الدرة
(( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ ))
الامام الشافعي
الثلاثاء، 20 مايو 2014
الشيطنة تعقد الأزمة ولا تحلها
الشيطنة تعقد الأزمة ولا تحلها
لو أن الجهد الذي يبذل للشيطنة أنفق في الفرز والبناء لكسبت مصر من وراء ذلك الكثير.
(1)
يوم الأحد الماضي 18/5 أبرزت جريدة "الأهرام" على صفحتها الأولى خبرا كان عنوانه: حذف قيادي إخواني من قائمة الإرهابيين الأميركية.
الخبر مصدره موقع إلكتروني يُرمز إليه بالحروف الثلاثة دبليو. إن. دي، وخلاصته أن عضوا بمجلس الشيوخ اسمه تشارلز جريسلي طلب التحقيق في معلومات أفادت بأن وزارة الأمن الداخلي الأميركية حذفت سجلات متعلقة بقائمة إرهابيين تحتفظ بها من بينهم القيادي الإخواني جمال بدوي العضو المصري في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية، والمعروف بعلاقاته الوطيدة مع حركة حماس وحزب الله وتنظيم الجهاد الإسلامي الفلسطيني. وهو يقيم في كندا وعضو الجمعية الإسلامية في أميركا الشمالية، ومؤسس الجمعية الأميركية الإسلامية.
الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) ذكرت الرجل في سياق آخر، مختلف تماما. قالت إنه مصري يعمل أستاذا بأقسام الدراسات الدينية والإدارة في جامعة القديسة ماري في مدينة هاليفكس بكندا، درس الدكتوراه في جامعة إنديانا. وهو مؤلف لكتب ورسائل عديدة عن الإسلام، وقدم العديد من البرامج التلفزيونية عبر القنوات المحلية التي تبث في كندا والولايات المتحدة، وأشرطته وتسجيلاته منتشرة في مختلف البلدان الغربية. ومشاركاته دائمة في المحاضرات والمناظرات والحلقات الدراسية التي تتم في الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم.
يبدو أن حملة الشيطنة سوف تستمر، باعتبار أنها تمثل الغطاء الذى يبرر استمرار المحاكمات وتغليظ الأحكام، وتجديد الحبس الذي لا تكف المنظمات الحقوقية عن نشر التقارير التي تتحدث عن معاناة الخاضعين له
وهو متحدث ممتاز ودارس متعمق في الفقه وتاريخ الأديان، ويقوم بنشر المفاهيم الصحيحة عن الإسلام والمسلمين في العالم الغربي، وله نحو 350 حلقة عن الإسلام كل واحدة منها نصف ساعة، تلقى رواجا كبيرا في أوساط الدارسين وأتباع الديانات في أنحاء العالم.
الصورة التي قدمها خبر الأهرام عن الرجل أنه قيادي في جماعة إرهابية وله علاقته الوطيدة مع المنظمات المعادية في إسرائيل، أما الموسوعة الحرة فقد قدمته بحسبانه داعية نذر نفسه للدفاع عن الإسلام والمسلمين وله انتشاره واحترامه في الغرب.
(2)
القصة تستدعي ملاحظتين. الأولى أن مصدر الخبر (موقع دبليو. إن. دي) يعد ضمن المنابر المعبرة عن المحافظين في الولايات المتحدة، وهو موالٍ للإسرائيليين ومعاد للعرب والمسلمين، كما أن السناتور المذكور -الذي أغضبه أن وزارة الأمن الداخلي الأميركية برأت ساحة الدكتور جمال بدوي ورفعت اسمه من قائمة الإرهابيين- لم يجد تهمة يرميه بها سوى أنه ينتمي لمنظمة "إرهابية" حسب التصنيف المصري، وله علاقات وطيدة مع المنظمات المعادية لإسرائيل.
الملاحظة الثانية دلالتها أسوأ وهي أن الأهرام غضت الطرف عن طبيعة الموقع وموقف السناتور جريسلي، مقابل أن يوظف الخبر في شيطنة الرجل إسهاما منه في تصفية الحسابات الداخلية.
هذا "المطب" ذاته وقعت فيه وسائل الإعلام المصرية حين نقلت في شهر مايو/أيار الماضي قصة "جيش مصر الحر" في ليبيا، وادعت أنه مدعوم من أوباما وتركيا وقطر، وهي القصة التي أطلقتها صحيفة إلكترونية تدعى "وورلد تريبيون".
وقد فضحت الدكتورة منار الشوربجي الصحيفة حين تتبعتها واكتشفت أنها يمينية ولها ارتباطاتها بصحف المافيا، وأنها تقوم بدور مشبوه في تعبيرها عن اليمين الأميركي المحافظ، الذي يعادي أوباما لمجرد أنه صاحب بشرة سوداء، ويتهمه بكراهية أميركا وبتجنيد المسلمين سرا في الخارجية الأميركية، ولا تتردد في وصفه بأنه إخواني وشيوعي واشتراكي في ذات الوقت (المصري اليوم 23/4/2014).
رغم أن المشهد بهذه الصورة يستدعي العديد من الأسئلة، فإنه يهمني منها في اللحظة الراهنة الشق الخاص بالجهد الذي يبذل لشيطنة الآخر والاستعداد للتعاون مع "الشيطان"، لتحقيق الهدف، حتى إذا كان ذلك الشيطان ضد العرب والمسلمين جميعا.
صحيح أن الدكتور جمال بدوي حسن الحظ لأنه يقيم منذ أكثر من ثلاثين عاما في كندا، حيث يحترم القانون وتصان كرامات الناس، ولو كان موجودا في مصر لكان مكانه سجن العقرب متهما في 15 قضية كل واحدة منها كفيلة بإعدامه.
السؤال الذي تثيره القصة هو: كم واحدا يا ترى لم تكن له علاقة لا بالعنف أو الإرهاب، ولقي المصير البائس الذي أفلت منه الداعية الكبير؟ طبقا لتقرير موقع "ويكي ثورة" المستقل فإن عدد المعتقلين في مصر يتجاوز 22 ألف شخص، والمصادر الإخوانية تتحدث عن نحو أربعة آلاف منهم وجهت إليهم تهم يفترض أن يحاكموا بسببها أمام محاكم الجنايات (أغلبهم من الصعيد)، وهناك حوالى عشرة آلاف سيقدمون إلى محاكم الجنح وأغلب هؤلاء من المتهمين بمخالفة قانون التظاهر.
وإذا صحت تلك التقديرات فمعناها أن أخبار المحاكمات ستظل جزءا من المشهد السياسي إلى نهاية العام وحتى العام المقبل، ومعناها أيضا أن هناك ثمانية آلاف شخص ليس معروفا مصيرهم، وهؤلاء يجدد حبسهم حينا بعد حين طبقا لمقتضيات الأجواء السياسية.
إزاء الجهد الذي يبذل لشيطنة الآخر وقمعه، فإننا لا نكاد نجد جهدا يذكر للملمة شتات الجماعة الوطنية والتفاعل معها بأية صورة، بل إن ذلك الجهد لم يكن له أثر على صعيد الفصل بين قوى المعارضة الوطنية وبين جماعات العنف
ومادام الملف مفتوحا فإن حملة الشيطنة سوف تستمر، باعتبار أنها تمثل الغطاء الذي يبرر استمرار المحاكمات وتغليظ الأحكام، وتجديد الحبس الذي لا تكف المنظمات الحقوقية المستقلة عن نشر التقارير والشهادات التي تتحدث عن معاناة وتعاسة الخاضعين له.
(3)
حملة الشيطنة أوسع نطاقا مما نظن. ذلك أننا إذا وضعنا هذه الخلفية في الاعتبار، وضممنا إليها الحكم الذي صدر بحظر نشاط حركة 6 أبريل التي تضم شرائح غير قليلة من شباب الثورة، ثم أضفنا إلى ذلك التوتر الحاصل مع آخرين من شباب الثورة الذي تعددت أسبابه. إذ تراوحت بين الغمز والطعن في الانتفاضة الشعبية العارمة التي أسقطت نظام مبارك في عام 2011 أو جراء محاولة طمس معالم ذلك الحدث الكبير لصالح ما سمي بثورة 30 يونيو، أو نتيجة لصدور قانون منع التظاهر الذي أريد به إسكات صوت المخالفين وقمعهم.
وقد رفع من وتيرة الغضب أمران آخران، أولهما عودة رموز نظام مبارك إلى الظهور في المجال العام، الأمر الذي تزامن مع تشديد قبضة وقمع الأجهزة الأمنية في إعلان عن عودة سياسة ذلك النظام.
الأمر الثاني هو تلك الحملة الإعلامية التي استهدفت تشويه صورة شباب الثورة ورموزها، وذلك من خلال التسريبات التي قامت بها الأجهزة الأمنية، وزودت بها بعض منابر الثورة المضادة التي قامت بتعميمها في مسعى استهدف فضح أولئك الرموز واغتيالهم معنويا.
هذه الصورة المتتابعة ترسم مشهد الشيطنة متسما بالتوتر ومسكونا بالخوف والغضب في الوقت ذاته. ذلك أن الصدام الحاصل لم يعد بين السلطة والإخوان والجماعات المتحالفة معها، ولكن دائرته اتسعت بحيث شملت مجموعات شباب الثورة والأصوات التي ارتفعت معلنة التضامن مع المحبوسين والمظلومين منهم. وانضمت إلى هؤلاء المنظمات الحقوقية المستقلة التي أصدرت أكثر من بيان استهجن ما يجري وأدان الاعتقال العشوائي والتعذيب وتلفيق القضايا للأبرياء، وقد وقع هذه البيانات 16 منظمة ومركزا حقوقيا.
لابد أن يثير انتباهنا أنه إزاء ذلك الجهد الذي يبذل لشيطنة الآخر وقمعه، فإننا لا نكاد نجد جهدا يذكر للملمة شتات الجماعة الوطنية والتفاعل معها بأية صورة، بل إن ذلك الجهد لم يكن له أثر على صعيد الفصل بين قوى المعارضة الوطنية وبين جماعات العنف، من خلال فرزهم والتمييز بين العناصر المتطرفة والمعتدلة، وهو التمييز الضروري للاحتشاد الوطني اللازم للانطلاق نحو المستقبل بثقة واطمئنان.
(4)
صار ممجوجا وغير مقنع الادعاء بأن الشعب قرر كذا قبولا أو رفضا، لأن ذلك يعني في حقيقة الأمر اختزال الشعب واستغفاله. لأن الذي قرر في حقيقة الأمر هو المؤسسة الأمنية التي حولت المنابر الإعلامية إلى منصات أطلقت منها ما شاءت من قذائف سممت الأجواء ودغدغت المشاعر وقلبت الأمور رأسا على عقب. وبلغ الاستغفال حدا سوغ الإقصاء وشجع الإبادة السياسية، ورحب بمصادرة الرأي وتكميم الأفواه.
وبعد تبرئة رجال الشرطة والمؤسسة الأمنية من قتل المتظاهرين، فإن القمع تضاعف وانضاف الإرهاب الفكري إلى الإرهاب الأهلي والمجتمعي، وصار صاحب الرأي الآخر إخوانيا ومتآمرا وعميلا وطابورا خامسا ممولا في الخارج. واستغلت الأخطاء التي وقعت في السابق وأحداث العنف والجرائم التي ارتكبتها أطراف عدة في ترويع المجتمع، الأمر الذي أدى إلى إغلاق باب السياسة واعتبار الإرهاب أولوية قصوى تتقدم كل ما عداها.
في غمرة الانشغال بالاقتصاد تظل يد المؤسسة الأمنية مطلقة في مصير العباد، ويظل باب السياسة مغلقا إلا على الموالين والمصفقين، علما بأن كفاءة السياسة تقاس بمقدار انفتاحها على المعارضين
وهذا الأمر أعادنا إلى وضع قريب من أحداث الثورة الفرنسية، التي تولت خلالها لجنة الأمن العام إدارة السياسة الداخلية للبلاد، وأصدرت بيانا في شهر سبتمبر/أيلول عام 1793 أعلنت فيه أن "الوقت قد حان أن تصبح العدالة فوق كل الرؤوس، كما حان الوقت لإرهاب وترويع كل المتآمرين، ولذا كان طبيعيا أن يتم التعامل مع الإرهاب بحسبانه أولوية قصوى" ثم ختم البيان بالعبارة التالية: دعونا نَكُنْ في ثورة دائمة، لأن الثورة المضادة تحاك في كل مكان من قبل أعدائنا. يجب أن يحوم نصل القانون فوق رؤوس كل المذنبين".. وكان ذلك الإعلان بمثابة إطلاق لحملة المحاكمات التي تمسحت في القانون والعدالة، وقادت كثيرين إلى المشانق والسجون.
(5)
إن كل الاهتمام منصب على الاقتصاد في الوقت الراهن. وهو أمر مهم لا ريب رغم أن معالم الرؤية الاقتصادية غير واضحة، والواضح منها محل جدل ونقد من جانب المختصين.
وفي غمرة الانشغال بالاقتصاد تظل يد المؤسسة الأمنية مطلقة في مصير العباد، ويظل باب السياسة مغلقا إلا على الموالين والمصفقين. علما بأن كفاءة السياسة تقاس بمقدار انفتاحها على المعارضين واحتوائهم، في حين يظل التعويل على الموالين دون غيرهم هو الخطوة الأولى على طريق الاستبداد.
حين سئل المشير السيسي عن موقفه من رجال النظام السابق ومن رجال الأعمال الذين تضغط شبكة مصالحهم على السياسة، كان رده أنه يريد أن يستخلص من كل طرف أفضل ما فيه ولا يريد أن ينفر أحدا أو يقصيه، وهو كلام عاقل ورصين، ولا يعيبه سوى شيء واحد هو أنه مقصور على الاقتصاد دون السياسة.
وهو منطق يستدعي معادلة صعبة للغاية يراد لها أن تمزج بين الازدهار الاقتصادي والانغلاق السياسي، معتبرا أن الخير كامن في أهل الاقتصاد بينما الشرور كلها في المخالفين من أهل السياسة. وطرح المعادلة بهذه الصيغة يعني أن الثورة لايزال أمامها وقت طويل وأشواط أخرى لكي تحقق أهدافها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق