الجمعة، 24 نوفمبر 2017

رسائل الوصل وهمزة القطع والفراق

رسائل الوصل وهمزة القطع والفراق

أحمد عمر





مهاة هي معلمة الصف السادس في مدرسة الغزالي، المنشأة مقابل مديرية الناحية. وهي طويلة، سمراء، مجعدة الشعر، على وجهها آثار جدري الماء، تبدو أكبر من سنها، قويّة، لا تخلو من جاذبية، تشبه الظباء والمها في جمال العيون، فوجئ الصبي الضّلّيل بظبية البان الشامخة مثل الرمح الكعوب، ترسل في أثره، في الفرصة، وهي الاستراحة بين حصتين، الأمر الذي أثار ريبة الزملاء وحسدهم أيضا.

دخل خَجِلا، بصدريته البنية الفاتحة اللون، قالت له بعد أن نظرت إليه مليا: سأكشف لك أسئلة المذاكرة، أريدك أن تُحرز العلامة التامة، هذه المرة، أنت أولى بالتفوق من زملائك المتفوقين. هذا غش عظيم تقوم به معلمة لتلاميذها بإيثار أحدهم، وتسريب أسئلة الامتحان له! هذه خيانة لمبادئ العلم والتربية. الغش يخفي رسالة كبيرة، لا يفهمها. صُعق، وذُهل بعد أن دلّته على الأسئلة حتى يذاكرها. خرج، كان زملاؤه بانتظاره، هرب منهم بزعم المذاكرة والتحضير لها قبل ساعة من موعدها، استغرب الزملاء سلوكه، في اليوم التالي أرسلت مرة أخرى تطلبه، وقالت مؤنبّة: خذلتني، لم تحرز العلامة التامة، انظر هذه هي ورقتك، لماذا؟

وقف صامتا، مذنبا، نزلت دموع على خده، غش وسوء كيلة، إنه مديون ومدان. سكتت، قالت وهي تمسح شعره: قل لي ما السبب؟ مرضت الآنسة مهاة بعد أيام، وغابت عن المدرسة، فعزم رهط من التلاميذ المتفوقين، أو من يحسبون أنفسهم كذلك، على زيارتها، اشتروا بعض الفاكهة، بعد أن جمعوا لها من قروشهم، سألوا عن عنوانها أحد التلاميذ من جيرانها. زاروها بعد الدوام المدرسي، فتحت الباب، وعلى وجهها آثار الشحوب والسقم، وعادت إلى فراشها وهي تقول تفضلوا، فلحقوا بها، استلقت ونظرت إليهم، وكان أول ما قالته موجهة كلامها إلى الصبي الضّلّيل كأنه قائد الفريق: أنا عاتبة عليك. تأخرت علي، أهذا هو الود؟ أين وفاء الصداقة؟ حُشِر الصبي في زاوية، وبان عليه الحرج مرتين، مرة منها، ومرة من زملائه.

تداركتْ الموقف ورحبت بالتلاميذ، طلبت منهم الجلوس على طرف السرير، فليس في الغرفة الطينية المرتبة أكثر من كرسيين، عاتبتهم جميعا هذه المرة، ووصفتهم بالأصدقاء.
 أسبوع وأنا مريضة، ولم تتذكروني إلا الآن؟ جلسوا قليلا صامتين، فهي المرة الأولى التي يقومون فيها بواجب اجتماعي كبير، طمأنتهم على صحتها، وقالت إنها ستعود قريبا، للمعلمة رهبة وهيبة، خرجوا مثل رجال كبار خسروا معركة كبيرة، وعادوا يجرون جروحهم وهزيمتهم. لم يتحدث الصبي الضّلّيل في طريق الطريق. أسكره عتاب المعلمة السمراء، وغرق في جدري الماء المعدي، وجرى بعيدا مع المها والظباء في البراري الشاسعة.

نادته المعلمة في الصف في الفرصة، كانت حزينة، وكانت تقرأ رسالة، قالت له: أتعرف ممن هذه الرسالة؟ هزَّ رأسه نافيا. قالت له: هذه رسالة من خطيبي، أرسلَ إليَّ يفكُّ خطبته مني. قال لها بعينيه إنه لم يكن يعرف أنها مخطوبة، ولو علم لكان له شأن آخر، لغضب، لغار، لكان أكثر أدبا معها مثلا، لودَّ أن يرى صورة خطيب معلمته، لرفض الخطبة، لأرسل له رسالة يشتمه فيها. رسائله لا تصل. خلعت خاتم الخطبة وقالت: هذا أحسن لي أيضا، لقد أحسست ببعض الألم، لكن هذا أفضل، لم يكن خطيبي يعجبني أيضا.


وسألت: ما رأيك؟ وقف حائرا، فهذا موقف كبير لا قِبَل له به، وعجمته وخجله يعطلان لسانه ويحبسانه عن الكلام. قالت: لا أريد أن أحتفظ بهذا الخاتم منه، قال في الرسالة: إنه يرفض استرداده. ذُعِر وبُوغت: خاتم خطبة، ولي؟ هذه إمارة لا قِبَل لي بها. قالت: أعرفه، لن يطالب به، لن يجرؤ على مواجهتي. قال: قد يرسل أمه مثلا. قالت: لن تجرؤ أمه أيضا. قالت: خذه.

جمع مهارته اللغوية بالعربية، فقال لها مثل الكبار أن تنتفع بثمنه. قالت: حكيم.. هناك أمور أغلى من المال، لا أستطيع أن أنتفع بمرارتي وذكرياتي وعواطفي التي أهدرتها على مَن لا يستحق. نظرت إليه نظرة طويلة وقالت: أنت دائما تخذلني، تخفي عني مشاعرك. مسحت على رأسه، وقالت: لا ينفع معك الغش، وتتأخر في عيادتي، ولا تقول لي شيئا، وخطيبي يتخلى عني، حتى الآن لا أفهم خذلانك لي في المذاكرة، جعلني أحسّ بالمرارة. أريد أن تكون الأول في الصف. وكادت أن تقول له: أريد أن تكبر الآن وفورا. أو هكذا خطر له. قال متهربا: انتظريني سأحضر لك هدية، غاب مسافة الدار، وعاد بعد ساعة ومعه عصفور في قفص، فنظرت إليه باسمة، وفي عينيها فضول، وقالت: ما هذا العصفور؟

قال: لا أعرف اسمه، طير من طيور البر. إنه هدية لك. قالت: إنه طائر لا يغرد، صموت مثلك. أشكرك، لكني سأحسّ بالحزن عليه. تعال نطلقه، ستكون حريته هدية رائعة بمناسبة فك قيد الخاتم الخطبة غير السعيدة.  فتحت باب العصفور فطار.

قالت له إنه لا يعرف غسل وجهه، فأثر الماء ينتهي في الوجنتين، فخجل وقال إنه يستيقظ أعمى لا يرى، فيقضي ساعة في غسل عينيه المقفلتين برمص أخضر مثل الصمغ، بالماء الساخن، وبيد واحدة، فاليد الثانية يصبّ بها الماء على يده الأولى، ويكشطهما بأظافره عن رموشه، فيغفل عن باقي وجهه.  فيما بعد، أدرك أنّ السبب في القنديل ذي الدخان. قادته إلى الصنبور، وغسلت له وجهه، ثم سرّحت له شعره بمشط يرى مثله أول مرة، مدور، له أسنان شوكية. عبثت بشعره، وخللته بأصابعها الطويلة الأنيقة الناعمة الطرية مثل راحة الحلقوم. لقد علّمته أمرين: غسل الوجه، وتسريح الشعر.

فكّر في كتابة رسالة لها ما دام لا يجرؤ على مواجهتها ومصارحتها، رسائله إلى المجلات لا تصل، لكنه واثق من هذه الرسالة، سيوصلها بيده، فكّر في أن يدسّها بين أوراقها، أو أن يرميها من نافذتها. وجد أن بريد النافذة أحسن. جلس في البيت ساعة وقد أضواه الهوى، يفكر في كتابة رسالة قصيرة من نصف صفحة بكلمات واضحة وسهلة، احتار ماذا يكتب، لو يستعين بكتاب رسائل العشاق، فيها مشاعر كبيرة لا تناسب موقفه، إنه يقدرها كثيرا، بل ويحبها أكثر من أي مخلوق في العالم، سيقول إنه داخ سبع دوخات بعد أن سرّبت له الأسئلة، لم يستطع لمَّ شمل قطيع أفكاره التي شتتها ذئاب الشوق، فقد المحفوظات في رأسه، صُعق من تخصيصه بكل هذه العاطفة والحب، وهذا هو سبب إخفاقه في إحراز العلامة التامة على وجه التحقيق.

قالت وهي تمسح رأسه: ما شاء الله عليك، تكتب الرسائل للإناث، وتُفضي إليهن بعواطف كبيرة. لكنك ما زلت تخطئ بين همزة القطع وهمزة الوصل
مواقع التواصل
في اليوم التالي كانت قد قرأت الرسالة، كان فيها تعابير شائعة في مواضيع الإنشاء المدرسي، ابتسامتها قالت ذلك، في الدرس لم تكف عن رسائل النظر وبريد العيون، كان يخشى من غضبها، انتهى الدرس فقالت له أن ينتظر، التلاميذ جميعا أدركوا بأن ثمة عاطفة غريبة بين المعلمة وبين الصبي الضّلّيل. اتهموه بأنه خادمها، لقّبوه بخادم الآنسة مهاة، هذه غيرة وحسد، لا يهم. قالت وهي تمسح رأسه: ما شاء الله عليك، تكتب الرسائل للإناث، وتُفضي إليهن بعواطف كبيرة. لكنك ما زلت تخطئ بين همزة القطع وهمزة الوصل.

تذكّر رسائله التي يرسلها إلى مجلات ميكي وسمير وتان تان وتضيع في البريد، شكا لها: لا تصل رسائلي يا آنسة مهاة. أرسل رسائل إلى بريد التعارف ولا أحد يرد عليّ. قالت: تعال، سأعلمك إرسال الرسائل، وسنرى السبب. أحضرت مظروفا، فكتب الرسالة النمطية إلى مجلة ميكي، التحية وطلب الصداقة، وأرفق معها صورة بالأبيض والأسود، ألصقت المظروف وأخرجت طابعا وألصقته على ظهر المغلف بعناية، أضلاع الطابع موازية لأضلاع الرسالة، ففتح فمه دهشة، قالت: الآن الرسالة صحيحة. قال لها بلكنته العجماء إنه يلصق الطابع محروفا. قالت: موظف البريد يُتلف الرسائل التي يجد فيها الطابع محروفا وعليها صورة الرئيس، يعدُّها إهانة لرئيس الدولة، وربما لاحقوا صاحبها إذا كانت الرسالة سياسية، إنهم يراقبون البريد ويفتحون الرسائل. يبدو أنهم غفروا لك جهلك، وسنّك شفع لك. قال: هذا هو السبب إذن.

بعد شهر وجد صورته لأول مرة مع أصدقاء ميكي باسمه الحقيقي، فطار بريش الفرح. وأحضر المجلة معه إلى الصف، وأبرزها للزملاء، وفرحت بها الآنسة، وعلقوها في مجلة الحائط، بعدها أرسل عشرون تلميذا رسائل يطلبون صداقة الفأر ميكي غيرة من الصبي الضّلّيل. انتهت المدرسة، ووزعت الصحائف المدرسية الجلاءات وعليها العلامات والتقديرات وتقاريظ المعلمة وملاحظاتها، وجاء يودّعها، هو وحده، التلاميذ انصرفوا إلى غنائم العطلة الصيفية، فمَن منهم سيتذكّر المدرسة ذات الواجبات العسكرية والفلقة. جلست القرفصاء، فأشفق عليها، قالت وكأنها مصلوبة مثل المسيح: لم تقل لي لمَ خذلتني؟

كان يتذكر بقوة وصفها له في حقل ملاحظات المعلمة، في صحيفة التلميذ، بكلمات مشعة نورا: ذكي، ودود، وحزين، وجذّاب، ضعيف في الإنشاء المدرسي، يخطئ بين همزة الوصل والقطع، أتمنى له مستقبلا زاهرا. فنظرت إليه وعانقته، ثم ركبت الباص ورحلت وهي تلوح من وراء نافذة سميكة وملطخة بالوحل من الشتاء الماضي. نسي أن يقول لها إن الطائر الذي أطلقته سقط في الفخ مرة ثانية، وقد كُسِر جناحه هذه المرة ولن يطير بعد الآن، وسيموت في القفص من الحسرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق