بالتيمور.. أمريكا الوحش الذي يأكل نفسه
أمريكا لها وجه آخر يختلف تماما عن ذلك الوجه الذي تسفره للعالم ،كقائدة ومتفردة ومهيمنة على الشأن الدولي ، وجه يختلف عن وجه أمريكا القوة العظمى ذات البأس النووي التي لا يجسر أحد على مجرد التفكير في مواجهتها ، والنفوذ الاقتصادي الأخطبوطي في كل مكان ، والقطبية الدولية المهيمنة على كل شيء، والتدخل اللا محدود ، بلا حسيب ولا رقيب ، الوجه الآخر هو وجه ملئ بالندوب والتشوهات الأخلاقية والنفسية الغائرة التي لا تستطيع كل مساحيق الأرض أن تخفي قبحه وعواره ؛ إنه الوجه العنصري الذي يمثل ورما سرطانيا مزمنا لم ولن يستطيع الأمريكان التخلص أو الشفاء منه أبدا على مر العصور ، فقط ، تقليل آثاره أو أخذ بعض المسكنات لتخفيف وقع آلامه التي تنخر في جسد الأمة الأمريكية البائسة .
في عام ١٩٦٧ وبعد العديد من حوادث العنف على أساس عنصري بين البيض والسود قام الرئيس الأمريكي (ليندون جونسون) بتعيين لجنة سميت لجنة (كيرنر) لبحث أسباب العنف وكيفية معالجتها.
جاء في تقرير اللجنة : " إن أمتنا تتجه ناحية الانقسام لمجتمعين منفصلين, أحدهما أبيض والآخر أسود. منفصلان وغير متساويين. إن التمييز العنصري والفقر صنعا جيتو عنصريًا مدمرًا مجتمعيًا لا يعلم عنه الأمريكيون البيض شيئًا ولا يشعرون به " .
وتبدو الكثير من الأمور متشابهة بين ما أعمال العنف ومعارك الأمريكيين السود ضد التمييز العنصري في الستينات وبين ما يحدث اليوم.
كان (مارتن لوثر كينج) يقول :"إن أعمال الشغب هي لغة غير المسموعين ".
لا أظن أن رأيه كان سيتغير كثيرًا لو امتد به العمر حتى يومنا هذا ورأي ما يجري في ولايات القطب الأوحد في العالم .
في أحدث حلقة من حلقات جرائم التمييز العنصري في أمريكا ، وفي يوم ١٢ أبريل أوقف عدد من ضباط الشرطة شابًا أسود في الخامسة والعشرين يدعى (فريدي جراي) بتهمة حيازة مطواة واحتجزوه داخل سيارة شرطة لمدة نصف ساعة قبل أن يطلقوا سراحه.
كان (جراي) يعاني من إصابات بالغة خاصة في عموده الفقري وتم نقله سريعًا إلى المستشفى. السلطات تقول أن الإصابات نتجت عن أنه كان مقيد اليدين والقدمين وأنه من المحتمل أن يكون قد تعرض للارتطام داخل سيارة الشرطة نتيجة لعدم ربطه لحزام الأمان.السلطات قامت بعدها بمعاقبة ستة من ضباط الشرطة بالإيقاف – مدفوع الراتب – لعدم ربطهم حزام الأمان الخاص بـ(فريدي) عند احتجازه في سيارة الشرطة.
في يوم ١٩ أبريل توفي الشاب الأسود (فريدي جراي) بعد معاناته من الإصابات التي تعرض لها قبل أسبوع.
السلطات أعلنت أنها تحتاج المزيد من الوقت للتحقيق في الواقعة قبل اتخاذ أي إجراءات أخرى تجاه الضباط المسئولين كالفصل من الخدمة. بدأ المئات يوميًا في التظاهر بشكل سلمي للمطالبة بسرعة التحقيق في ملابسات القبض على (فريدي جراي) والإصابات التي توفي على إثرها ومعاقبة المسئولين عن وفاة الشاب الأسود.
شيعت جنازة (فريدي جراي) يوم الاثنين ٢٧ أبريل، بعدها بساعات اندلعت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الشرطة في أنحاء المدينة وخاصة في الجزء الشمالي الغربي منها. الاشتباكات بدأت في الجزء الشمالي من ضاحية غرب (بالتيمور) وامتدت بعدها تجاه وسط المدينة ثم إلى شرق مدينة (بالتيمور).في مساء نفس اليوم قام (لاري هوجان) حاكم ولاية مريلاند بإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول من الساعة العاشرة مساءً وحتى الخامسة فجرًا بداية من يوم الثلاثاء ٢٨ أبريل وحتى الاثنين ٤ مايو على أمل أن يحد ذلك من العنف ويقلل من الاشتباكات بين الطرفين وكلف إدارة شرطة الولاية بتولي إدارة الأمن في المدينة, كما انتشرت وحدات الحرس الوطني لتمنع عمليات النهب والسرقة.
قبل عدة شهور وقعت حادثة مشابهة لتلك الحادثة بمدينة " فيرجسون " بولاية " ميسوري " حيث قتل أحد الشباب السود ويدعى " مايكل بروان " على يد شرطة المدينة ، مما أثار احتجاجات عنيفة في صيف 2014 اضطر معها الرئيس الأمريكي نفسه لاعلان حالة لطوارئ ، والتنديد بوحشية الشرطة الأمريكية .
هناك أوجه اختلاف كثيرة بين (بالتيمور) و(فرجسون) ولكن وجه الشبه الرئيسي بين المدينتين هو أنه بينما يمثل السود أغلبية السكان فإن نسبتهم في جهازي الشرطة في المدينتين لا تتناسب مع نسبتهم من إجمالي عدد السكان.
في حالة (بالتيمور) فإن الأمريكيين البيض يمثلون ٢٨٪ فقط من عدد سكان المدينة بينما ترتفع نسبتهم في جهاز الشرطة لـ٤٦٪ وهو ما يتشابه مع النسب نفسها في (فرجسون) حيث يمثل البيض نسبة ٢٩٪ من السكان وترتفع نسبتهم إلى ٩٤٪ من رجال الشرطة في المدينة !! . وهو ما أثار أحد أهم أوجه وتداعيات التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي ؛ مشكلة التمثيل غير العادل تعاني منها العديد من المدن الأمريكية حيث لا تتناسب ديموغرافية أجهزة الشرطة ونسب البيض والسود فيها.
قد يكون من المقبول نوعًا أن مدينة مثل (سان بول) في ولاية (مينيسوتا) أغلبية سكانها من البيض بنسبة ٥٧٪ تكون نسبة البيض في جهاز الشرطة ٧٧٪ من قوة الجهاز. لكن من غير المعقول أن يتكرر الأمر نفسه حتى في المدن التي لا يمثل البيض أغلبية سكانها فيحظون بالتمثيل الأكبر في أجهزة الشرطة, فمثلا في مدينة (سان خوسيه) في ولاية كاليفورنيا يمثل البيض ٣٠٪ فقط من عدد السكان بينما يمثلون ٦٣٪ من جهاز الشرطة فيها, ترتفع نسبة السكان البيض في (ساني فيل) بكاليفورنيا إلى ٣٧٪ فترتفع معها نسبة الضباط البيض في قوة الشرطة إلى ٧٣٪ هناك حالات يمثل فيها البيض ١٠٠٪ من قوة الشرطة بينما يمثلون ٩٪ فقط من عدد السكان مثل بلدة (مونتيبيللو) بولاية كاليفورنيا .
هذا التمييز غير العادل في الأجهزة الحكومية عامة ، والحساسة خاصة ، حوّل مجتمعات السود في أمريكا لبؤر توتر دائمة ، قد يكون هناك الكثير من الأسباب. فالمؤسسات لا تتغير بسهولة، أيا كان المسؤول،ونضال السود في أمريكا هذه الأيام نادرا ما ينحصر حول النوايا الخبيثة للعنصريين في السلطة، وإنما حول المشاكل الهيكلية مثل تركز الفقر وتفكك الأسر والمدارس الرهيبة.وما يشعل هذا الواقع أن بالتيمور هي واحدة من أخطر المدن في أمريكا، إذ إن معدل جرائم القتل في 2013 كان 37 لكل 100ألف، أسوأ من جنوب أفريقيا.
وفي أسبوع واحد من يونيو من ذلك العام، شهدت المدينة عشرة جرائم قتل و28 عملية إطلاق النار بين عدد سكانها 622 ألف فقط.
في بالتيمور يُقتل الشبان السود أحيانا من الشرطة، وفي معظم الحالات يُقتل شاب أسود من قبل شاب أسود آخر. وأجهزة الشرطة في هذه المجتمعات تحولت مع هيمنة النظرة العنصرية على عقول الكثيرين من العاملين فيها إلى آداة قتل تشتبه في كل ما هو أسود البشرة ، حادثة (مايكل براون) قد تكون أشهر تلك الحوادث بعدما احتلت مظاهرات وأعمال العنف التي جرت في مدينة (فرجسون) مشهد الصدارة لوقت طويل من عام ٢٠١٤، حتى جاءت حادثة باليتمور ، ولكن ثمة حوادث أخرى مشابهة ربما تكن أكثر مأساوية من الحوادث المذكورة ، في ٢٢ نوفمبر ٢٠١٤ أطلق ضابطا شرطة مدينة (كليفلاند) بولاية (أوهايو) النار على الطفل (تامر رايس) – ١٢ عامًا – ليردياه قتيلًا بعدما شكّا أنه يحمل مسدسًا. في ١٧ يوليو ٢٠١٤ قام ضابط شرطة مدينة (نيويورك) (دانيال بانتاليو) بخنق (إيريك جارنر) وهو أمريكي أسود في الأربعينات من عمره مما تسبب في قتله.
اجتاحت المظاهرات عدة مدن أمريكية بعد قرار عدم إدانة (بانتاليو) ومعاقبته فقط بإحالته للأعمال المكتبية.
وعلى مدار السنوات الأربع الماضية، نجح أكثر من مائة شخص في كسب قضايا متعلقة بالعنف أو مخالفة الحقوق المدنية، وقائمة الضحايا تضم فتى يبلغ 15 عامًا كان يركب دراجته، وامرأة حامل في سن الـ26 تعرّضت للضرب، وسيدة تبلغ 50 عامًا كانت تبيع تذاكر يانصيب، وشمّاس يبلغ 65 عامًا كان يدخن سيجارته، وسيدة تبلغ 87 عامًا كانت تساعد حفيدها، وفي كل واحدة من تلك الحالات تقريبًا، حكم القضاء ببراءة الضحايا من التهم المنسوبة إليهم من جانب الشرطة، هذا إن كانت الشرطة قد وجهت لهم اتهامات أصلًا لتبرر ما فعلته، وقد بلغ حجم التعويضات التي دفعتها الشرطة لضحاياها أكثر من 10 مليون دولار خلال العامين الماضيين فقط !!
بانتخابها أول رئيس أسود في تاريخها، ظن الأمريكان أن مسألة العنصرية ضد السود قد انتهت في بلادهم ، ولكن أحداث عاصفة مثل أحداث باليتمور ومن قبلها فيرجسون تشير بوضوح إلى أن المسألة ليست مسألة أشخاص وإنما منهجية كاملة داخل مؤسسات الدولة الأمريكية يجب أن تتغير، لاسيما مؤسسات الشرطة والأمن والسجون، منهجية تستلهم أفكار العبودية كرافد تاريخي للعنصرية في العصر الحديث ، فلم تكن صورة انتخاب رئيس أسود بأمريكا إلا دعاية كاذبة لواقع عنصري داخل الولايات المتحدة، هذا الواقع مارسه البعض ضد الرئيس نفسه أثناء حملته الانتخابية بعد أن ظهرت مجسمات كارتونية تسخر من شكل الرئيس ولون بشرته ، ووصل الأمر لقيام بعض الصحف اليمينية بتصوير أوباما على صورة قرد يتناول الموز ، للتأكيد على أصوله الأفريقية !! .
تذهب التقديرات إلى أن هناك أكثر من 800 جماعة تدافع عن تمييز البيض عن السود في أمريكا وبها أعضاء يقدرون بمئات الآلاف، كلهم يعمل بوحي من فكر جماعة الكلاي كلوكس كي العنصرية ، فالانتخابات كل عام في أمريكا تفضح الرواسب العنصرية في الولايات المتحدة، كما أن الاحتجاجات أيضًا تُظهر الوجه القبيح للشرطة في البلد الذي يطلق على نفسه واحة الديمقراطية . ومما يكرس هذا الداء الخبث في الجسد الأمريكي إصرار الحكومة على تجاهل الأبعاد الحقيقية لهذا الورم السرطاني ، ففي أعقاب كل حادث تخرج تصريحات الحكومة لتصطدم المقهورين بالادعاء بأنها " حادثة فردية " لا تستدعي التضخيم، والساسة والنشطاء السود أكدوا أن الحكومة تخشى المناقشة المجتمعية لأمر العنصرية التي تجتاح المجتمع الأمريكي، كما تقف موقف المشاهد الدافن رأسه في الرمال في ظل الحديث عن واحة الحرية العالمية، والأشياء من هذا القبيل التي تُصدر للعالم كنوع من البروباجاندا غير الحقيقية على أرض الواقع.
مثل هذه الأحداث تدفعنا إلى التريث والتأني قبل الحكم على أنظمة الحكم الغربية عن طريق ما يُروج عنها، فالتجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان موجودة بقوة ؛ الأمر الذي يستدعي انتقاد النموذج الغربي أيضًا الذي يجعل من حقوق الإنسان مجرد سلعة دعائية وفقط لصورة قبيحة في الداخل لا تريد الحكومات الغربية أن تظهرها، فالطبيعي أن كوارث حقوق الإنسان في المجتمعات النامية تكون بهذا الحجم الكبير الذي نراه نظرًا لعوامل ليست محل نقاش الآن، لكن من غير الطبيعي أن تدّعي دول حماية حقوق الأقليات في حين أنها تدهسهم ولكن دون أن يلفت ذلك نظر أحد .
لذلك على الجميع إعادة تعريف الالتزام بحقوق الإنسان وقواعد المساواة ومدى تطبيق القانون في هذا الصدد، مع فتح ملفات حقوق الإنسان في جميع دول العالم دون استثناء، وعدم قصر الأمر إعلاميًا على الدول الفقيرة النامية والتي تدعم أنظمة حكمها القمعية الدول الغربية الكبرى بالمناسبة، ثم يأتي العويل على حقوق الإنسان بعد ذلك في مشهد عبثي بامتياز يجعل من هذه الشعارات سلعة تجارية لا أكثر، فالحوادث العنصرية والقمعية في أمريكا تفتح ملفات التعذيب في سجون تُشرف عليها الإدارة الأمريكية، كذلك تفتح المجال للحديث عن دعم الولايات المتحدة لأنظمة تمارس القمع والعنصرية تجاه شعوبها ويتم مساعدة هذه الأنظمة بغض الطرف عن تلك الممارسات؛ مما يجعل للولايات المتحدة وجهًا آخر لا نعرفه ، والأصح تجعل أمريكا كيانا يحمل عناصر تدميره ذاتيا ، بعد أن كفرت قطاعات واسعة من السود بالسلمية ، ورفضوا الانصياع لدعوات التحلي بضبط النفس ، واعتماد المسارات القانونية والسياسية لنيل الحقوق ، لذلك نراهم اليوم يلجئون إلى العنف ، والعنف المفرط ، وهو ما يحول أمريكا إلى وحش يأكل نفسه ، وهو ما يمثل بداية السقوط لهذا الوحش ، وهو ما قد نراه قريبا ، وربما قريبا جدا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق