متى يتوقف نزيف الدم في مصر؟
بعيدا عما يعتقده كاتب هذه السطور فإن الخبرة التاريخية والمنطقية يمكن أن تجيب بأن نزيف الدم في مصر يمكن أن يتوقف إذا أراد ذلك الحاكم المتغلب، شرعيا كان أم غير شرعي. وتقتضي هذه الإرادة أن يتنازل من يظن نفسه أو من اقتنع بأنه هو المتغلب عن كثير من دعاواه وحقده ومكتسباته التي حققها بالسلاح، وأن يتراجع خطوتين وثلاثا وأربعا وليس خطوة واحدة. هذا هو ما تعلمناه من التاريخ، بل إن المثل الأنجح في الزعامة العربية القائمة على التغلب في النصف الأول من القرن العشرين كان حريصا بحكمته على أن يصاهر محاربيه السابقين وأعدائه الذين انتهت عداوتهم للتو واللحظة، ولولا هذا ما استقرت هذه الدولة الكبيرة. نقفز من هذه البديهية إلى الواقع المصري المؤسف فنواجه بمجموعة من الحماقات التي يتصور أصحابها أنها أمور جوهرية، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإننا نجد هذه المفارقات:
ثانيا: أقنع هؤلاء القادة أنفسهم بأن الانقلاب يتمثل إساسا في إزاحة الرئيس المنتخب شرعيا، وما عدا ذلك فهو رتوش لا قيمة لها بعد إخراج الرجل من قصر الرئاسة. ثالثا: عبر هؤلاء القادة عن عقيدتهم الثابتة في أن جلوسهم مع قادة الإخوان أو حزب الحرية والعدالة سوف يمثل دلالة قاطعة علي فشل الانقلاب وعلى أنهم هزموا، وهم لا يقبلون أن تنطبع هذه الصورة عنهم بأي طريقة. رابعا: عبر قائد الانقلاب نفسه عن اعتقاده اليقيني بأن ما قام به من تصرف هو استرداد لما كان وظل في حوزة الجيش منذ ستين عاما ثم انتزع انتزاعا، والمعنى واضح وضوح الشمس مهما اجتهد المخادعون لأنفسهم في صك تعبيرات من قبيل: الدور الوطني للجيش، والأمن القومي لمصر، ومركزية الدولة، وخصوصية الحالة المصرية، وإستراتيجية الموقع الجيو بوليتكي، وحتمية اللجوء إلى الاستثناء.. وهي تعبيرات لوحتها شمس الحقيقة وأبهتها مع كثرة الاستهلاك. خامسا: حدثت المفاجأة المروعة التي أظهرت للجيش رفض جموع كبيرة من الشعب للانقلاب، وتعبيرهم عن هذا الرفض بقوة وشجاعة وإيجابية وتضحية ثم صمود الشعب في مواجهة القوة. ومع قوة هذه الرسالة التي لم تكن في الحسبان فإن قائد الانقلاب وجد نفسه مدفوعا من شركائه الغربيين إلى استخدام القوة الرادعة في حدود، لكنه لأسباب كثيرة أفرط في هذا الاستخدام مكانا وزمانا وكما وكيفا وتكرارا ثم أفرط فيها فشلا كذلك. سادسا: سرعان ما تحولت القضية في ذهنية قائد الانقلاب إلى خصومة ثأرية بحيث أصبح من الصعب على تصوره أن يفكر في التراجع عن العنف مهما بلغ ما يحصل عليه من ضمانات محلية أو دولية. سابعا: بالموازاة مع ذلك لم يعد من فرصة ولا مجال أمام الأقلام والأبواق المساندة للانقلاب والناطقة باسمه إلا أن تمضي في التحميس والتهييج والإثارة علي نحو لا رجعة فيه، وذلك على الرغم من يقينها بأن ما تقوله مخالف للحقيقة، لكن هذه الأقلام والأبواق اضطرت إلى إقناع نفسها بالمراهنة لكسب الوقت بدلا من مواجهة مصير مؤلم ربما يصل إلى الإعدام. ثامنا : مع تطور الأمور في اتجاه الإطار الهلامي الذي وضعه الانقلاب لمشروعيته ولمشروعه أمام العالم (الغربي) في محاربة الإسلام أو الإخوان أو الإرهاب، فقد أصبح توقف الدماء دليلا على أن الانقلاب قد فقد مبرر وجوده واستحقاقه للدعم اللوجيستي والمعنوي والمادي وأنه لم يسفر عن مكسب منظور.
تاسعا: إذا مضت الأمور في هذا الاتجاه الذي هي ماضية فيه بالفعل فإن الدماء ستزداد في كل محور لأنها سوف تمثل ما يمكن تسميته بإنجاز المقاول الذي يحصل على أجره من خلال إراقتها، وستتحور في اتجاه حرب محتملة على المسيحيين المصريين (أو الأحباش) الذين ساندوا الانقلاب وذلك في محاولة ممجوجة لإرباك المشهد واستعادة ثقة المسلمين. ومن العجيب أن التقارير السرية للمخابرات الغربية قالت صراحة إن حظ مرسي من التسامح الديني يفوق حظ السيسي بمراحل وإن السيسي نفسه يتمتع بمخزون هائل من التعصب الديني الذي لا يعاني منه مرسي بأي قدر، وقد جاءت سيرة حياة الرجلين لتثبت صواب هذه الملحوظة المهمة التي يجيد الغربيون الوصول إليها. عاشرا: مع مضي الوقت في الأسابيع الماضية وعودة المطالب الفئوية والإقليمية والنقابية إلى التصاعد والتطور والتحور فإن رغبة الانقلاب في إظهار استقرار الأمور ستدفع به إلى السبيل الوحيد الذي يجيده وهو سبيل الحلول الأمنية ذات التكلفة الباهظة في الأرواح. ومن ثم تبدأ حلقة مفرغة بحيث لا يتوقف نزيف الدم، وكلما سأل سائل غربي قيل له إنهم الإسلاميون!! |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق