بغداد والأنبار بعد السنوات العجاف
لا يذكر الناس في البلدان الإسلامية اليوم إلا ذكريات الآلام والأتراح؛ فذكريات الانتصارات تستلزم الغوص بعيداً في التاريخ؛ فهذه الأيام تطل مذكرة بدير ياسين وبحر البقر وسقوط بغداد.. وما إلى ذلك.
والواقع أن ظروف وملابسات كل مأساة إسلامية ماضية تكاد تتكرر بحذافيرها وأحداثها ومفرداتها؛ فحيث يعاني الفلسطينيون من الإجرام والتغول الصهيوني؛ فإن العراقيين السنة ما زالوا يعانون المعاناة ذاتها التي بدأت قسماتها تتشكل مع سقوط بغداد في مثل هذه الأيام (9 إبريل 2003)، بل تبدو الأحوال آخذة في التدهور أكثر من تلك التي تفجرت في ظهيرة ذلك اليوم قبل 11 عاماً.
فالمتتبع لأحداث تلك الأيام، كان يلحظ أن بغداد كانت تكابد آلام حرب، لكنها لم تكن تعاني مأساة تهجير كتلك التي تحدث اليوم في بغداد والأنبار، والتي كشفت أحدها خريطة أعدتها جامعة كولومبيا الأمريكية توضح التغيير الديموجرافي الذي طرأ على بغداد لمصلحة الشيعة فيها، وهو ما ينذر بتغليب مستمر لعقود للأقلية الشيعة في العراق عن طريق تملك زمام العاصمة..
الصورة تبدو سوداوية جداً في العراق بعد 11 عاماً من إسقاط بغداد؛ فالحكم طائفي، والاستهداف للسنة مستمر، والتهميش لهم واقع، والمشاركة السياسية عرجاء، والأمن ضائع، والاقتصاد سيء في بلد تبلغ ميزانيته أكثر من 100 مليار دولار، لكن خُمُس سكانه يرزحون تحت خط الفقر، ويسكنون فوق بحيرة نفطية هائلة، والتعليم يجري "جعفرته" ليصبح شيعياً تماماً.. الخ
بيد أن سواد هذه الصورة ليس حقيقياً؛ فرغم الفاتورة الباهظة فالمقاومة مستمرة بقوة، وفي حين كانت تصخ الآذان أنباء معارك المطار في مثل هذه الأيام؛ فإن "معركة المطار" لم تزل مستمرة حتى اللحظة؛ فالثوار يقاتلون في الضواحي، فيما تشتعل الأنبار مثلما فعلت أول مرة، ومثلما ظلت عصية على الاحتلال الأمريكي؛ فإنها بعد أن طردته تبقى عصية على ورثته من الصفويين، والمالكي، رئيس حكومة طهران ببغداد ما فتئ يتوعد باقتحام الفلوجة كما كان يفعل بوش، في وقت يقف عاجزاً رغم كل ما يلقيه من حمم على سائر الأنبار في مدنه الأبية المقاومة، فيما يصفه الشيخ حارث الضاري بأنه "إبادة جماعية".
لكن رغم هذه "الإبادة"؛ فإن كل هذه السنوات لم تقتل إباء السنة، ولا حيويتهم في منازلة أعدائهم الصفويين، وأولئك لم يعودوا بالقوة ذاتها التي كانوا عليها من قبل؛ فلقد وضعتهم الأقدار في واجهة الصراع بعدما كانوا مختبئين خلف جدر أمريكية وبريطانية، كما أن المدد الإيراني الذي لا ينقطع عنهم، لم يعد بهذا السخاء السابق؛ فنظام بشار هو الآخر في أزمة كبيرة بعد أن تضعضعت قواه في الساحل، وأضحى في موقف بائس، لاسيما مع دخول اللاعب التركي على الخط في واحدة من أدق اللحظات التي تمر بها المنطقة والعالم الإسلامي برمته.
بغداد والأنبار لم ييأسا، والمحافظات الست المنتفضة عازمة على تغيير المعادلة ليس لأن الظرف سانح لهذا، فكثير من الظروف ليست في صالحها، وإنما لأنه ليس ثمة طريق أخرى؛ فلقد انقطعت سبل كثيرة، ولم يعد من خيار سوى المواجهة، خصوصاً بعد أن تهافتت كل الحجج بالمشاركة السياسية مع العدو الغاصب، ولم يعد الأمر يحتمل مزيداً من الخداع..
إذ ذهب مفعول مخدر "الديمقراطية" الذي يستدرج به الشعب لحتفه.. هنا في بغداد الإباء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق