الثلاثاء، 8 أبريل 2014

عرب نحن لا فراعنة… يا سادة

عرب نحن لا فراعنة… يا سادة
الدكتور جابر المتولي قميحة
(12 أبريل 1934 – 24 ذو الحجة 1433 هـ / 9 نوفمبر 2012)
ليس هناك مصري واحد إلا غمرته الفرحة بحصول فريقنا على كأس الأمم الأفريقية في كرة القدم، بل شاركنا إخواننا العرب في التعبير عن هذا الشعور بقيام مظاهرات البهجة في بلادهم، بما فيهم سكان غزة، وهم الذين يعانون ما يعانون من الجوع، والمرض، والحرمان.
 فكانت هذه المشاهد جميعًا ـ في مصر والبلاد العربية تعبيرًا عفويًّا صادقًا عن التطلع إلى وحدة جامعة تجعل من الشعوب العربية كيانًا واحدًا في الآمال والآلام، والتعامل مع الواقع
كخطوة أولى نحو وحدة شاملة. ولكن فرحة النصر يجب ألا تذهلنا عما كان يجب أن نأخذ أنفسنا به، وما كان يجب أن نتفاداه ونسقط فيه. فقد تحولت مظاهر الفرحة إلى ألوان متعددة من التهريج السوقي الرخيص، وكأننا في سيرك يقدم مهرجوه ما يشاءون.. بوجوه تعددت أصباغها، ورءوس منفوشة الشعر، أو ما يشبه الشعر، ورأينا “الحضري” حارس مرمى الفريق يعتلي عارضة المرمى، ويرقص – وهو عليها جالس – رقصات هيسترية، ويخرج لسانه ويلعب به في حركات يمينية ويسارية وأمامية
 (لقطعة مقتطعة: نشرت الصحافة ووسائل الإعلام اليوم – 21 / 2 / 2008م – أن الحضري تسلل خفية هاربًا ليتعاقد مع فريق بسويسرا).
 ومما قيل عن أبي علي بن حازم السجستاني “… يرحمه الله … فقد عاش وقورًا في أفراحه، وقورًا في أحزانه، وكأن أفراحه وأحزانه سواء.. ” .
 ولنذكر ما جاء في كتاب الله في قصة قارون: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). القصص 76 .
 ولكن كل ذلك يهون أمام خطأ فادح، بل خطيئة قاتلة وهي وصف فريقنا بـ “الفراعنة” في كل وسائل الإعلام المنطوقة والمرئية “ ” لماذا يا سادة ونحن عرب في هويتنا ونسبنا، ولغتنا? , وماذا لو استبدلنا كلمة “عرب” بكلمة “الفراعنة”.. فتأتي العناوين على النسق الآتي: العرب يفوزون بكأس الأمم الأفريقية الخ….؟، سيُعترض على ذلك بالسؤال التالي: أي عرب تقصد؟ إن الوصف غير مميز؟ أقول فليكن “العرب المصريون” وبالنسبة لسوريا، العرب السوريون، وهكذا.
 سيقولون .. ولكن الفراعنة أصحاب حضارة كبرى في التاريخ يعتد بها وتدعو للاعتزاز والفخر، وأقول: إنها مقولة غارقة في المبالغة.. وأقرأ لعدول الغربيين وشهاداتهم للحضارة العربية، من أمثال زيغريد هونكة، وغوستاف لوبون، ومارتن بلسنر.
وعلى سبيل المثال نرى “بلاسكو أبانيز” في كتابه “ظلال الكنيسة” يمجد العرب الأندلسيين فالفتوح العربية كما يقول ـ كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وتدويخ. ولم يكن ـ في الواقع ـ فتحًا فرض على الناس برهبة السلاح، بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء هذه الحضارة زمنًا عن فضيلة حرية الضمير.. فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى، وبيع اليهود، ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها غيرها سيدا لها، ولا راغب في السيادة عليها. وتمت على هذا ـ ما بين القرن الثامن، والقرن الخامس عشر ـ أجمل الحضارات وأغناها في القرون الوسطى.
 وفي الزمن الذي كانت أمم الشمال فريسة للفتن الدينية، والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة كان سكان أسبانيا يزدادون، فيزيدون على ثلاثين مليونًا تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية والعقائد الدينية.. فعاشت في الجزيرة الأندلسية طوائف من النصارى والمسلمين، وأهل الجزيرة والشام، وأهل مصر والمغرب، ويهود أسبانيا والشرق، فكان منهم ذلك المزيج الذي تميز منه المستعمرون، والمدجنون، والمولدون، وعاشت ـ بفضل هذا التفاعل الحي بين العناصر والعروق ـ جميع الآراء، والعادات، والكشوف العملية، والمعارف، والفنون، والصناعات، والمخترعات الحديثة والأنظمة القديمة، وانبثقت من تجاوب هذه القوى مواهب الإبداع والتجديد.
 وتؤكد زيغريد هونكه هذه الحقائق، فبواسطة العرب تعرفت أوروبا على أهم آثار القدامى، وبفضل ترجماتهم للمخطوطات اليونانية وتعليقاتهم عليها، وبفضل آثارهم الفكرية الخاصة أدخلت إلى العالم الجرماني روح التفكير العلمي، والبحث العلمي.
إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حدًا قريبًا من الكمال، وحسابهم وجبرهم، وعلمهم في المثلثات الدائرية، ومصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب، وقد ارتفعت بأوروبا إلى مكانة مكنتها عن طريق اختراعاتها، واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم في ميادين العلوم الطبيعية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.
 وفي سفره الضخم “قصة الحضارة” يعترف “ديورانت” بعمق تأثير الحضارة الإسلامية في الغرب في كل مناحي الحياة، وبصورة متسعة متعددة، فقد تلقت أوروبا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية، والأسلحة، وشارات الدروع ونقوشها، والتحف، والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيرًا من الصناعات، والتشريعات، والأساليب البحرية، وكثيرًا من الأسماء مثل Leom (ليمون) Sugar (سكر)، Sycup (شراب)، Elixir (الأكسير)، Admiral (أمير البحار)، والعلماء العرب هم الذين احتفظوا بما كان عند اليونان من علوم الرياضة، والطبيعة، والكيمياء، والفلك، والطب، وارتقوا بها، ونقلوا هذا التراث اليوناني بعد أن أضافوا إليه من عندهم ثروة عظيمة جدديدة أي أوروبا.
***
 وهذه الدعوة “الفرعونية” تفتح الباب ـ على مستوى الوطن العربي ـ إلى دعاوى مشابهة تجري في نفس الفلك، وعلى سبيل التمثيل والافتراض لو أن فريقًا لبنانيًّا أو سوريًّا، فاز بكأس بطولة معينة، لكن من حقه أن يعلن بأن “الفينقيين حققوا الفوز العظيم”: والفينقيون أصحاب قوة، وتاريخ وحضارة، امتدت إلى أصقاع الأرض؛ لأنها أول أمة بحرية في التاريخ، ولها عراقة في التجارة والريادات البحرية.
 وكان من حق العراقيين أن يعلنوا ـ في حالة الفوز ـ “البابليون أو الآشوريون يفوزون بالبطولة”. علمًا بأن آشور هي أول دولة قامت في شمال بلاد ما بين النهرين، وكانت دولة عسكرية لها إنجازات معمارية مشهورة وكذلك في الفن والنقوش أي كان لهم إمبراطورية مشهورة معروفة. وهكذا تصبح الأوطان العربية ـ قياسًا على ما فعلنا نحن المصريين ـ مجموعة من الشعوب المنتسبه إلى عهود ما قبل الإسلام… عهود الفينقية والبابلية، والآشورية، وعلى الهوية العربية السلام، ألف سلام.
***
 وأخيرًا أحب أن أذكر شعبنا بخطورة الدعوة الفرعونية، التي مثلت فتنة في تاريخنا على يد رجال نفضوا عنهم الولاء لمصر، منهم: ميخائيل عبد السيد، وجندي إبراهيم، وفرنسيس العتر.
 وأصحاب هذه النزعة بلغ من اعتزازهم بالفرعونية أن اتخذوا من اسم رمسيس شعارًا لهم، ولقبوا أنفسهم بأحفاد رمسيس، وأنشأوا ناديًّا لهم باسم رمسيس، ومجلة بنفس الاسم، وظلوا يلحون على نقل تمثال رمسيس من البدرشين إلى “ميدان باب الحديد” بالقاهرة، إلى أن تحقق ذلك سنة 1955م، وكان بعضهم يسمي أبناءه بأسماء فرعونية.
 وقد بلغت العصبية للفرعونية حدًا شاذا غريبًا عجيبًا، يدل على ذلك ما نشرته صحيفة “الوطن” القبطية في 16/8/1913م، أن وفدًا من أدباء الأقباط، زار معبد الكرنك في مدينة الأقصر، ولما صاروا أمام أحد تماثيل رمسيس الأكبر، انبطحوا على الأرض، وتمرغوا في التراب، وتقلبوا في العفار والهباب، ورفعوا أصواتهم بالبكاء والعويل، وسالت دموعهم كل مسيل، واشتد الصياح، وعظم النواح، وصاروا يرددون البيتين الآتيين لنصر لوزا الأسيوطي:
رمسيس قم وانظر الأحفاد كيف همو          ذلوا وكيف على بلواهمو صبروا
رحماك  رحماك  قم وانظر بعينك ما          قـد خبأته ليـالـي الغدر والقهر
وربما كان من العوامل التي أججت هذه العاطفة الفرعونية علو صوت المسلمين بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية والالتفاف حول لواء الخلافة.
 هذا وترويج دعوى أنهم “نسل الفراعنة، تعتمد على زعمهم أن دماءهم لم تختلط بدماء أجنبية عربية، أو تركية، أو غيرها”. وقد صرحوا بما يبين عن هذه النزعة في كثير من قصائدهم كتلك التي نرى الشاعر “تادرس وهبي” يهنئ بها الزعيم القبطي “بطرس غالي” بمناسبة توليه رياسة الوزارة المصرية سنة 1908م، وفي مطلعها يقول:
فيا  سلالة “مينا”        والشيء بالشيء يذكر
لقد رآك الخديوي        على   الرياسة   أقدر
فكنت خير وزير        حاز   الفخار  المؤزر
* * *
وأخيرًا أقول للمسئولين، وأقول للرياضيين، بل أقول لكل مصري: إن العروبة مفخرة… لغة وتاريخًا، ومعتقدًا، وفكرًا، وتراثًا، وعاطفة، وهي أولى بالاعتزاز من ألف “فرعونية”، حفاظًا على هويتنا، واعتزازًا بذاتنا، وتحقيقًا لما نحرص على تحقيقه من وحدة عربية ـ لا فرعونية ـ شاملة. إنها كلمة أقولها من العقل والقلب، عسى أن تجد الطريق إلى المواطنين جميعًا في وطننا الحبيب (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب: 4).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق