لا تنتخبوا "العبط"
وائل قنديل
وإذا كان هذا التيار قد قدم نفسه في البدايات موضوعا للتندر والسخرية المريرة، فإنه سرعان ما صار مسيطرا ومهيمنا، حتى إن بعض الذين سخروا منه في البواكير اعتنقوه وتمثلوه وباتوا جزءا منه في الخواتيم، فرأينا من كانوا دوما مع الرصين والجاد، ينافسون بقوة في مهرجان العبث المنصوب أرضا وفضاء، لنصدم في رموز قررت أن تخلع أردية الوقار وترمح في مضمار الدجل السياسي والإعلامي كخيول هرمة وقعت في غواية السفه واستسلمت لإغراء النهايات "العبيطة".
إن بعض الذين ناضلوا طويلا ضد الرداءة والانحدار بدوا في لحظة مجنونة وكأنهم ضجوا بكل ما بشروا به من قيم التنوير والرقي، وقفزوا فجأة في مستنقعات الإسفاف، يمارسونه بأنفسهم، أو يرونه يمر أمامهم ويحيط بهم فيصفقون له مبتسمين في حالة رضا كامل، أو في أفضل الأحوال حالة من عدم الرغبة في مقاومة هذا التيار، ليس نتيجة عجز عن المواجهة ولكن كنوع من تجربة التماهي مع التيار والاستفادة منه والعيش في كنفه.
وفي وضعية كهذه لا تعدم أن تجد من كنا نعتبرهم آباء للثورات يتحولون إلى عمالة زائدة منخفضة السعر في سوق الثورة المضادة، بعضهم ارتضى أن يكون حارسا على بوابات وسدود لطالما بشر وحشد لكسرها واقتحامها، وآخرون علموا الناس أبجدية تحدي المستحيل وانتزاع الحلم من بين أنياب الخوف، أصبحوا فجأة خوافين ونهازين محترفين محترقين كالفراشات العجائز على سطح مصباح جنرالات السلاح والثروة.
في الحالة المصرية تبدو الخسارة فادحة فيمن حرضوا الجماهير على الزئير في ميكروفونات الهتاف ضد الظلم والعسف والاستبداد، ثم انتظروهم بالهراوات والسياط على بوابات الخروج من الميادين.
أولئك الذين لا يعترفون بالنضال إلا إذا كان يرتدي "الجينز" وينكش شعره ينفث في الهواء دخان أكبر كمية ممكنة من المصطلحات فاقعة الماكياج الثوري المبتذل، هؤلاء وحسب عندما يسقطون يمنحون لقب "الشهيد" وتنطلق من أجلهم التغريدات وتدبج المقالات وتشتعل الشاشات.
أما حين تحصد أرواح المئات من المخالفين وتنفجر جماجم المتظاهرات بالرصاص الغبي وتسيل الدماء على الأسفلت وتنتهك الأنفس والأجساد في سلخانات الاعتقال فإن حناجر أيقونات النضال المزيفة تتوقف عن الكلام وتلتزم الخرس، جبرا أو اختيارا.
يرون القذى في أعين مخالفيهم ولا يرون الخشبة في أعين رفاقهم، يسيل دمعهم وحبرهم على "هاشتاج الجنرال" فتنساب من أفواههم مفردات الإنسانية، لكن قلوبهم الرقيقة لا تتأثر أبدا أو تنفعل لمشاهد اغتصاب معتقلين ومعتقلات خلف أسوار السجون.
هم على استعداد للتخلي عن أكاديميتهم واستنارتهم بناء على مشيئة الباطش القوي، فتمر من أمام العلماء منهم فضيحة الاختراع المزيف فلا يجرؤون على التعليق أو حتى السؤال، وتمر من خلفهم جنازات الشهداء فلا يملكون جسارة الالتفات.
وأكرر ما قلته بعد استشهاد سيدات المنصورة على أيدي القتلة في يوليو الماضي: إن الأبشع من جريمة قتل المتظاهرين والمتظاهرات هو هذا الغائط المتدفق من أفواه استقالت من إنسانيتها وأخلاقيتها.
مدهش حقا أن تتحول أيقونات العقلانية والتنوير إلى قطع من الليل البهيم في دولة العبط والخرافة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق