البرادعي من الدعوة لليبرالية إلى التنظير للعسكرة
وائل قنديل
حتى لا ننسى: حمدين صباحي ومحمد البرادعي، أول من طالبا بإسقاط كلمة "الفلول" من قاموس المصريين استعداداً للانقلاب على رئيس منتخب ديمقراطياً، ومن هنا يبدو غريباً إلحاح حمدين على أنه صعد إلى مسرح الانتخابات العبثية كمرشح لثورة يناير.
إن ما سميت "الانتخابات" جرت بين قائد للثورة المضادة، ومورد أنفار لها، وبالتالي لم يكن منطقياً أن يتحدث أي منهما عن يناير، فالحاصل أن ٣٠ يونيو كانت هدماً وحرقاً لثورة يناير، ومن ثم جرت انتخابات مابعد الانقلاب بين شخص يرتدي الزي العسكري، وآخر تتلبسه العسكرية.
لقد ثبت أن بعضاً من المبشرين بالليبرالية والديمقراطية أكثر عسكرية من العسكريين أنفسهم، و لقد ظهر ذلك في وقت مبكر للغاية بعد ثورة يناير.. وكم كان مدهشاً في تلك الأثناء من عام ٢٠١١ أنه كلما تحدث المجلس العسكرى عن مدنية الدولة، تجد فى أوساط النخبة والإعلاميين من يدفع الأمور بقوة وإلحاح مستفز ناحية "العسكرة" بما يعطي إيحاء بأن المجلس العسكري الأعلى أكثر مدنية من المدنيين أنفسهم.
وكان مثيراً للانتباه أن تتكرر عبارة "الأيدى المرتعشة" فى كتابات طفحت على صفحات الجرائد الحكومية، وكأن هناك مايسترو قام بتوزيع النوتة على مجموعة من العازفين لأدائها فى توقيت واحد، وبالتدقيق فى تفاصيل هذا اللحن تلمس أن المقصود فى النهاية الوصول إلى نتيجة مفادها أن الحكومة المدنية التى يرأسها مدني (عصام شرف في ذلك الوقت) لا تحكم قبضتها جيداً، ومن ثم فالحل أن نتخلص من الأيدى المرتعشة، والبديل معروف بالطبع..
أن يترجل المدنيون المرتعشون ويصعد أصحاب القبضة الحديدية أو بتعبير لمحمد حسنين هيكل، في الأهرام تحدث فيه عن غياب "ضابط إيقاع ينظم الأداء السياسى".
وفي نص عبارة هيكل، فإن "القرار هناك فى مجلس أعلى للقوات المسلحة موثوق فيه لكنه يدير دون أن يظهر وتنفيذ القرار هناك فى مجلس وزراء، وفيه عدد من الرجال المحترمين، لكن هذا المجلس يظهر دون أن يدير، ثم إن قوى الإجبار فى الدولة، وهي ركيزة أي استقرار ونظام حسم، معلقة على بوليس هو حالياً لا يقدر وعلى قوات مسلحة هي في الحق غير مختصة".
و إذا كان هذا مفهوماً من هيكل المسكون بالحنين إلى ناصرية عسكرية ذات قشرة مدنية، فإنه لا يمكن فهمه من شخص مثل الدكتور محمد البرادعي، الذي أحدث ظهوره على مسرح السياسة المصرية في ٢٠٠٩ زلزالاً استمرت توابعه حتى الخامس والعشرين من يناير، ومن عجب أن الرجل الذي كان مستودعاً لمدخرات المصريين من أشواق التغيير والتحول الديمقراطي تحول بعد ذلك بثلاث سنوات لأن يكون جسراً لعودة العسكر بشكل واضح وفادح.
و ما فعله البرادعي، أتت به النخب البليدة الكسول التي التفت حوله على نحو يظهر معه وكأن هذه النخب مثلها مثل العسكر لم يكن لديها مشكلة مع حسني مبارك، ونظامه وإنما كانت قضيتها هي منع توريث الحكم جمال مبارك.
كسل النخب السياسية التي تصورناها يوماً فاعلة فى المجتمع دفعها لأن تضع البيض كله فى سلة البرادعى، ضد مبارك والتوريث، تماماً كما فعلت ومعها البرادعي، حين التحقت بقطار العسكر المنطلق لدهس تجربة أول رئيس مدني منتخب في مصر.
أحزاب كارتونية أليفة
لقد كانت هذه النخب في معظمها من خوارج أحزاب أليفة صنعها نظام مبارك، وثبت قطعياً أن هذه الأحزاب التى تملأ الدنيا صياحاً عن حتمية التغيير هي أشد الناس عداوة لفكرة التغيير وأخلصهم إلى فكرة السكون والتيبس والتجمد، وأكثرهم تمسكاً ببقاء الوضع على ما هو عليه، ولا تصدق أياً من هذه الأحزاب أن ينظر الى نفسه على أنه بديل يصلح لحكم مصر، كما أن أحداً من قياداتها لا يرى فى نفسه أكثر من فلاح كفر الهنادوة (شخصية أحمد رجب ومصطفى حسين البديعة) الذى يجلس تحت قدمي رئيس الحكومة ويمارس بعضاً من ألوان المعارضة الأكروباتية .
إن الأحداث كشفت عن هشاشة وزيف التجربة الحزبية في مصر منذ زمن أنور السادات، وحتى زمن عبد الفتاح السيسي، كانت الأحزاب مجرد تابلوهات ملونة في صالون حزب السادات ومبارك، واستمرت كذلك مع "حزب الجيش" تمارس الألعاب البهلوانية الظريفة ذاتها.
وليس أدل على ذلك من أن هذه الأحزاب الهصور لا تمارس هصارتها وجسارتها إلا على بعضها بعضاً، بينما تتفنن فى التودد واستعطاف الحزب الحاكم بمنتهى العذوبة والرقة طلباً لكسرة تمثيل نيابى بالتعيين هنا أو شربة ماء من يديه الكريمتين تروي ظمأها لقليل من الدعم المادي أو الحصول على مساحة دور أكبر فى العرض.
فيتصارعون على من يكون الأقرب للعب مع الحزب الحاكم، عسكرياً صريحاً كان أم متنكراً في ثياب مدنية.
إن أخطر ما نجح فيه العسكر في ثورتهم المضادة أنهم اختطفوا الجماهير بمساعدة نخب متهافتة بوهم إنقاذ مدنية الدولة من أولئك الأوغاد أصحاب تيار الإسلام السياسي، وكأن الدولة المدنية هي فقط نقيض الدولة ذات المرجعية الدينية، وليست ضد الدولة العسكرية.
غير أن الأخطر من ذلك هو دفع قطاعات من الجماهير الى الكفر بفكرة التغيير والتحول الديمقراطي ورصها في مقاتلة جماهير الثورة الحقيقية، وهنا مكمن خيانة النخب التي ساقت ثورات بكراً لم تبلغ بعد سن الرشد إلى مخادع العسكر.
حدث ذلك في مصر مرتين: الأولى مع الصراع المستعر عام ٢٠١١ بشأن التعديلات الدستورية الذي أعاد للأذهان أجواء ما قبل انتخابات برلمان مبارك الأخيرة، حيث كان النظام يستهلك كميات هائلة من محصول الجزر لإغراء الأحزاب والقوى السياسية بالمشاركة في انتخابات محكوم عليها بالبطلان والتزوير قبل أن تبدأ.
لقد ابتلعت أحزاب الإسلام السياسي الطعم، وقررت القبول بترقيعات على دستور قديم، وهو ما لم يكن يستقيم مع قانون الثورة التى هي، أولاً، فعل هدم لنظم وأوضاع بالية لا تصلح للحياة، وبعد الهدم يأتي رفع الأنقاض وتنظيف التربة ثم البناء على أسس واضحة ومحترمة.
وفي المرة الثانية كانت الخيانة علنية في يونيو ٢٠١٣ حينما قرر من زعموا يوماً أنهم بناة الثورة بيعها في سوق الجواري.
هنا نأتي إلى داء عضال وهو تهاوي منظومة التعليم في معظم الدول العربية وابتعادها قصداً عن صياغة عقل نقدي عربي، يفكر ويختار ويحلم، وربما يمكن النظر إلى التفاوت بين مستويات القلق والخطورة على تجارب الربيع العربي من هذه الزاوية، إذ منح ارتفاع مستوى التعليم والثقافة درجات أعلى للتجربة التونسية جعلها أكثر قدرة على الصمود في مواجهة محاولات الارتداد إلى ما قبل الربيع، فيما وجدت الثورة المضادة في مصر سبيلها للانقضاض من بوابة الفقر المعرفي البين، فنجحت في استدراج جماهير عن طريق إثارة غرائز الخوف والجوع بداخلها، في وقت ضبطت فيه غالبية النخب متلبسة بممارسة حالة شيزوفرينية مقيتة جعلتها تتخلى عن قيم لطالما بشرت بها واستثمرتها، ثم قررت أن تتنازل عنها فجأة، إن بقوة السلاح، أو بإغراء القرب من صاحب السلاح.
يبقى السؤال أخيراً: هل قبرت أحلام العرب في التحول الديمقراطي؟
بالطبع لا، إذ لا يعني أن فرصة كبيرة أهدرت، أن الأمل مات، فما جرى في خريطة عرب الربيع ٢٠١١ يقدر على إعادة إنتاج نفسه بأسرع مما يتخيل الجميع.
سيحقق الشارع العربي تحولاً ديمقراطياً على الرغم من أنف مضخات التحبيط و التثبيط التي تمارس نشاطاً ملحوظاً هذه الأيام في تكريس فكرة، أن التغيير صار مؤجلاً مع صعود العسكر، وأن على الجميع الرضوخ.
سيأتي التغيير على الرغم من الإلحاح على تثبيت ذلك الخطاب الفتنوي الذي لا يريد أن يكف عن تغذية نزعات الاستقطاب بين فصائل متباينة توحدت فأنجزت الربيع، ذلك الخطاب الذي يسيل من ألسنة تعلن ديمقراطيتها لكنها للاستبداد أقرب.
وفي نص عبارة هيكل، فإن "القرار هناك فى مجلس أعلى للقوات المسلحة موثوق فيه لكنه يدير دون أن يظهر وتنفيذ القرار هناك فى مجلس وزراء، وفيه عدد من الرجال المحترمين، لكن هذا المجلس يظهر دون أن يدير، ثم إن قوى الإجبار فى الدولة، وهي ركيزة أي استقرار ونظام حسم، معلقة على بوليس هو حالياً لا يقدر وعلى قوات مسلحة هي في الحق غير مختصة".
و إذا كان هذا مفهوماً من هيكل المسكون بالحنين إلى ناصرية عسكرية ذات قشرة مدنية، فإنه لا يمكن فهمه من شخص مثل الدكتور محمد البرادعي، الذي أحدث ظهوره على مسرح السياسة المصرية في ٢٠٠٩ زلزالاً استمرت توابعه حتى الخامس والعشرين من يناير، ومن عجب أن الرجل الذي كان مستودعاً لمدخرات المصريين من أشواق التغيير والتحول الديمقراطي تحول بعد ذلك بثلاث سنوات لأن يكون جسراً لعودة العسكر بشكل واضح وفادح.
و ما فعله البرادعي، أتت به النخب البليدة الكسول التي التفت حوله على نحو يظهر معه وكأن هذه النخب مثلها مثل العسكر لم يكن لديها مشكلة مع حسني مبارك، ونظامه وإنما كانت قضيتها هي منع توريث الحكم جمال مبارك.
كسل النخب السياسية التي تصورناها يوماً فاعلة فى المجتمع دفعها لأن تضع البيض كله فى سلة البرادعى، ضد مبارك والتوريث، تماماً كما فعلت ومعها البرادعي، حين التحقت بقطار العسكر المنطلق لدهس تجربة أول رئيس مدني منتخب في مصر.
أحزاب كارتونية أليفة
لقد كانت هذه النخب في معظمها من خوارج أحزاب أليفة صنعها نظام مبارك، وثبت قطعياً أن هذه الأحزاب التى تملأ الدنيا صياحاً عن حتمية التغيير هي أشد الناس عداوة لفكرة التغيير وأخلصهم إلى فكرة السكون والتيبس والتجمد، وأكثرهم تمسكاً ببقاء الوضع على ما هو عليه، ولا تصدق أياً من هذه الأحزاب أن ينظر الى نفسه على أنه بديل يصلح لحكم مصر، كما أن أحداً من قياداتها لا يرى فى نفسه أكثر من فلاح كفر الهنادوة (شخصية أحمد رجب ومصطفى حسين البديعة) الذى يجلس تحت قدمي رئيس الحكومة ويمارس بعضاً من ألوان المعارضة الأكروباتية .
إن الأحداث كشفت عن هشاشة وزيف التجربة الحزبية في مصر منذ زمن أنور السادات، وحتى زمن عبد الفتاح السيسي، كانت الأحزاب مجرد تابلوهات ملونة في صالون حزب السادات ومبارك، واستمرت كذلك مع "حزب الجيش" تمارس الألعاب البهلوانية الظريفة ذاتها.
وليس أدل على ذلك من أن هذه الأحزاب الهصور لا تمارس هصارتها وجسارتها إلا على بعضها بعضاً، بينما تتفنن فى التودد واستعطاف الحزب الحاكم بمنتهى العذوبة والرقة طلباً لكسرة تمثيل نيابى بالتعيين هنا أو شربة ماء من يديه الكريمتين تروي ظمأها لقليل من الدعم المادي أو الحصول على مساحة دور أكبر فى العرض.
فيتصارعون على من يكون الأقرب للعب مع الحزب الحاكم، عسكرياً صريحاً كان أم متنكراً في ثياب مدنية.
إن أخطر ما نجح فيه العسكر في ثورتهم المضادة أنهم اختطفوا الجماهير بمساعدة نخب متهافتة بوهم إنقاذ مدنية الدولة من أولئك الأوغاد أصحاب تيار الإسلام السياسي، وكأن الدولة المدنية هي فقط نقيض الدولة ذات المرجعية الدينية، وليست ضد الدولة العسكرية.
غير أن الأخطر من ذلك هو دفع قطاعات من الجماهير الى الكفر بفكرة التغيير والتحول الديمقراطي ورصها في مقاتلة جماهير الثورة الحقيقية، وهنا مكمن خيانة النخب التي ساقت ثورات بكراً لم تبلغ بعد سن الرشد إلى مخادع العسكر.
حدث ذلك في مصر مرتين: الأولى مع الصراع المستعر عام ٢٠١١ بشأن التعديلات الدستورية الذي أعاد للأذهان أجواء ما قبل انتخابات برلمان مبارك الأخيرة، حيث كان النظام يستهلك كميات هائلة من محصول الجزر لإغراء الأحزاب والقوى السياسية بالمشاركة في انتخابات محكوم عليها بالبطلان والتزوير قبل أن تبدأ.
لقد ابتلعت أحزاب الإسلام السياسي الطعم، وقررت القبول بترقيعات على دستور قديم، وهو ما لم يكن يستقيم مع قانون الثورة التى هي، أولاً، فعل هدم لنظم وأوضاع بالية لا تصلح للحياة، وبعد الهدم يأتي رفع الأنقاض وتنظيف التربة ثم البناء على أسس واضحة ومحترمة.
وفي المرة الثانية كانت الخيانة علنية في يونيو ٢٠١٣ حينما قرر من زعموا يوماً أنهم بناة الثورة بيعها في سوق الجواري.
هنا نأتي إلى داء عضال وهو تهاوي منظومة التعليم في معظم الدول العربية وابتعادها قصداً عن صياغة عقل نقدي عربي، يفكر ويختار ويحلم، وربما يمكن النظر إلى التفاوت بين مستويات القلق والخطورة على تجارب الربيع العربي من هذه الزاوية، إذ منح ارتفاع مستوى التعليم والثقافة درجات أعلى للتجربة التونسية جعلها أكثر قدرة على الصمود في مواجهة محاولات الارتداد إلى ما قبل الربيع، فيما وجدت الثورة المضادة في مصر سبيلها للانقضاض من بوابة الفقر المعرفي البين، فنجحت في استدراج جماهير عن طريق إثارة غرائز الخوف والجوع بداخلها، في وقت ضبطت فيه غالبية النخب متلبسة بممارسة حالة شيزوفرينية مقيتة جعلتها تتخلى عن قيم لطالما بشرت بها واستثمرتها، ثم قررت أن تتنازل عنها فجأة، إن بقوة السلاح، أو بإغراء القرب من صاحب السلاح.
يبقى السؤال أخيراً: هل قبرت أحلام العرب في التحول الديمقراطي؟
بالطبع لا، إذ لا يعني أن فرصة كبيرة أهدرت، أن الأمل مات، فما جرى في خريطة عرب الربيع ٢٠١١ يقدر على إعادة إنتاج نفسه بأسرع مما يتخيل الجميع.
سيحقق الشارع العربي تحولاً ديمقراطياً على الرغم من أنف مضخات التحبيط و التثبيط التي تمارس نشاطاً ملحوظاً هذه الأيام في تكريس فكرة، أن التغيير صار مؤجلاً مع صعود العسكر، وأن على الجميع الرضوخ.
سيأتي التغيير على الرغم من الإلحاح على تثبيت ذلك الخطاب الفتنوي الذي لا يريد أن يكف عن تغذية نزعات الاستقطاب بين فصائل متباينة توحدت فأنجزت الربيع، ذلك الخطاب الذي يسيل من ألسنة تعلن ديمقراطيتها لكنها للاستبداد أقرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق