سوريا.. أميركا.. والمسيحية الصهيونية
أحمد بن راشد بن سعيّد
خذلان الثورة السورية، تركُ غزة لقمة سائغة لنتنياهو والسيسي، إطلاق أيدي البوذيين المتطرفين ليبيدوا مسلمي ميانمار، تسليح ميليشيات أنتاي بالاكا في إفريقيا الوسطى لتمارس القتل الجماعي ضد مسلمي تلك الجمهورية، غزو مالي في الغرب الإفريقي وارتكاب أبشع المجازر ضد المسلمين الطوارق، الاحتفاء بالإسلاموفوبيا وتأليه "حرية التعبير" إذا كانت ستنال من الإسلام، و "تجريمها" إذا كانت ستلمّح ولو من بعيد إلى ما يُسميه الغرب: "العداء للسامية"، كل ذلك ليس من أوهام "المؤامرة"، بل حقائق تنضح بالنفاق والتوحش وسيادة العقلية الإمبراطورية.
الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي منظمات هزيلة لم تفعل شيئاً للشعب السوري سوى السير في ركاب الثور الأميركي الهائج.
خذلان سوريا هو ثمرة طبيعية لخذلان المايسترو الأميركي الذي يعزف أنغامه في منطقتنا وفق السلّم الموسيقي الصهيوني.
أميركا ترى الشرق بعيون إسرائيلية، فإسرائيل حجر الرحى وبيت القصيد، وأهواؤها وما يُسمى "أمنها" و "بقاؤها" و "تفوقها" يطغى على كل شيء، ولا شيء يوحي أن هذا مجرد رضوخ لجماعات الضغط اليهودية، أو ضعف أمام نفوذها.
إنها مصلحة أميركية سرمدية، كما يرى صانعو القرار في واشنطن، تستلهم زخمها وديمومتها من الأصولية البروتستانتية التي تؤمن بضرورة عودة "الشعب المختار" إلى "الأرض الموعودة"، وإقامة كيان يهودي على كل فلسطين، وهدم المسجد الأقصى، وبناء معبد يهودي فوق أنقاضه؛ تمهيداً للعودة الثانية للمسيح، بحسب أساطير هذه العقيدة التي تُعرف أيضاً باسم المسيحية الصهيونية (من أبرز دعاتها بات رَوبِرسِن الذي يخصص قناته التلفزيونية CBN للزعم بأن دعم إسرائيل كفيل بتعجيل عودة المسيح وحلول البركة في الأرض، والواعظ الإنجيلي التلفزيوني جيري فيرويل (توفي عام 2007) الذي كرّس حياته للترويج للأساطير الصهونية والتبشير بمعركة "أرماغدِن" في فلسطين والتي ستفصل في آخر الزمان بين الخير والشر قائلاً ذات مرة: "أنت وأنا نعرف أنه لن يكون هناك سلام حقيقي في الشرق الأوسط إلى أن يأتي يوم يجلس فيه الرب المسيح على عرش داود في القدس").
يخطىء من يظن أن الرؤساء الأميركيين علمانيون أو لا دينيون. الرؤساء الذين عرفهم جيلنا على الأقل أصوليون مسيحيون وآخرهم باراك أوباما.
الصحافي والروائي الأميركي، أندريه فتشيك ، انتقد "صليبيي العصر الحديث، قادة الإمبراطورية " الذين "لا يفكرون حتى مرتين فيمن يقاتلون، ويستطيعون قيادة صراعات عدة في آن؛ لأن حروب اليوم آمنة تماماً لهم، حروب تشبه ألعاب الفيديو. فقط أولئك الذين "يُستهدفون" يتعرضون لخطر كبير".
هؤلاء الأصوليون حولوا أنفسهم إلى "أرباب"، فضلاً عن اعتقادهم بأنهم "جنس مختار، وثقافة مختارة، ودين مختار"، وأصحاب حق "منحوه لأنفسهم في حكم ومعاقبة الآخرين، أولئك الذين يريدون أن يؤمنوا بشيء ما آخر، وأن يعيشوا حيواتهم كما يختارون".
نحن الآن "نسمع شعاراتهم الدعائية الجوفاء، وأكاذيب تمجيدهم لذواتهم" فكأنما أصبحوا مثل "أولئك الوعّاظ والقساوسة في العصور البائدة: ساديين غير أنهم مرعوبون على الدوام، متوحشين ومرتابين".
ثم يخاطب فتشيك أوباما على هذا النحو: "مؤسف أننا لن نلتقي قط؛ أنني لن أحظى بفرصة أريك فيها ما تصنع "قنابلك الذكية" قرب الموصل في العراق، أو أريك الجرائم التي ترتكبها "داعش" الممولة والمدربة من النيتو في طول الشرق الأوسط وعرضه". ويوجه فتشيك هذه الكلمات إلى أوباما: "لكنك، واعذرني لقول هذا، أصولي، غربي مسيحي يؤمن بالتفوق العنصري، كما كان كل أسلافك. والأصولي له جلد سميك، ولذا فهو غير قادر على الإحساس بالرحمة. الأصولي يفرض حتماً إرادته وقناعاته على الآخرين. ربما يرتاب في أمر، ربما حتى "يعرف"، لكنه عاجز أن يحوّل معرفته إلى احترام وتأييد للأشخاص الآخرين وللآراء الأخرى". ويصل فتشيك إلى هذه الخاتمة: "هذا هو، في الواقع، ما صنع الأصوليون الغربيون المسيحيون بالإسلام- اختطفوه، ثم أعادوا تشكيله ليصبح انعكاساً لصورتهم. السبب هو الرغبة في عدو ما ذي شأن يستحق القتال، والحصول على تبرير ما لألعاب الحروب هذه...الأصولي يمكن أن يصيح ماكينة للقتل إن لم يُردع"
(موقع كاونتر بنش، 25-23 كانون الثاني/يناير 2015).
لنأخذ المشهد السوري مثالاً. من المألوف أن تفتح قناة العربية أو تتصفح جريدة الشرق الأوسط أو غيرهما من وسائط الدعاية لتقع عيناك على ما يلي: "واشنطن تدرس دعم الثوار السوريين المعتدلين"، أو العنوان نفسه بصيغة مختلفة والذي أجزم أنه تكرر مئات المرات في هذه الوسائط في السنوات الثلاث الأخيرة. الدعاية حقيرة لأنها تحتقر العقل، وتعوّل على الذاكرة "الصغيرة" للجماهير التي تدفعها إلى النسيان "الكبير" بحسب هتلر.
لنبدأ بما كتبه الصحافي ألأميركي آدم إنتس، في صحيفة الوول ستريت جيرنل، عن اللعبة الأميركية في سوريا (26 كانون الثاني/يناير 2015).
في أواسط عام 2013 بدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA برنامجاً لتدريب وتسليح الثوار "المعتدلين"، لكن الوقت لم يطل بقادة هؤلاء الثوار حتى "شرعوا في حك رؤوسهم". لماذا؟ لأن "مسؤولي الوكالة قاموا سراً بتحليل مكالمات الهاتف المحمول ورسائل الإيميل الخاصة بالقادة ليتأكدوا أنهم مسؤولون حقاً عن الرجال الذين يزعمون أنهم قادة لهم".
أجرت CIA مقابلات مع هؤلاء القادة، بعضها استغرق أياماً عدة، والذين نجحوا منهم في تحقيق "اختراق كاسبين لقب "قادة ثقات" وقّعوا اتفاقات مكتوبة، سلّموا معلومات عن سجل رواتب مقاتليهم، وفصّلوا إستراتيجيتهم في ميدان المعركة". وأخيراً حصل القادة على "مساعدات".
يقول إنتس إن "شحنات الأسلحة كانت من الصغر بحيث اضطر القادة إلى ترشيد الذخيرة".
أحد "القادة الثقات" حصل على 16 رصاصة في الشهر لكل مقاتل. أحدهم طلب أكثر من ألف بندقية، فأعطته الوكالة 36.
غنم الثوار عشرات الدبابات لكنهم لم يحصلوا على مال للوقود، ولا على قذائف، فظلت الدبابات رابضة في مكانها.
ويضيف إنتس أن بعض قادة الثوار "طلبوا ذخيرة الربيع الماضي لتوسيع نطاق هجوم ضد نظام الأسد بدا أنه سائر في مصلحتهم، فرُفض طلبهم من دون تفسير".
وهكذا عندما تسنح فرص ويطلب القادة استغلالها لتوفير الذخيرة، تتلكأ واشنطن، وأحياناً لا تتخذ القرر إلا بعد أسبوعين، ويقول أحد القادة إن الطلب قد يُوافق عليه ولكن بعد أن تصبح العملية غير ممكنة.
أعطت CIA قادة الثوار 5 إلى20 في المئة من الأسلحة التي طلبوها، ودفعت رواتب للمقاتلين تترواح بين 100 إلى 150 دولاراً، وهو نصف ما تدفعه داعش لمقاتليها.
"القادة الثقات" ملزمون بتصوير استخدامهم للصواريخ المضادة للدبابات، وتسليم منصات إطلاق الصورايخ المستخدمة في موقع على الحدود مع تركيا لكي يستحقوا "إعادة الإمداد".
حتى حركة "حزم" التي تروّج لها واشنطن ودعايتها في الخليج بصفتها "معتدلة" تقاتل الأسد والتنظيمات "المتطرفة" معاً، لم تظفر بدعم حقيقي.
روبرت فورد، سفير واشنطن السابق في دمشق، سأل قائد الحركة خلال اجتماع في واشنطن: لماذا انضمت حركتكم إلى البرنامج الأميركي؟ أجاب: "لقد ظننّا أن السير مع الأميركيين سير مع البنادق الكبيرة، لكنه كان رهاناً خاسراً".
خذلان أميركا للسوريين، بحسب ديفيد بروكس في النيويورك تايمز، يعني حلفاً بحكم الواقع مع السفاح الأسد، لكنه "خذلان صغير مقارنة بخذلان القيم" الأميركية
(30 كانون الثاني/يناير 2015).
لكن هذه القيم لا تعني في منطقتنا على الأقل سوى إبقاء شعوبها تحت التحكم، وردع الديموقراطية أو إجهاضها؛ خدمة لإسرائيل.
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق