الأحد، 11 فبراير 2018

أحمد نصر جرّار.. أزمة الكتابة عن شهيد

أحمد نصر جرّار.. أزمة الكتابة عن شهيد


ساري عرابي
في كل مرة أكتب فيها عن شهيد، تكون خُطتي السابقة على النص مختلفة عما صار هو النص، إذ ينتهي بي الأمر، دون إرادة مني، إلى تسجيل انفعالي بالشهيد، وعجزي إزاء إعجازه، ووهني في طلب سره المستحيل، مع أن شهيدنا حقيقي جدا، متعال في واقعيته على الأسطورة، بشر صرف، قد صار جسدا مسجى بالدم.

الكتابات الفلسطينية، في العقود الأخيرة، عن المقاتلين الشهداء، تكاد تقتصر على التوثيق البارد، مع محاولات قليلة لإعادة تقديم مسارهم الجهادي في عمل أدبي، وعلى أهمية هذه الأنماط من الكتابة، وضرورة تطويرها، فإن ما هو منعدم، وخاصة لدى الإسلاميين، هي تلك الكتابات التي تتناول الفعل الجهادي، بما في ذلك النماذج الفردية، من جهة الكشف الثوري، عن دورها وفعاليتها وقدرتها العمليّة على تجاوز ما يبدو مستحيلا، ومن جهة أخرى الأداء العسكري، تخطيطا، وإدارة، ومواجهة.

ومع أن تاريخ الثورة الفلسطينية لم يخل من هذا النمط من الكتابات، لاسيما مع تأثّر فصائل الثورة في ذلك الحين بعدد من الثورات العالمية، واهتمامها بتقليد تلك الثورات إن بالخطاب أو بالممارسة، ورفعها شعارات كبيرة من قبيل حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية، واشتغالها على إنزال النظريات الثورية، كالماوية أو الفيتنامية، على الحالة الفلسطينية، إلا أن تجربتنا الثورية خالصة الأصالة، والفطرية، والطبيعية، والمُلهمة بذاتها، والآسرة دون استنساخ، سواء تجارب الخلايا الصغيرة، والمطاردين، أو ملحمة العام 2014 في قطاع غزّة.. لم تنعكس في نصوص نظريّة، تستفيد من المعرفة العملية التي خلّفتها تجربة الأفراد أو الخلايا الصغيرة، أو تكرّس النظرية القتالية التي انتهجتها المقاومة في غزّة في حرب 2014، وعن أي إيديولوجيا ثورية انبثقت تلك النظرية القتالية.

كيف لشاب صغير لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، أن يمنحنا هذه الممكنات للكتابة عن فعل ثوري لم يتجاوز شهرا واحدا من تنفيذ عملية قتل زعيم المستوطنين إلى استشهاد أحمد نصر جرّار؟!
وهكذا، هناك الكثير لقوله، مما لم يُقل بعد، وبعض ذلك الذي نحتاج إلى قوله ينبغي أن ينطلق من عمق التجربة المنقوعة بالعرق، والمغمّسة بالدم، والمعمّدة بالتعب والسهر والتراب، كحرب العام 2014. أمّا تجربة شهيدنا أحمد نصر جرّار، وإن كنّا ما نزال نجهل كيف، هو ورفاقه، فكروا وخططوا ونفذوا وانسحبوا وبدأت حكاية المطاردة معهم، وإن كانوا قد خطّطوا لشأن المطردة سلفا أم لا، أو كانوا قد وضعوا في اعتبارهم كل العوائق التي يبدو تجاوزها محالا لكل عارف بأوضاع الضفّة الغربية أم لا، أمّا هذه التجربة، وبالرغم مما نجهله منها، فيمكن استنتاج الكثير منها مما ينبغي أن يُكرّس نصوصا نظرية، لأهمية التجربة، ونتائجها، وللتعقيد الشديد في الظرف الأمني واللوجستي في الضفة الغربية.

بيد أنّ هذا الممكن الذي ينبغي قوله، وقد منحنا إيّاه الشهيد، مما يعظّم من أزمة الكتابة عن الشهيد، ولا يخفّف منها، وذلك لاعتبار وجوديّ أولا وأخيرا، يحيلنا على سرّ الشهيد، إذ كيف لشاب صغير لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، أن يمنحنا هذه الممكنات للكتابة عن فعل ثوري لم يتجاوز شهرا واحدا من تنفيذ عملية قتل زعيم المستوطنين إلى استشهاد أحمد نصر جرّار؟!

بالتأكيد لا يتوقف السؤال هنا، إذ حالة الإلهام التي ظلّل بها الشهيد فلسطين كلّها، والفلسطينيين حيثما وجدوا، وتحوّله إلى أيقونة عربية، من الأسئلة التي تتفتّح بلا توقف، بيد أنّ الذي أردّت قوله، إنّه وحتى في المستوى العمليّ الصرف من مسيرة الشهيد؛ يتولّد سؤال وجوديّ، يقول: كيف يمكن لشاب صغير في أقل من شهر أن يفعل ذلك كلّه بالاحتلال وبنا؟!

والحقّ أن هذا السؤال ابتدائي، قبل ذلك كلّه، بمجرّد بزوغ هؤلاء الذين يتطوّعون لمنح أعمارهم لنا، وحمل هذا العبء الذي تنوء به الجبال عنّا، ثم لك أن تسأل حينها، من أين جاؤوا بكل هذا، وكيف تكوّنوا، وكيف لم يُفتنوا بنا، وقد جعل الله أمثالنا فتنة لأمثالهم، فتجاوزونا وكأننا لم نكن؟! لك أن تسأل ذلك كلّه وأنت أقصى ما تفعله أن تكتب عنهم، وأقصى ما يمكنك أن تعزّي نفسك به؛ أنك سرت يوما ما قليلا في طريقهم، ثم تنكبّت عنها، زاعما أنّك لم تزل عليها، وأنت تبحث لنفسك عن مسلك دنيوي يعوضك عما فاتك بسبب ذلك القليل!

أحمد نصر جرّار قد عاش حياة مضاعفة أضعافا كثيرة، ونحن وإن كنّا لا نزكّي على الله أحدا، إلا أنّ لنا أن نتلمّس الظاهر مما نعاينه في وجودنا، وأمّا حياته في الغيب، فأمرها إلى الله
الجزيرة
 
إنّ سرّ الحياة والموت، السرّ الوجودي الأعظم، الأكثر اتصالا بالبحث الدائم عن حكمة الله في وجودنا، ثم في أدوارنا وأقدارنا في هذه الحياة، ثم في مصائرنا فيها، لا حلّ له إلا لدى هؤلاء الذين يمكنك أن تقسم وأنت مطمئن أنّ بينهم وبين الله سرا تعي الظاهر منه وتدركه ولكنك تعجز عن تصوريه، أو تقديمه في أيّ زيّ لغوي، بعضُ هؤلاء لا تُكتب لهم الشهادة، وبعضهم تُكتب له، وأكثر من عرفتهم من هؤلاء، الذين قلتُ في حيواتهم إنّ بينهم وبين الله سرا، أكثرهم قضوا شهداء، بل إنّ بعضهم كنت أرى مصائرهم بعين قلبي قبل أن تأتيَ تلك المصائر، لأنّ سرّهم بتلك القوّة الظاهرة.

ثمّ، لك أن تتأمّل، والله تعالى، الذيّ قرّر أنّ ما من نفس إلا وهي ذائقة الموت، والشهيد نفس كغيره، قد قرّر أيضا أن الشهداء أحياء على الحقيقة يرزقون، ونهى أن يقال لهم أموات "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ"، فانظر إلى هذا الحلّ العجيب للغز الحياة والموت.

يمكننا أن نقول الآن، إنّ أحمد نصر جرّار قد عاش حياة مضاعفة أضعافا كثيرة، ونحن وإن كنّا لا نزكّي على الله أحدا، إلا أنّ لنا أن نتلمّس الظاهر مما نعاينه في وجودنا، وأمّا حياته في الغيب، فأمرها إلى الله، فقد كان يمكن لهذا الشابّ أن يعيش نجاحات كثيرة مما يتنافسه الناس في الدنيا ويسعون إليه، ثم يمضي عمره سريعا وينتهي وكأنّه لم يكن، لكن انظر إلى حياته بعد شهادته، أثرا وإلهاما، ثمّ ذكرا خالدا، وكأنّه ظلّ بجسده بيننا.

وإن كنتَ مهموما بتلك الأسئلة، خجلا من تواضع دورك، غارقا في التفكّر في عمرك السريع، كيف لك ألا يغلب على نصك انفعالك بهؤلاء المبعوثين فينا نورا من لحم ودم؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق