دلالات انتصار أردوجان الكبير
انتصار غير مسبوق؛ هذا هو أدق وصف للنجاح الكبير الذي حققه حزب أردوجان في الانتخابات البلدية، بعد أن حصد قرابة نصف المقاعد البلدية في تركيا، وحقق نجاحًا تاريخيًّا في عدد من البلديات التي لها أهمية رمزية وتأثيرًا كبيرًا في تحديد الفائز من الخاسر في هذه المعركة الديمقراطية، إذا تحولت رئاسة بلديتها من حزب لآخر، مثل إسطنبول، برمزيتها وتمثيلها لأطياف وأعراق وطوائف المجتمع التركي، فهي رمانة الميزان في تحقيق الانتصار، وفي يد العدالة والتنمية منذ سنوات طويلة، وكذلك العاصمة أنقرة التي يلهث الكماليون وذراعهم السياسي حزب الشعب في إزاحة العدالة والتنمية من السيطرة عليها منذ سنوات، وكذلك أزمير قلعة حزب الشعب الجمهوري التقليدية حيث دفع أردوجان بذكاء وحنكة سياسية لافتة بأحد أنجح وزرائه، وهو وزير المواصلات السابق، لتلك البلدية التي تعاني من مشاكل مزمنة في قطاع المواصلات تحديدًا، كما حقق الحزب انتصارًا في قلاع حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي، ومنها أنطاليا وهاطاي وصمسون.
عظمة وروعة الانتصار هذه المرة أنه يأتي في توقيت شديد الحساسية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ليس بسبب الأزمات الداخلية المتصاعدة منذ أحداث "تقسيم"، وإنما بسبب المرحلة الجديدة من العلاقات الأميركية-التركية، وتحديدًا بين إدارة الرئيس أوباما ورئيس الوزراء أردوجان على خلفية جملة من القضايا السياسية والتي وصلت لحد تجميد الاتصالات بين الجانبين، وتداعيات الانقلاب العسكري في مصر وقطع العلاقات بين الجانبين، وتطورات الأزمة السورية، والتقارب الأمريكي السعودي في هذا المحور على حساب الدور التركي، وتداعيات التقارب الإيراني-الأميركي، وصولًا إلى توجه تركيا لإتمام صفقة الصواريخ مع الصين، واستمرار الخلافات العميقة مع الكيان الصهيوني. لذلك كان لهذا الانتصار دلالات واستحقاقات بالغة الأهمية على المشهد التركي والإقليمي والدولي، ومن أبرز هذه الدلالات:
بروز خريطة سياسية جديدة في تركيا، فبعد سنوات من الشراكة بين حزب أردوجان وجماعة الخدمة بزعامة فتح الله كولن، تأتي هذه الانتخابات لتضع نهاية درامية لهذه الشراكة الناجحة، وتحوله إلى صراع يذكيه بعض أطراف المعارضة، وهذا يعني أن خريطة التحالفات السياسية والحزبية في البلاد لن تبقى كما هي عليها في المرحلة المقبلة، فجماعة الخدمة ستلجأ بالتأكيد إلى شراكة جديدة تبقيها في المشهد السياسي بنفس النهج التي تمشي عليه منذ نشأتها، حيث تلتزم بعدم إنشاء أحزاب سياسية وتكتفي بالمحالفات، والجماعة لا تمانع في التحالف مع الأحزاب العلمانية والقومية والمختلفة معها أيديولوجيًّا، فمثل هذا الأمر حصل بين الحركة في السبعينيات وحزب العدالة في عهد الرئيس الأسبق سليمان ديميريل، ومقابل احتمال ظهور مثل هذا التحالف يرى المراقبون أن أردوجان سيدخل في تحالف مع حزب السلام والديمقراطي الكردي الذي له 36 نائبًا في البرلمان مما سيصب بالإيجاب في صالح حل القضية الكردية التي تعتبر واحدة من أعقد القضايا الداخلية في تركيا.
ومن الدلالات أيضًا أن نتيجة الانتخابات تعتبر نجاحًا شخصيًّا لأدروجان الذي راهن الكثيرون على سقوطه هذه المرة، واعتبروا أن قضية الفساد الكبرى هي أسوأ ختام لسياسي قدير، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي سفن الخصوم في الداخل والخارج، ولكن الواثق من نجاحه والمتأكد من متانة قواعده الشعبية يتعهد بالاستقالة واعتزال الحياة السياسية إذا لم يحقق حزبه الانتصار المريح، وينتهج الشدة منذ اليوم الأول في مواجهة المؤامرات، فيبادئ خصومه بقرارات ثورية من إطاحة وعزل وندب ونقل، غير مبال بتنديدات الداخل والخارج، حتى أنه قد حجب موقع تويتر نفسه عندما رأى فيه تهديدًا للأمن القومي، فكان الانتصار وزيادة، فأردوجان يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة والتي ستكون أول انتخابات مباشرة لاختيار الرئيس، لا كما هو متبع الآن من كون الرئيس من حزب الأغلبية، وقد اعتبر المراقبون أن نجاح أردوجان في انتخابات البلدية هو استفتاء مبكر على شعبية يكشف عن مزاج الناخب التركي وتوجهاته.
ومن أبرزها سقوط جماعة الخدمة ورئيسها فتح الله كولن وربما للأبد من حسبة التأثير السياسي وربما غير السياسي في المشهد التركي، بعد مؤامرات ومكائد خبيثة جازفت فيها الجماعة بأمن تركيا القومي في سبيل النيل من أردوجان ورفاقه، ولعل التسريب الأخير لاجتماع كبار الساسة الأتراك هو السبب الرئيس في كشف حقيقة هذه الجماعة البرجماتية، إذ رأى الأتراك مدى انتهازية هذه الجماعة متاجرتها بأمن البلاد في سبيل تحقيق مكاسب سياسية ومادية والانتقام من خصومها. وأردوجان قد تعرض لمؤامرات كثيرة في حياته، ولكن مؤامرة جماعة الخدمة هي الأشد أثرًا، والأكثر إيلامًا؛ إذ أنها تأتي ممن يحسب على الخلفية الإسلاميةمثل ما وقع من حزب النور السلفي في مصر مع جماعة الاخوان المسلمين ــ جماعة الخدمة أصبح الذراع الديني لتنظيم "أرجنكون" الإرهابي، كما تحول من قبل حزب النور للذراع الدينية للعسكر في مصر.
ومؤامرة كولن تعمدت الإساءة للأشخاص مباشرة دون غيرهم، بهدف تشويههم واغتيالهم سياسيًّا، وبالرغم من أن جماعة الخدمة أو جماعة فتح الله غولن كانت من أكثر الجماعات الإسلامية التي استفادت من وجود أردوجان على رأس الهرم السياسي، فقد استطاعت في الفترة ما بين 2002 و2011 التغلغل في كل أجهزة الدولة وتوسيع نشاطها العام أضعافا مضاعفة، والنتيجة أن الجماعة عملت من خلال هذا التغلغل على إسقاط الدولة. أما فتح الله كولن نفسه فهو شخصية شديدة الغرابة فعلى الرغم من مقولته الشهيرة: "لو جاءني جبريل وطلب مني إنشاء حزب سياسي أو الانخراط في عمل سياسي لما استمعت إلى توجيهاته"، إلا أن المتتبع لأحاديث غولن سيجد له مقولة أو رأيًا في كل تفاصيل المشهد السياسي التركي، وسيجد له تحالفات مع أحزاب يسارية أو علمانية متطرفة في علمانيتها، كما سيجد له أقذع الاتهامات لنجم الدين أربكان رحمه الله، وغزله بالمؤسسة العسكرية لا ينقطع حتى بعد ابتعاد الجيش عن السياسية، حتى أنه أبدى استعداده مرارًا للتخلي عن كل ممتلكات الجماعة للجيش التركي، والعالم لم ينس دموع الشيخ الجليل على الصهاينة عندما ضرب صدام حسين تل أبيب بالصواريخ في تسعينيات القرن المنصرم، دموع لم ير مثلها أي مسلم في العراق وفلسطين وأفغانستان والبوسنة والشيشان وغيرها. ومحاولاته المستمرة نحو استرضاء الصهاينة، حتى أنمنتدى الحوار بين الأديان والحضارات الذي تأسس برعاية مباشرة من وقف الصحافيين والكتَّاب والذي يرأسه فتح الله كولن قام بفعالية ثقافية لتخليد ذكرى مأساة "ستروما"، لتخليد ذكرى 770 مسافرًا يهوديًّا كانوا على متن السفينة التي أُغرقت في 24 فبراير/شباط 1942، وقام بطباعة بطاقات الدعوة بصمت وهدوء وبدأ بتوزيعها، وسيكون ضيوف الشرف في هذا البرنامج الذي سيُقام في إسطنبول في 24 فبرايرٍ سياسيين من دولة الاحتلال "الإسرائيلي" في حين لم يهمس ببنت شفة في حادثة سفينة مرمرة التركية وقتلاها الأتراك على يد الصهاينة.
الانتخابات حددت بشكل كبير مستقبل جماعة الخدمة وزعيمها اللاجئ بالولايات المتحدة منذ ثلاثين سنة، حيث الحضن الدافئ للحرية الأمريكية ، ذلك أن الحركة، التي تقدر كتلتها التصويتية بحدود 3%، كانت تستمد قوتها من نفوذها في مؤسسات الدولة والتحالف مع العدالة والتنمية، وقد فقدت عنصر القوة الثاني وفي طريقها لخسارة الأول، بعد حملات التطهير المستمرة من أردوجان والتي أطاحت بمئات المنتمين للجماعة من الوظائف الحكومية ، مما يعني أنها أمام لحظة فارقة في تاريخها. فأردوجان قد تعهد باجتثاث التنظيم الموازي ، وقد وجهت الحكومة التركية لجماعة الخدمة اتهامات بالإرهاب أو الخيانة العظمى على هامش التنصت غير القانوني على قيادات الدولة وتسريب معلومات حساسة لأجهزة استخبارات أجنبية. ومثل هذا القرار قد يؤدي إلى ملاحقة قياداتها وطلب الحكومة التركية من الولايات المتحدة تسليمها كولن ووضع يدها على مدارسها التي تعد بالمئات في القارات الخمس أو ربما مطالبة الدول المختلفة بإغلاقها تماما، لاسيما وأن هذه المدارس تواجه حاليا مخاطر الحظر والإغلاق في دول كثيرة مثل أذربيجان وألمانيا وتركمانستان.
ومن دلالات الانتصار أيضا أهمية الوعي السياسي للمواطنين والشعوب ، فمحاولة اغتيال أردوجان سياسيا تمت عبر وسائل تشويه مخابراتية شبيه بما تم مع مالرئيس المصري محمد مرسي الذي لعب الإعلام الممول فلوليا وخليجيا دور كبير في الإطاحة عبر تهييج الرأي العام ضده ، وربما كانت الوسائل المستخدمة ضد أردوجان أشد ضراوة بسبب قضايا الفساد و التسريبات المتلاحقة ، وهو ما لم يحدث مع مرسي ، ولكن الفارق بين المواطن المصري والمواطن التركي أن الأخير كان لديه وعي سياسي كاف يمنحه حضانة من حملات الغزو الإعلامي ، ومقدرة على فهم حقائق الأمور ، وطبيعة مؤامرات وتحركات خصوم أردوجان لذلك لم يتأثر كثيرا بها ، في حين أن المواطن المصري غارق لأذنيه في التخلف السياسي في ظل ثقافة رعوية شب عليها الصغير وشاب عليها الكبير في أن السياسة نجاسة ، والجيش نار لا تلعبوا به ولا تلعبوا معه !! مما أمكن التأثير عليه بسهولة وحرف قناعاته بأدنى شائعة ، وهو ما حدث بالضبط مع مرسي .
من دلالات الانتصار أيضا سقوط حلف التآمر الجديد الممتد من الإمارات شرقا إلى أمريكا غربا مرورا بالكيان الصهيوني ، بمعاونة خصوم الداخل ، هذا الحلف الذي أراد الإطاحة بأردوجان وتقويض تجربته السياسية ، واستلهاما لمقولة مرسي ، ظلت الأصابع الخارجية تعبث بالداخل التركي منذ قرابة عدة شهور وتحديدا منذ أحداث تقسيم ، كما أن هناك أحداثا وتطورات أشارت بقوة على تداخل البعدين الداخلي والخارجي في الأزمة التركية الحالية، في مقدمتها وجود زعيم حركة الخدمة فتح الله كولن في ولاية بنسلفانيا الأميركية، ورغبة فتح الله غولن المستمرة في أن يقف الغرب وأميركا ضد مشاريع أردوغان النووية السلمية، وأن تعادي سياساته الداخلية، وبالتالي تقوم بالتضييق عليه ، بداعي امتلاك أسلحة دمار شامل أو التخطيط لبنائها، والدعوة التي وجهتها أمريكا لرئيس حزب الشعب الجمهوري خصم أردوجان العنيد لزيارتها ، حيث عقد عدة لقاءات مع كولن للتنسيق على إدارة الصراع ضد أردوجان .هذا فضلا عن تصريحات الكثير من السياسيين الأوروبيين المنتقدة لأداء الحكومة التركية، كالمفوض الأوروبي المكلف بالتوسعة وسياسة الجوار ستيفان فولي، والناطق باسم الاتحاد المسيحي في ألمانيا مايكل ستوبغان، إضافة لتقرير الاتحاد الأوروبي الأخير بخصوص تركيا الذي اعتبر الأسوأ على الإطلاق ،مما يهدد حظوظ تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي مستقبلا . ولعل صراخ ضاحي خلفان وأفيحادي أدرعي وعويلهم بعد ظهور نتيجة الانتخابات دليل على مدى الاحساس بخيبة الأمل وفشل المؤامرة .
أردوجان أرادوه مرسي جديدا ولكنه كان الأسد الذي لا تؤكل جراذيله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق