لتفرض نفسها على أنها أيديولوجية الثورة المضادة، وهو ما حدث بالفعل.

وحتى لا نثقل على القارئ بتحليل سياسي أو تاريخي لنشاط هذا النموذج ومدى تناقضه الصارخ مع الروح المصرية ومع الحياة المصرية سنلجأ إلى أسلوب رمزي كفيل بأن يصور عقيدتنا في الحقيقة على نحو ما نفهمها ونصورها مع استعداد علمي وبحثي بالطبع لأن نعدل من آرائنا إذا ما ثبت لنا انعدام الصواب في ما نذهب إليه.

وعلى سبيل المثال أولا، كان صاحب النموذج الذي نتحدث عنه حريصا في كثير من الأحيان بدون مناسبة على أن يكرر تجربة فاشلة تقول إنه من الممكن أن نحول مجرى نهر النيل ليكون بالعرض بدلا من الطول، وذلك حتى لا يصب في البحر الأبيض، ويضيع بعض مائه في ذلك البحر.

من العجيب أن ينتقل التفكير الخرافي إلى عالم السياسة ونسمع شبيها له على لسان من يظن نفسه قادرا بماله على أن يقول للشيء كن فيكون، وذلك من قبيل القول إن مصر دولة مسيحية أو يهودية
وتقول النظرية الفاشلة إنه يمكن لنا أن نأتي إلى مصب النهر فنضع سدودا في الطريق الحالي ونفتح قبل هذه السدود الترع العريضة الكفيلة بإجبار الماء المتدفق أن يمضي في اتجاه الشرق والغرب بدلا من أن يمضي في اتجاه الشمال، وكان الرجل المراهق فكريا يصل بهذه الفكرة إلى حد القول إنه من الممكن أيضا توجيه النيل في طريق "زاوي" (أي يصنع زاوية 45 درجة) أو ما شابهه ليصب فرع دمياط في العريش بدلا من دمياط، وليصب فرع رشيد مثلا في الحمام إلى الغرب من الإسكندرية، وهكذا تتسع دلتا النيل عما هي عليه، وبالطبع فقد كان هناك من تمادى في مثل هذه الفكرة إلى حد القول بإنشاء النهر العظيم في ليبيا والزعم أن هذا نهر حقيقي وعظيم.
ليس هذا المقال مجالا لإبداء الدفوع الفيزيقية التي تجعل مثل هذا التوجه يبدو في صورته الحقيقية وهي صورة الهراء، فذلك أمر مفروغ منه، لكننا لا نعدم من آن لآخر رجلا أو شبه رجل يأتي كل عشر سنوات ليروج لمثل هذه الفطرة دون أدنى استحياء.

ومن العجيب أن ينتقل هذا التفكير الخرافي إلى عالم السياسة ونسمع شبيها له على لسان من يظن نفسه قادرا بماله على أن يقول للشيء كن فيكون، وذلك من قبيل القول إن مصر دولة مسيحية أو يهودية.

وعلى سبيل المثال ثانيا، فإننا لا نعدم أيضا من يطلب من المصريين أن يكفوا عن الزراعة نهائيا لأن عائدها ضعيف جدا، وأن ينشغلوا بالعمل في مجالات تجارة الخدمات، فنقول له إنهم لم يؤهلوا لهذا، فيرد عليك بأن من الواجب أن توقف الزراعة تماما حتى لا يجد هؤلاء أمامهم إلا العمل بعيدا عن الزراعة.

وإذا قلت له إن هؤلاء سيتحولون إلى بطالة خطرة وليس إلى طالبي تأهيل أو راغبي تأهيل فسيقول لك إن بالإمكان توفير وتمويل عناصر موازنة كفيلة بتعويضهم عن ترك الزراعة مقابل تبوير الأرض لتكون منتجعات سكنية، وإن مثل هذه الاعتمادات كفيلة بحل المشكلة، وتقول له إن تبوير الأرض ليس بالأمر السهل، فستخرج مياه جوفية إلى سطحها وستكون محملة بميكروبات وحشرات كانت في باطن الأرض لابد أن تعالج بسرعة، لكنه يصمم على أن الاستثمار العقاري وحده هو الحل الشامل لمصر الذي ينقلها إلى مصاف فاحشي الثراء، وساعتها ستتصدق مصر على جيران أوروبيين فقراء!! حين تشتري منهم منتجاتهم الزراعية.

ولا ينبغي لنا أن ننفق الوقت الثمين في تسفيه مثل هذا التفكير، فهو أسفه من أن يحتاج إلى تسفيه، لكن أصحابه لا يجدون حرجا في تكرار الحديث عنه، وفي توسيع نطاق المناداة به والدعوة إليه، مع أنه إذا أثبت نجاحا في فدان فلن يثبت النجاح في مليون فدان، لكن أصحاب الزيغ الفكري لا يخرجون عن هذا الإطار في تصورهم لما يمكن أن ينجزوه بالموارد المحدودة، ومن ثم تتعالى نغماتهم في استخدام البلطجية والسلاح والمليشيات لفرض الرؤى الضيقة على النطاق الواسع.

ومن سوء الحظ أن مصر الآن تستمد دعوات ممثلة في ما يتعلق بالنهج الإستراتيجي والسياسي الذي ينبغي أن تخطه، ومن عجائب الأقدار أنه نهج أمني قاصر يزعج إسرائيل أكثر مما يزعج حماس.

ولأني وعدت أن أكون رمزيا وأن يكون الرمز واضحا فسأعبر عن مثل غير حقيقي لكنه مقرب للحقيقة، يزعم هذا المثل أن بعض هؤلاء يطالبون بانضمام مصر إلى منظمة الدول اللاتينية في أميركا الجنوبية حتى يتاح لها قدر من الجمال في سلالات الأجيال القادمة، ويقولون لك إن تكلفة الانتقال إلى الأرجنتين والبرازيل يمكن تدبيرها، وهكذا.

ونأتي إلى المثل الثالث الذي يمكن تلخيصه بسرعة في قول بعض المهاويس بما تتيحه اللغة من آفاق التوظف وفرص العمل حين يدعون إلى ترك تعليم اللغة العربية نهائيا لحساب تعليم لغة عالمية، والمعنى في هذا المثل أوضح من أن نصوره أو أن نناقشه.
مصر اليوم تعاني اختناقا مؤقتا بسبب ضغوط الأيديولوجيات الانقلابية الثلاثة، وهو اختناق يمكن علاجه ببساطة الزمن المبدد للتخاريف، وقدرته على إتمام هذا الهدف النبيل 
كما أن نقضه لحسن الحظ أصبح متاحا على لسان أصحاب قوميات أوروبية كبيرة منها الروسية، وهي ما هي، ومن حسن الفطنة أنها دعت أبناءها إلى أن يتعلموا العربية بدلا من الفرنسية، لأن العربية أهم من الفرنسية بكثير، صحيح أنها لم تصل في مجال الأعمال إلى أهمية اللغة الإنجليزية، لكنها تمثل اللغة الأجنبية الثانية، الأولى بالدراسة في مجتمع متطلع إلى فرص العمل وفرص التعاون الاقتصادي والتكنوقراطي.

قارن هذا الخطاب الذكي الذي يتبناه رجال الأعمال الروس والصينيون وأصحاب قوميات أخرى في مثل أهميتهم بهذا النمط البارز من الانحطاط العقلي الذي يحتال على إفشال تعليم اللغة العربية وتعلمها بكل ما هو ممكن من تقليل فرصها وتقليل درجاتها في الامتحانات العامة، وتقليل أهميتها في العملية التربوية، ثم إحلال المدارس الأجنبية في محل أرفع منها، ثم بالسماح بالتدريس بلغات أخرى غير العربية التي هي اللغة القوية، ثم بالسماح بتداول أوراق ومستندات ووثائق العمل الحكومي بغير اللغة الوطنية وبتداول كل ما هو ممكن من معاملات اقتصادية ومصرفية وتجارية وبحرية بعيدا عن هذه اللغة، وذلك بزعم كاذب اسمه العولمة أو العالمية، على حين أن العولمة نفسها لم تتطلب هذه الصورة من العالمية ولا جعلتها أصلا من أصولها، لكن الانحطاط نفسه مرض غير منطقي.

وفي هذا المقام لن أمنع نفسي من ذكر ما سبقت إليه حين أعلنت بكل وضوح في مطلع الألفية أن العولمة ستخدم العربية الفصحى وستجعل قنوات الفصحى أقدر على البقاء في سوق الإعلام وآفاقه على حين سيكون التلاشي من حظ قنوات العامية، وقد تعجب الناس يومها، لكني كنت حينها مرهوب الجانب لم تستبح الثورة المضادة مهابتي بالافتراء، وهكذا سكت غير المقتنعين على مضض إلى أن فوجئوا بأن ما أقوله أصبح هو الحقيقية، ووجدوا أن واحدا من دعاة العامية والانفصالية ومحاربة العربية والإسلام كان في مقدمة من عدلوا رأيهم إلى الأخذ برأيي في هدوء ودون اعتراف ودون شكر مع أنه كان -كما هو المتوقع- قد أنفق المال الوفير كي تكون قناته معبرة عن مجد العامية كما يتصوره.

على هذا النحو يستطيع القارئ أن يتصور الأزمة التي تعيشها السياسة المصرية وهي تعاني اختناقا مؤقتا بسبب ضغوط الأيديولوجيات الانقلابية الثلاثة، وهو اختناق يمكن علاجه ببساطة الزمن المبدد للتخاريف، وقدرة الزمن على إتمام هذا الهدف النبيل بحكم الزمن وحده وبدون أن تضحي الجماهير ببعض الرؤوس الفاسدة، وإن لم يخلُ الأمر من مثل هذه التضحية المتطلبة.
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق