الاستثمار في الإرهاب
محمد الجوادي
أديب وكاتب ومؤرخ وأستاذ طب،
وله إنتاج فكري خصب في مجالات التربية والآداب والفكر السياسي.
بعد مضي 19 شهرا على وقوع الانقلاب العسكري، لا تزال الجماهير المعارضة للانقلاب تمارس احتجاجاتها الصريحة في الشارع السياسي على خلاف ما توقع صناع الانقلاب، وما تنبأ به داعموهم ومستشاروهم.
وقد كان التصور المرجح في أكثر من مركز من مراكز القرار في الولايات المتحدة الأميركية أن يتم احتواء معارضي الانقلاب وترضيتهم وضمان عدم ثورتهم بسرعة، حتى إن القائمين على الانقلاب أنفسهم لم يشغلوا أنفسهم بأن يضعوا خطة حقيقية لاحتواء القوى المعارضة لهم، وحوارها، واحترامها، وإعطائها أي مساحة في الشارع السياسي، مكتفين بترديد بعض الساسة المخضرمين من أنصار الانقلاب لأكاذيب من قبيل أن أنصار الشرعية هم الذين بدؤوا العنف، أو من قبيل أنهم هم الذين قتلوا أنفسهم لإثبات المظلومية.
وفي الحقيقة، إن قادة الانقلاب من العسكريين -الذين كانوا ولا يزالون حريصين على ألا يظهروا للمراقبين إلا وهم يتحركون من وراء سُتُر كثيفة- لم يبدوا بأي صورة جادة أي استعداد لمناقشة هذه الفكرة أساسا، ومن ثم فإنهم لم يمانعوا في إعلان سريع لنية العداء لحزب الأغلبية دون أي مبرر مقبول.
وقد كان التصور المرجح في أكثر من مركز من مراكز القرار في الولايات المتحدة الأميركية أن يتم احتواء معارضي الانقلاب وترضيتهم وضمان عدم ثورتهم بسرعة، حتى إن القائمين على الانقلاب أنفسهم لم يشغلوا أنفسهم بأن يضعوا خطة حقيقية لاحتواء القوى المعارضة لهم، وحوارها، واحترامها، وإعطائها أي مساحة في الشارع السياسي، مكتفين بترديد بعض الساسة المخضرمين من أنصار الانقلاب لأكاذيب من قبيل أن أنصار الشرعية هم الذين بدؤوا العنف، أو من قبيل أنهم هم الذين قتلوا أنفسهم لإثبات المظلومية.
وفي الحقيقة، إن قادة الانقلاب من العسكريين -الذين كانوا ولا يزالون حريصين على ألا يظهروا للمراقبين إلا وهم يتحركون من وراء سُتُر كثيفة- لم يبدوا بأي صورة جادة أي استعداد لمناقشة هذه الفكرة أساسا، ومن ثم فإنهم لم يمانعوا في إعلان سريع لنية العداء لحزب الأغلبية دون أي مبرر مقبول.
"العسكر استثمر في ميدان الكلمة السحرية التي تضمن سرعة توريط الغرب في تأييدهم، وهو ميدان محاربة الإسلام الصاعد سياسيا من خلال تطويع الدعوى التي ترفع شعارا مراوغا هو محاربة الإرهاب، رغم أن الانقلابيين والغربيين كانوا على يقين تام من أن الدعوي كاذبة"
وفي هذا الإطار الغريب والشاذ في أفقه السياسي، فقد أشار عليهم مستشارو السوء -ممن كانوا يبحثون عن أي موضع في الصورة المتقدمة- أن يلجؤوا وبسرعة ودون تمهيد -ولو كان صناعيا- إلى استثمار مكثف في ميدان الكلمة السحرية التي تضمن سرعة توريط الغرب في تأييدهم، وهو ميدان محاربة الإسلام الصاعد سياسيا من خلال تطويع الدعوى التي ترفع شعارا مراوغا هو محاربة الإرهاب، وذلك على الرغم من أن الانقلابيين كانوا على يقين تام من أن الدعوى كاذبة، وعلى الرغم من أن الغربيين كانوا يعرفون ذلك.
بيد أن الأمور مضت وكأنها تتبلور على المسرح المصنوع بفضل تدفقات سريعة ومتلاحقة من التمويل الخليجي السخي والعلاقات العامة النشطة إلى آفاق غير مسبوقة على الإطلاق في الصراعات الدولية والمحلية، وهو ما عبرت عنه تورطات متكررة لشخصيات تحتل مناصب ذات مكانة مرموقة من طبقة مسؤولة الاتحاد الأوروبي الشهيرة.
وهي تورطات قادت إلى سلوكيات انتهازية فاقت التوقع، حتى وصل الأمر في وجدان بعض المصريين والصحفيين الأجانب ممن شهدوا اعتصام رابعة -من واقع ما رأوه بأعينهم- إلى الاقتناع التام بأن زيارات بعض الوفود الغربية المتكررة والمكثفة والمطولة لموقع الاعتصام السلمي لم تستهدف إلا الاطمئنان التام على خلو خيام الاعتصام وميدانه من أية أسلحة أو أدوات يمكن استخدامها في أية مقاومة مشروعة -مهما كانت محدودة- لإجراءات الفض الإجرامي والوحشي للاعتصام.
ولهذا بات المصريون جميعا -بمن فيهم معظم الانقلابيين- يعتقدون في أنه -أي الفض- قد حدث بتواطؤ وتشجيع غربي أصبح الآن مفهوم الدوافع والطابع، وإن كان قد بدأ يترجح حين تغاضى الغرب -وحتى الآن- عن إبداء أي قدر من الحد الأدنى من المشاعر الإنسانية تجاه تلك الجريمة التي لا تدنو منها جريمة أخرى في استحقاقها وصف "جريمة العصر".
ومع هذا، فإن الأثر القمعي -أو الردعي- المتوقع لهذه الجريمة المؤثرة لم يتحقق ولو بنسبة معقولة، ولا تزال المعارضة الحية والحيوية للانقلاب تتجلى في صور إنسانية نبيلة تعلي من قيمة المبدأ، وفي صور سياسية ذكية تعلي من قيمة الانتماء. وفي مقابل هذا اليقين المبدئي والعقيدي، فقد حصر الانقلاب نفسه في مربع الحديث المختلق والمضطر عن الإرهاب ومحاربته، وقد اضطرته الظروف في بعض المراحل الفاصلة إلى أن يصنع الإرهاب ليزعم أنه يحاربه، وإلى أن يفجّر القنابل ليشير إلى أنه مستهدف بها، وهكذا تحول الأداء الانقلابي من فعل سياسي -ربما يفتقد المشروعية، وربما يعمل على اكتسابها- إلى فعل صناعي يستند في وجوده واستمراره إلى فكرة وصناعة الاستثمار في الإرهاب ومن ثم الاستمرار فيه.
وفي مقابل هذا الموقف الواضح، كان رد الفعل أكثر وضوحا وذكاء ومنطقية لأنه اعتمد فكرة الصمود، ولجأ إليها بدلا من فكرة رد الفعل، والتزم بالصمود بديلا عن الفعل المضاد للإرهاب أو الفعل الإرهابي المضاد.
وهنا أذكر أنه عقب وقوع الانقلاب مباشرة واندلاع بدايات الاحتجاجات الجماهيرية، بدا بوضوح للمنصفين من رجال الإعلام الغربي ذوي القدرة على الإنصاف أن هناك معركة ستبدأ بين الانقلابيين وجماهير الشعب.
ولم يكن من الصعب على هؤلاء الإعلاميين بحكم خبرتهم في الحراكات الشعبية أن يدركوا أن الجماهير الغفيرة التي خرجت لتوها ضد الانقلاب تعبر عن مبررات أخرى رافضة للانقلاب وحكم العسكر والبعد عن الشرعية وإسقاط رئيس منتخب والدخول مرة ثانية في نفق الشمولية.
وقد صارحني معظم هؤلاء بإشفاقهم على الجماهير من المواجهة الشرسة التي فرضت عليهم من ثلاثية: التواطؤ الأميركي شبه المعلن، والتأييد الإقليمي أو الخليجي الممول الذي سارع إلى إعلان نواياه، والآلة الحربية المصرية. وقد كانت هذه الثلاثية تمثل عناصر قوة لا يستهان بها في مثل هذه الأوضاع القائمة أساسا على موروثات مستحدثة على القيم الإنسانية، وهي مستحدثات تبدو فاعلة لكنها عقيمة، وقد تمثلت -على سبيل المثال- في فكرة وضع اليد، وتطبيع المشهد، وتقوية المنكر، وتصفية الحق، وهي أفكار مشوهة لكنها صادفت نجاحا على مدى أكثر من ستين عاما وحتى الآن، فلم تكن القوة تزاح إلا بالقوة.
ومن العجيب أنني لخصت الموقف في مفارقة تقول إن المسرح السياسي قد كشف عن أن هناك صراعا كان مكبوتا قد تفجر في الوقت الذي كان العسكريون يظنون أن صراعا محدثا أو مستجدا منذ ٢٠١١ فقط قد انتهى لصالحهم!
بيد أن الأمور مضت وكأنها تتبلور على المسرح المصنوع بفضل تدفقات سريعة ومتلاحقة من التمويل الخليجي السخي والعلاقات العامة النشطة إلى آفاق غير مسبوقة على الإطلاق في الصراعات الدولية والمحلية، وهو ما عبرت عنه تورطات متكررة لشخصيات تحتل مناصب ذات مكانة مرموقة من طبقة مسؤولة الاتحاد الأوروبي الشهيرة.
وهي تورطات قادت إلى سلوكيات انتهازية فاقت التوقع، حتى وصل الأمر في وجدان بعض المصريين والصحفيين الأجانب ممن شهدوا اعتصام رابعة -من واقع ما رأوه بأعينهم- إلى الاقتناع التام بأن زيارات بعض الوفود الغربية المتكررة والمكثفة والمطولة لموقع الاعتصام السلمي لم تستهدف إلا الاطمئنان التام على خلو خيام الاعتصام وميدانه من أية أسلحة أو أدوات يمكن استخدامها في أية مقاومة مشروعة -مهما كانت محدودة- لإجراءات الفض الإجرامي والوحشي للاعتصام.
ولهذا بات المصريون جميعا -بمن فيهم معظم الانقلابيين- يعتقدون في أنه -أي الفض- قد حدث بتواطؤ وتشجيع غربي أصبح الآن مفهوم الدوافع والطابع، وإن كان قد بدأ يترجح حين تغاضى الغرب -وحتى الآن- عن إبداء أي قدر من الحد الأدنى من المشاعر الإنسانية تجاه تلك الجريمة التي لا تدنو منها جريمة أخرى في استحقاقها وصف "جريمة العصر".
ومع هذا، فإن الأثر القمعي -أو الردعي- المتوقع لهذه الجريمة المؤثرة لم يتحقق ولو بنسبة معقولة، ولا تزال المعارضة الحية والحيوية للانقلاب تتجلى في صور إنسانية نبيلة تعلي من قيمة المبدأ، وفي صور سياسية ذكية تعلي من قيمة الانتماء. وفي مقابل هذا اليقين المبدئي والعقيدي، فقد حصر الانقلاب نفسه في مربع الحديث المختلق والمضطر عن الإرهاب ومحاربته، وقد اضطرته الظروف في بعض المراحل الفاصلة إلى أن يصنع الإرهاب ليزعم أنه يحاربه، وإلى أن يفجّر القنابل ليشير إلى أنه مستهدف بها، وهكذا تحول الأداء الانقلابي من فعل سياسي -ربما يفتقد المشروعية، وربما يعمل على اكتسابها- إلى فعل صناعي يستند في وجوده واستمراره إلى فكرة وصناعة الاستثمار في الإرهاب ومن ثم الاستمرار فيه.
وفي مقابل هذا الموقف الواضح، كان رد الفعل أكثر وضوحا وذكاء ومنطقية لأنه اعتمد فكرة الصمود، ولجأ إليها بدلا من فكرة رد الفعل، والتزم بالصمود بديلا عن الفعل المضاد للإرهاب أو الفعل الإرهابي المضاد.
وهنا أذكر أنه عقب وقوع الانقلاب مباشرة واندلاع بدايات الاحتجاجات الجماهيرية، بدا بوضوح للمنصفين من رجال الإعلام الغربي ذوي القدرة على الإنصاف أن هناك معركة ستبدأ بين الانقلابيين وجماهير الشعب.
ولم يكن من الصعب على هؤلاء الإعلاميين بحكم خبرتهم في الحراكات الشعبية أن يدركوا أن الجماهير الغفيرة التي خرجت لتوها ضد الانقلاب تعبر عن مبررات أخرى رافضة للانقلاب وحكم العسكر والبعد عن الشرعية وإسقاط رئيس منتخب والدخول مرة ثانية في نفق الشمولية.
وقد صارحني معظم هؤلاء بإشفاقهم على الجماهير من المواجهة الشرسة التي فرضت عليهم من ثلاثية: التواطؤ الأميركي شبه المعلن، والتأييد الإقليمي أو الخليجي الممول الذي سارع إلى إعلان نواياه، والآلة الحربية المصرية. وقد كانت هذه الثلاثية تمثل عناصر قوة لا يستهان بها في مثل هذه الأوضاع القائمة أساسا على موروثات مستحدثة على القيم الإنسانية، وهي مستحدثات تبدو فاعلة لكنها عقيمة، وقد تمثلت -على سبيل المثال- في فكرة وضع اليد، وتطبيع المشهد، وتقوية المنكر، وتصفية الحق، وهي أفكار مشوهة لكنها صادفت نجاحا على مدى أكثر من ستين عاما وحتى الآن، فلم تكن القوة تزاح إلا بالقوة.
ومن العجيب أنني لخصت الموقف في مفارقة تقول إن المسرح السياسي قد كشف عن أن هناك صراعا كان مكبوتا قد تفجر في الوقت الذي كان العسكريون يظنون أن صراعا محدثا أو مستجدا منذ ٢٠١١ فقط قد انتهى لصالحهم!
"بدلا من أن يختار الانقلابيون شعار محاربة الفوضى أو محاربة الفساد أو محاربة الفشل مما كان سهلا عليهم أن يلجؤوا إليه، فإنهم بحكم المنظور المتاح أمامهم عن علاقات وأهداف القطب الذي يرتبطون به وجدوا أنفسهم مضطرين والسعادة تغمرهم إلى استخدام شعار مكافحة الإرهاب"
ولست أبالغ إذا قلت إن بعض هؤلاء الانقلابيين كانوا يظنون أن النصر قد تحقق لهم بالاستيلاء على أرض قصر الاتحادية وإجلاء الرئيس المنتخب من هذه الأرض إلى مكان غير معروف، والاستيلاء على أرض مجلس الوزراء وإجلاء الوزراء منه، وعلى أرض مجلس الشورى وإجلاء أعضائه منه، إلخ. لكنهم فوجئوا بأن هناك معركة جديدة غير معركة الإجلاء والجلاء تبدأ في فرض وجودها، وأن عليهم أن يعترفوا بسرعة أنهم يحاربون، وأن عليهم أن يختاروا وصفا مؤثرا لعدوهم الذي خلقوه بسرعة وعن عمد، وأن يكون هذا الوصف مبررا لإقناع جنودهم الذين يفترض أنهم من أبناء هذا الشعب.
وبدلا من أن يختار الانقلابيون شعار محاربة الفوضى أو محاربة الفساد أو محاربة الفشل مما كان سهلا عليهم أن يلجؤوا إليه، فإنهم بحكم المنظور المتاح أمامهم عن علاقات وأهداف القطب الذي يرتبطون به ويأخذون دعمه وتوجهاته، وجدوا أنفسهم مضطرين والسعادة تغمرهم إلى استخدام شعار "مكافحة الإرهاب".
ومن المؤسف حقا أن بعض هؤلاء الانقلابيين لم يكونوا يعرفون حجم الصواب أو نسبته في حقيقة مرة ومريرة تعرفها كواليس السياسة والحياة الأكاديمية في المجتمعات الغربية، وهو أن مكافحة الإرهاب تعبير "كودي" (رمزي) عن مكافحة الإسلام.
وهكذا، فإن العسكريين المصريين ومعهم كثير من الانقلابيين الذين تعددت رؤاهم وأهدافهم قصيرة النظر، وقعوا دون إعلان ودون اعتراف في فخ تاريخي ومأزق فلسفي أو منطقي أو وجودي، وهو أنهم أصبحوا يعادون هوية شعبهم، بل هويتهم هم أنفسهم، وهو ما اتضح لهم لاحقا حين انزلقت قرارات الانقلاب بطريقة آلية إلى إغلاق المساجد والهجوم عليها ومنع الصلاة فيها، وتحديد وقت للخطب، ومنع الأئمة، والقبض على المتدينين، ثم إلى مراحل أخرى من احتقار الدين وازدراء المتدينين واللجوء إلى آليات من قبيل الحملات الإعلامية، أو التحريضية بلفظ أدق، ثم إلى تهيئة غير مقصودة لأجواء التحرش الجنسي، ثم إلى اغتصاب المعتقلات، ثم وهذا هو الأنكي اللجوء الشاذ -وإن كان على نطاق ضيق- إلى اعتقال السيدات والإناث لاغتصابهن جهارا نهارا، وهو ما لم يحدث في أفظع الحروب بشاعة.
وفي هذا المقام، أذكر أن مذيعا لامعا فاجأني على الهواء بسؤال مباشر عن توقعاتي للمنتصر في هذه المعركة التي بدأت على وجه غير محسوب جيدا، فأجبته بتلقائية شديدة بمقولة الزعيم البريطاني تشرشل لضيفه حين قال في بداية الحرب العالمية الثانية إن المعركة ستطول وسيفوز فيها من يستطيع أن يفرغ حمام السباحة بفنجان من فناجين القهوة الصغيرة التي ظلت تستخدم قبل أن تنحو البشرية إلى تكبير حجم فنجان القهوة ثم إلى اختراع ما نسميه الآن "المج" (الكوب الكبير).
وكان السؤال التالي مباشرة بعد الإجابة التي استفزت ذاكرة المذيع: وإلى أي حد من الزمن تطول المعركة؟ فقلت: إنني سأفاجئه بذكر حقيقة أن جذوة ثورة 1919 الحامية لم تنته إلا في عام 1921، ثم ظلت متأججة حتى 1922 و1923 وحتى أصبح للشعب برلمان ووزارة شعبية في مطلع 1924.
قال إن ثورة 1919 كانت في مواجهة مستعمر؟ فأجبته: إن ثورة 1930 كانت ضد صدقي باشا واستمرت أطول من ثورة 1919 حتى أسقطته في 1933، وأسقطت دستوره في 1934، وأعادت الوفد من خلال انتخابات تقررت في 1935، وتمت في 1936.
والواقع أنني كنت في تلك الأيام المبكرة لا أبالغ في توقعاتي سواء من ناحية الانقلابيين أو من ناحية الشعب، وكنت أرى الأمور بوضوح تسير في طريق المواجهة طويلة الأمد بعد أن عجز الصراع المستتر عن أن يصل إلى مبتغاه في تخطي الخلاف الأزلي في مثل هذه الأحوال، ويكمن هذا الخلاف في الإجابة عن سؤال واحد: هل من حق الشعب أن يحكم أم لا؟
وبدلا من أن يختار الانقلابيون شعار محاربة الفوضى أو محاربة الفساد أو محاربة الفشل مما كان سهلا عليهم أن يلجؤوا إليه، فإنهم بحكم المنظور المتاح أمامهم عن علاقات وأهداف القطب الذي يرتبطون به ويأخذون دعمه وتوجهاته، وجدوا أنفسهم مضطرين والسعادة تغمرهم إلى استخدام شعار "مكافحة الإرهاب".
ومن المؤسف حقا أن بعض هؤلاء الانقلابيين لم يكونوا يعرفون حجم الصواب أو نسبته في حقيقة مرة ومريرة تعرفها كواليس السياسة والحياة الأكاديمية في المجتمعات الغربية، وهو أن مكافحة الإرهاب تعبير "كودي" (رمزي) عن مكافحة الإسلام.
وهكذا، فإن العسكريين المصريين ومعهم كثير من الانقلابيين الذين تعددت رؤاهم وأهدافهم قصيرة النظر، وقعوا دون إعلان ودون اعتراف في فخ تاريخي ومأزق فلسفي أو منطقي أو وجودي، وهو أنهم أصبحوا يعادون هوية شعبهم، بل هويتهم هم أنفسهم، وهو ما اتضح لهم لاحقا حين انزلقت قرارات الانقلاب بطريقة آلية إلى إغلاق المساجد والهجوم عليها ومنع الصلاة فيها، وتحديد وقت للخطب، ومنع الأئمة، والقبض على المتدينين، ثم إلى مراحل أخرى من احتقار الدين وازدراء المتدينين واللجوء إلى آليات من قبيل الحملات الإعلامية، أو التحريضية بلفظ أدق، ثم إلى تهيئة غير مقصودة لأجواء التحرش الجنسي، ثم إلى اغتصاب المعتقلات، ثم وهذا هو الأنكي اللجوء الشاذ -وإن كان على نطاق ضيق- إلى اعتقال السيدات والإناث لاغتصابهن جهارا نهارا، وهو ما لم يحدث في أفظع الحروب بشاعة.
وفي هذا المقام، أذكر أن مذيعا لامعا فاجأني على الهواء بسؤال مباشر عن توقعاتي للمنتصر في هذه المعركة التي بدأت على وجه غير محسوب جيدا، فأجبته بتلقائية شديدة بمقولة الزعيم البريطاني تشرشل لضيفه حين قال في بداية الحرب العالمية الثانية إن المعركة ستطول وسيفوز فيها من يستطيع أن يفرغ حمام السباحة بفنجان من فناجين القهوة الصغيرة التي ظلت تستخدم قبل أن تنحو البشرية إلى تكبير حجم فنجان القهوة ثم إلى اختراع ما نسميه الآن "المج" (الكوب الكبير).
وكان السؤال التالي مباشرة بعد الإجابة التي استفزت ذاكرة المذيع: وإلى أي حد من الزمن تطول المعركة؟ فقلت: إنني سأفاجئه بذكر حقيقة أن جذوة ثورة 1919 الحامية لم تنته إلا في عام 1921، ثم ظلت متأججة حتى 1922 و1923 وحتى أصبح للشعب برلمان ووزارة شعبية في مطلع 1924.
قال إن ثورة 1919 كانت في مواجهة مستعمر؟ فأجبته: إن ثورة 1930 كانت ضد صدقي باشا واستمرت أطول من ثورة 1919 حتى أسقطته في 1933، وأسقطت دستوره في 1934، وأعادت الوفد من خلال انتخابات تقررت في 1935، وتمت في 1936.
والواقع أنني كنت في تلك الأيام المبكرة لا أبالغ في توقعاتي سواء من ناحية الانقلابيين أو من ناحية الشعب، وكنت أرى الأمور بوضوح تسير في طريق المواجهة طويلة الأمد بعد أن عجز الصراع المستتر عن أن يصل إلى مبتغاه في تخطي الخلاف الأزلي في مثل هذه الأحوال، ويكمن هذا الخلاف في الإجابة عن سؤال واحد: هل من حق الشعب أن يحكم أم لا؟
فالعسكر لا يعتقدون تحت أي ظرف من الظروف أن من حق غيرهم أن يحكم، وليس إلى مجادلتهم من سبيل إلى إقناع أو اقتناع، فإذا تحدثت عن الديمقراطيات الغربية قذفوك مئات السنين للأمام وقالوا لك: انتظر حتى نصل إلى مستواهم، وإذا تحدثت عن القيم التي جاءت بها الأديان السماوية قذفوك مئات السنين للماضي وصوروك رجعيا وجاهليا، وهكذا.
"لا يعتقد العسكر أن من حق غيرهم أن يحكم وليس إلى مجادلتهم من سبيل. فإذا تحدثت عن الديمقراطيات الغربية قذفوك مئات السنين للأمام وقالوا لك: انتظر حتى نصل إلى مستواهم، وإذا تحدثت عن القيم التي جاءت بها الأديان السماوية قذفوك مئات السنين للماضي وصوروك رجعيا وجاهليا"
وليس أدل على موقفهم من كلمة عابرة من المرشح الرئاسي العسكري في انتخابات 2012 موجها الحديث لمذيعة مخضرمة حين قال عن منافسه أستاذ الجامعة: سيادته يروح يمارس عمله ويدرس للطلاب في الكلية، لكن يبقى رئيس جمهورية دي حاجة ثانية، "مش شغله!!" ومن الطريف أن هذا المرشح كان قد خرج من منصبه إلى التقاعد منذ عشر سنوات على الأقل، وكان من الممكن للمذيعة حتى ولو كانت من أنصاره أن تذكره بالمنطق المقابل وهو أن سيادته من الأولى أن يذهب إلى مقهى المعاشات ليلعب الطاولة على نحو ما أصبح يفعل الآن بالفعل.
وقد ظل كثير من العسكريين المصريين المعاصرين يجتهدون بنجاح ظاهر في إخفاء مشاعرهم السلبية تجاه الديمقراطية والأحزاب والانتخابات والبرلمان ومجلس الدولة ومحاكم القضاء الإداري والجهاز المركزي للمحاسبات وكل عناصر المنظومة الكفيلة بتصوير مصر في صورة الدولة الديمقراطية القابلة للتعامل معها في القرن الـ21 حتى ولو لم تكن الصورة حقيقية تماما.
ومن الحق أن نقول إن عصر مبارك الذي شُوّه بفاعلية بفضل أجهزة العسكريين أنفسهم عقب خروجه من القصر وقبل دخوله إلى السجن، كان قد حافظ على عناصر كثيرة من هذه الصورة الخادعة في مواجهة الرأي العام العالمي، ولم يكن يقبل بخدش هذه الصورة إلا في أدني الحدود، لكن الانقلابيين أظهروا رغبة حقيقية في تحطيم هذه الصورة، مستندين إلى تأييد أميركي خفي تحت دعاوى مكافحة الإرهاب التي لا تعني كما ذكرنا إلا مكافحة صعود الإسلام السياسي.
وقد ظل كثير من العسكريين المصريين المعاصرين يجتهدون بنجاح ظاهر في إخفاء مشاعرهم السلبية تجاه الديمقراطية والأحزاب والانتخابات والبرلمان ومجلس الدولة ومحاكم القضاء الإداري والجهاز المركزي للمحاسبات وكل عناصر المنظومة الكفيلة بتصوير مصر في صورة الدولة الديمقراطية القابلة للتعامل معها في القرن الـ21 حتى ولو لم تكن الصورة حقيقية تماما.
ومن الحق أن نقول إن عصر مبارك الذي شُوّه بفاعلية بفضل أجهزة العسكريين أنفسهم عقب خروجه من القصر وقبل دخوله إلى السجن، كان قد حافظ على عناصر كثيرة من هذه الصورة الخادعة في مواجهة الرأي العام العالمي، ولم يكن يقبل بخدش هذه الصورة إلا في أدني الحدود، لكن الانقلابيين أظهروا رغبة حقيقية في تحطيم هذه الصورة، مستندين إلى تأييد أميركي خفي تحت دعاوى مكافحة الإرهاب التي لا تعني كما ذكرنا إلا مكافحة صعود الإسلام السياسي.
وفي وقت من الأوقات، بدأت أنبه الرأي العام إلى أن الكلمة الغربية التي تترجم إلى "الإرهاب" لا تعني الإرهاب، وإنما تعني شيئا آخر مختلفا قد يكون أقل وطأة أو أكثر وطأة من الإرهاب، لأنها تعني العنف المسلح فحسب، وبلغ بي الأمر أن أكرر النصح للأميركيين أن يستعملوا كلمة إرهاب كما هي على نحو ما استمعوا إلى نصحي من قبل باستخدام كلمة جهاد كما هي، ذلك أن الانقلاب العسكري استدعى من أدبيات الإسلام دون أن يدري معنى نبيلا هو القوة الضرورية لإرهاب العدو وهو المعنى الواضح بجلاء في قول القرآن الكريم "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، وفي الآية نفسها "ترهبون به عدو الله وعدوكم".
وهكذا، بدا كأنما كانت الإستراتيجية التي صيغت على عجل كفيلة بأن تطيل نفس مقاومة الشعب للانقلابيين، وهو ما حدث بالفعل مع كل استفزاز كان يفرضه اللجوء إلى الحمق في تنفيذ إستراتيجية حمقاء صيغت دون حياء ودون تفكير، لكنها لحسن حظ الشعب وضعت الانقلابيين في أسوأ صورة يمكن أن يوجد فيها أمثالهم حيث أصبحوا بكل ما يفعلونه مجرد دمى على مسرح العرائس يلعبون ضد مصلحة وطنهم وضد هويته، فيزيدون من كل ما من شأنه أن يطيل من نفس الجماهير في صمود رائع وتحد بديع، بينما هم لا يتمتعون بقدرة موازية على صياغة صمود مقابل إلا بالسلاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق