1967
د.محمد عباس
نعم..
كان ذلك عام 1967
قبيل 1967 توقعت الهزيمة .. وكتبت ذلك..
توقعتها رغم قصور مذهل في أدواتي الفكرية آنذاك عدا فطرة سليمة وصدق مع النفس جعلتني أمسك بأهداب الحقيقة.... لم أكن أدركت بعد حجم بحيرة الفساد المذهل التي تعوم عليها الدولة بما فيها الجيش.
لكن التوقع شيء والوقوع شيء آخر..
مع الهزيمة انجرحت جرحا هائلا..
ولقد ظل ذلك الجرح أكبر جرح في حياتي حتى الانقلاب.. ففاقه..
وتعاطفت مع جيشنا كما لم أتعاطف مع أحد أو شيء أبدا..
لكأنما أصبت مع كل جندي بالجرح الذي أصيب به..
وتألمت نفس الألم..
وذبحت أيضا مع كل شهيد دون أن أنال أجره..
كان الألم شديدا والقهر شديدا والغضب شديدا..
لكن الذل لم يكن كذلك..
كانوا قد أخفوا عنا الذل والإذلال الذي حدث لجيشنا في سيناء..
وكانوا قد أخفوا عنا ذل وعار الأسرى الذين أرغموا على حفر قبورهم ثم دفعتهم الجرافات إلى القبور..
وكانوا قد أخفوا عنا احتفالات إسرائيل وإذاعتها تغني:
قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. جيش عبد الناصر راجع ماشي..
وكنت كطفل مذعور فتحوا فمه عنوة وراحوا يصبون فيه أمر سم في الوجود..
أو كمريض في النزع الأخير راحوا يسرقون أعضاءه دون تخدير..
وكانوا قد خصفوا على العار الدامي أوراق الإعلام الفاجرة الكاذبة بقيادة محمد حسنين هيكل وعضوية أفراد كحمدي قنديل...
***
لكنني أحسست بالذل والغضب والعار واشتعال النار بين جوانحي في يوم من أيام يوليو أو أغسطس عام 67.. كنت أسير في شارع طلعت حرب بالقرب من الأمريكين عند التقاطع مع شارع فؤاد (طلعت حرب يستحق أن يسمى شارع باسمه أما فؤاد فأولى بشارعه من انقلاب عملاء الأمريكيين الذين ينتمون لكيرميت روزفيلت ومايلز كوبلاند.. الجبابرة الخونة) كنت أسير في الشارع ربما بجوار سينما مترووفوجئت بضجيج ومئات الناس يجرون ولمحت شخصا في المقدمة يضربونه بعنف ويمزقون ملابسه التي تخضبت بدمه وهو يجري عاريا أو شبه عار حتى اقترب من دار القضاء العالي فلجأ إلى أحد البيوت التي فتحت له فأنقذت حياته..
عرفت أنه ضابط في الجيش وأن الجماهير الغاضبة طاردته انتقاما للهزيمة..
بكيت قهرا وغضبا ووددت لو أنني فديته بروحي..
بعد ذلك ولمدة شهور أو أعوام مُنع الجنود من السير في الشوارع بملابسهم العسكرية
أقول أنني توقعت الهزيمة..
وكتبت أن العدو اليهودي الصليبي يحاربنا -حربا عالمية- كافة تحت راية عداء لديننا ونحن نحاربه كدولة تحت راية قوميتنا.. وحتى قوميتنا لم تحارب معنا..
***
أيامها كان ثمة صديق يقول لي:- كنت واثقا رغم الجعجعة وانتظار المعركة على أحر من الجمر وفي البحر حنحدفهم في البحر( -وقد كانت أغنية شائعة أيامها ولم يخجلني مفهوم الأغنية لكن عاري أنهم حدفونا في الصحراء وفي البحر وفي الجو ا هـ - ) كنت واثقا من الهزيمة انتقاما من الله من قيادة جيش لاهية عابثة جاهلة جهولة غبية متغطرسة سامت شعبنا الذل والهوان وسوء العذاب..
وقلت لصاحبي وأنا أحاوره:
- قد أوافقك في كل ما قلته عن القيادة فما ذنب الجنود المساكين البسطاء.. ما ذنبهم أن يحدث لهم ما حدث في سيناء.. ما ذنبهم في الجري تحت وهج شمس الصحراء الحارقة.. ما ذنبهم في العطش.. ما ذنبهم في الجوع.. ما ذنبهم في الخوف ..ما ذنبهم في الذل.. ما ذنبهم في العار.. بل ما ذنبهم في الموت..
ورد في غضب وألم لا يوصف:
- كلهم شاركوا في الظلم.. لم يأخذوا على يد الظالم بل كانوا يده الباطشة التي سامتنا سوء العذاب ولولا مظاهرتهم للباطش الجبار ما تمكن منا..
وواصل في ألم:
- كنت واثقا من شيء هائل لم أحدد كنهه سيحدث ليكسر تلك الأنوف الغبية ويمرغ وجوهها في التراب ويغرقها في مستنقعات عار لا تبرأ منها أبد الآبدين.. شيء ما يذل ويكسر كل رتبة في الجيش مهما بلغ علوها أو بساطتها..الأسفل والأعلى.. الأحقر والأعظم.. من عسكري المخلة إلى الوزير ومن الخفير إلى المشير.. إلى الطاووس المتغطرس ذي الألوان الزاهية.. الزعيم.. زعيم النكسة والخراب.. زعيم العمالة.. زعيم خلافة الاستعمار وتحويل الاحتلال الأجنبي إلى احتلال محلي.. كان لابد لهم من حدث يذيقهم الذل والهوان ويحرمهم من كل ما سعوا إليه ولو بإذلالنا وتحطيم أدميتنا.
حدث يحصيهم عددا ويشتتهم بددا ويذيقهم من الهوان والذل ما أذاقوناه.. ويضيعهم كما ضيعوا الأمة.
***
***
***
يا إلهي..لماذا أتذكر ذلك كله بعد سبعة وأربعين عاما؟؟؟
أثمة دبيب في قلبي بأن ذلك سيحدث مرة أخرى..
لنفس الأسباب.. وإن اختلف ميدان الهزيمة من الشرق إلى الغرب أو الجنوب.. وهو مكان او ميدان لمعركة بلا ريب أخس..
***
يا جبار.. يا قهار.. سلم سلم.. ولا تأخذنا بما فعل السفهاء منا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق