الجمعة، 10 نوفمبر 2017

الغزالي كما عايشته

الغزالي كما عايشته

"لست مبهورا بكل ما عند القوم ولكنه الإنصاف فقد ألفت كتابي "ظلام من الغرب" قبل أن يجمع الله بين أبيك وأمك".
د. محمد الصغير


كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله لا يرى مصيبة أكبر ولا أفدح من أن تصاب الأمم في أخلاقها وأن انتشار ذلك وذيوعه مؤذن بهلاكها كما قال شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
وكانت قضية الأخلاق والعمل على ترسيخها تأتي في مقدمة أولوياته فتجدها في عامة مؤلفاته ومقالاته وخطبه ومحاضراته، وكان يعتبر ما ذكره الإمام ابن القيم: "إن هذا الدين خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين".
دستور في تعامله مع الأمم والأفراد
لذا إذا تحدث عن بعض سلوكيات الغرب الحميدة، كدقة الصنعة واحترام الوقت مثلا، ظنه السطحي المتعجل من المبهورين ببضاعة القوم، حتى أن أحد الشباب قال له ذلك عقب محاضرة ألقاها فرد عليه بطريقته المعهودة في الرد على الأسئلة الممجوجة:"لست مبهورا بكل ما عند القوم ولكنه الإنصاف فقد ألفت كتابي "ظلام من الغرب" قبل أن يجمع الله بين أبيك وأمك".
وبما إن الشيخ محمد الغزالي كان نسيجا وحده وفريد عصره متميزا متفردا، لذا كان تناوله لقضية الأخلاق من منظور غزالي بحت، يدل الباحث من أقصر طريق على فكر الشيخ وطريقته، فكتب عن الأخلاق كأساس لنهضة الأمم ورفعة المجتمعات وليست كمواعظ قليلة الأثر عديمة الثمر، وبهذا المنهج وهذه الروح كتب سفره العظيم خلق المسلم؛ الذي لا غنى لطالب علم عنه لاسيما من تصدر لدعوة الناس وتعليمهم، فقد ذكر رحمه الله في مقدمته أنه حوى ألف حديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلها من الصحيح أو الحسن.
وقد أدركت جيلا من علماء الأزهر الشريف لا يرون الاقتصار على قراءته ودراسته بل يلزمون بحفظه واستظهاره عن ظهر قلب؛ فقويت قلوبهم في قول الحق ورقت في دعوة الخلق؛ والمتصفح لكتاب خلق المسلم يجد أنه كتب فيه ما يحتاجه عصره، وما تلح الحاجة إلى فهمه وبسطه، لا أن يكرر من سبق أو يختصر المطول ويشرح المختصر فتراه يتحدث عن خلق الانتفاع بالوقت والاتعاظ بالزمن كأساس من أسس الأخلاق، وإذا تحدث عن المعروف المعهود كالصدق والوفاء بالعهد أسقطه على الواقع، وتناوله بروح العصر.
فخلق الأمانة مثلا لا يحصره في الصورة المعروفة الخاصة بأمانات الأموال وحسب بل يذكر بأمانة الكلمة وأمانة النقل وأمانة التربية.
بين الأخلاق والتوحيد
ومن عبقريات الشيخ محمد الغزالي رفع الله درجته، أنه اعتنى بالرباط الوثيق بين الأخلاق والتوحيد، وأن الأخلاق جزء من أجزاء الإيمان بل المؤشر على وجوده من عدمه أو زيادته ونقصانه وكانت هذه القضية هي قطب الرحى في كتابه الجامع المختصر الماتع وهو كتاب "عقيدة المسلم"، الذي قام على ثلاثة محاور:
الأول: القرآن هو كتاب العقيدة وكتاب الحياة.
الثاني: الخلاف بين السلف والخلف خلاف يدرس في إطار ظروفه وملابساته التاريخية ومكانه قاعات البحث وأماكن الدرس، ووجوب رد الناس إلى الأصلين والنبعين الصافيين القرآن والسنة والتأسي بالجيل القرآني الفريد وتابعيهم بإحسان الذين أشربت قلوبهم حقيقة الإيمان وكرهوا الشقاق ففتحوا الآفاق.
الثالث: الأخلاق والإيمان صنوان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء والإيمان قرناء إذا رفع أحدهما رفع الآخر؛ وقد تضافرت الأحاديث النبوية في ذلك ومنها حديث أبي هريرة الذي رواه البخاريوالله لا يؤمن (قالها ثلاثا).
قالوا من هذا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه، أي غوائله وشروره. والحديث يذكر نفي الإيمان أو نفي تمامه عمن ساءت خلاله وفعاله مع جيرانه،وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والأخلاق في كثير من المواطنمن كان يؤمن بالله واليوم فليكرم ضيفه؛ فليقل خيرا أو ليصمت؛ فلا يؤذ جاره.
وزاد من تركيز فضيلة الشيخ الغزالي على قضية الأخلاق ما لمسه من الخطط المدروسة بعناية من المستشرقين وأذنابهم من المستغربين الذين سماهم صرعى الغزو الفكري
بأنها موجهة في الأساس لحرب المسلمين في أخلاقهم والدعوة إلى التخلي عن العادات الطيبة والتقاليد الحسنة التي مردها إلى مورثات من روح الشريعة ومعالم الملة
وقد أفلحوا في تفكيك منظومة الأخلاق وتحقيق الغاية من ذلك من خلال ما وضعوه في مقررات التعليم وبرامج الإعلام واستطاع الغزو الفكري والاحتلال الثقافي النجاح فيما فشل فيه الغزو العسكري والاحتلال المباشر.
وتبقى هذه المعركة حامية الوطيس مستعرة تحتاج من يخوض غمارها ويرفع لواءها، لاسيما وقد اقتحم لجتها وبين معالم الطريق فيها الأساتذة والمصلحون ويأتي في مقدمتهم أحد رموز مدرسة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث.
الشيخ المجاهد والأزهري الثائر والداعية الكبير والأديب الأثير الإمام محمد الغزالي عليه سحائب الرحمات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق