الاثنين، 5 فبراير 2018

مهلاً أيها القراء

مهلاً أيها القراء


إحسان الفقيه

عندما تُطالعُ مُقدمة كتاب «العادات السبع للناس الأكثر فاعلية»، تقع عيناك على ثناءٍ واعترافٍ بالجَميل، يتقدمُ به المؤلف ستيفن كوفي إلى طُلّابه وقُرّائه الذين جرّبوا مضمون المادة، وقدّموا له الآراء المختلفة، لإيمانه بقُدسية تلك الشراكة بين الكاتب والقارئ.

لقد دفعت تلك الثُّنائية الكاتبَ والمخرج الأمريكي بول أوستر، للقول بأن القارئ هو الذي يخلُق الكِتاب في نهاية المَطاف، والعبارة وإنْ رآها البعض تحمل لونًا من ألوان المبالغة، إلا أن الكاتب بالفعل يستفيد من القارئ كما يُفيده، ولطالما صرّحتُ ـ عن قناعة – بأن قارئي يُسهم في تطويري، وله أدين بالشكر، وأراعي وداد لحظاته على طريقة الأحرار، إذ أنه يُحوّل النصّ الذي أكتب إلى قيمة فكرية.
ولأنها شراكة بين الكاتب والقارئ، فلا يسَعُني الاكتفاء بما كتبتُ سابقا في غزَل القُرّاء، بل عليّ إيقاظ همة القارئ ليستشعر مسؤوليته الفكرية، وتعاهُدُهُ بعتاب المحبين، ليدعَ عنه ما يُعكِّر صفو الشراكة ويَذهب بثمرتها، وليؤدي دوْره في النهوض بالوعي والثقافة.
لعلّ من أشد ما يؤثِّر على تلك الشراكة، أن يتلقى القارئ النصّ على قاعدة التصنيف، فيدخل إلى القراءة مُخاصمًا لا راغبًا، مُغلِّبًا تصنيف الكاتب على ما يكتب، فإن كان التصنيف إيجابيا – من منظور القارئ- استحسن ما يكتب وأشاد به وروّج له، فحسبُهُ أن الكاتب ينتمي إلى معسكره أو خندقه الفكري، وإما إن كان التصنيف بخلاف ذلك، فنظرةٌ واحدة في العنوان أو في صدر المقال، تكفي لارتكاب مذبحة كلامية من تسْفِيهٍ وتخوينٍ ورشقٍ للنَّوايا، وما هكذا تُورَدُ يا سعد الإبلُ.

ليعلم القارئ أنه بذلك المسلك يُسيء إلى نفسه بأكثر مما يسيء إلى الكاتب، فالمفترض أن الذي يلِج عالم الحروف، ويتابع الكُتَّاب وما يكتبون، أن يكون لديه حدٌ أدنى من القدرة على التمييز بين الغَثِّ والسَّمين، ويملك معايير لا بأس بها، يُقيِّم بها ما يُسطِّر قلمُ الكاتب، فإن كان يفتقد ذلك الحدَّ الأدنى فلا يصحُ أن يُنصِّب نفسه حاكما على ما لا يرتقي إليه فهمه.
الكُرْسُف الذي تضعه في أذنيك لتحجب عن نفسك رسالة المُخالف، وضعه كذلك الطفيل بن عمرو الدوسي بِناءً على توجيهات مشركي مكة، لئلا يستمع إلى نبي الإسلام، غير أنه نظرَ في نفسه وأدرك أنه بذلك قد استخفَّ بعقلِه وهو الرجل اللبيب، فعقد العزم على تعريض نفسه لتلك الرسالة، فإن كان خيرًا أخذ به، وإن كان شرًا أعرض عنه. دائما أتساءل في حديثي مع ذاتي: إن لم أجمع بين الحسنيين، فهل أكتب ما ينفع القارئ أمْ أكتب ما يُعجبه ويوافق هَواه؟ إنه السؤال ذاته الذي يجب أن يطرحه القارئ على نفسه كذلك، أيقبَلُ مَنْطِقُه أن أجعلَ موافقة هواه مُحرّكًا لي في كتاباتي؟ إنني لو فعلت فلا أحسبها إلا خيانة لقارئي، وأهْونُ على نفسي تحمُّلُ النقد والتجريح، فلن يبقى إلا ما ينفع الناس، ودون ذلك فمصيره المُحتَّم أن تذروه الرياح «فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

لماذا يُحاصر القارئ كاتبَه ويرضى له أن يعمل تحت هذا الضغط؟ لماذا لا يدعه يُطلق كل طاقاته الإبداعية ويُرْخي العَنان لقناعاته بدون اضطراب؟ بل لماذا لا يظن القارئ لوهْلة أن الخَلل في تصوّراته وقناعاته هو؟ 

إن فاحت من حديثي رائحة نقْدٍ فلا ضير، فلا يلزم أن يجْلد كلّ ذي قلمٍ ذاته ليُرضي غرور قارئه، فبِذا يكون الهدم لا البناء، ومن قبلي سلك المنفلوطي مسلك الجد والخشونة مع قرائه، فقال في «النظرات» بعدما عدّد أصناف الأشراف من الرجال: «فإن رأيت في نفسك أيها القارئ أنك واحد من هؤلاء عُلِم أنك شريف وإلا فاسلك طريقهم جهدك، فإن لم تبلغ غايته فأخذُ القليل خير من ترك الكثير، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلتبْك على عقلك البواكي».
وإن تعجب فعجبٌ قولهم، إن الكاتب الذي تتغير مواقفه إنما هو مأجور، فإن هاجم اليوم من امتدحه بالأمس فقد باع قلمه لمشترٍ جديد، وإن رأى أن ما يصلُح بالأمس لم يعدْ يصلح اليوم فهو المتلون السطحي المضطرب، فمهلا يا قوم. لم أدّعِ يومًا الكمال، ولم أقل يوما أن وجهة نظري هي الحق الصُّراح، ولم أزعم يومًا أنني قد أحطت بكل شيء علمًا، فقط هي معطيات ونظرات وتأملات ثم وجهة نظر أُبديها عن قناعة، فإن أصبتُ فبها ونعم، وإن أخطأت تراجعت، بربك أيها القارئ هل كان ذلك بدعًا من القول والفعل؟ فقهاء الإسلام وأئمته لم يستحوا من تغيير فتاواهم، فهذا الشافعي له مذهبان قديم وجديد، ومن يتابع الدراسات الفقهية يرى أن كثيرا منها يتناول المسائل التي تراجع عنها الإمام مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما من الأعلام.
ومن قول الخليفة الراشد عمر نستلهم المَنْحى، فهو القائل لعامله: «لا يمنعك قضاء قضيتَه بالأمس، راجعت فِيهِ نفسك، وهُديت فِيهِ لرشدك، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
وكثير من رموز التخصصات المختلفة تراجعوا عما ظنّ غيرهم أنه من البديهيات، حتى أن الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي ديكارت، فتح آفاق عقول الجماهير على إمكانية تغيير المفاهيم الرياضية فقال: من يدري، ربما سيأتي بعدي من يثبت لكم أن مجموع زوايا المثلث لا يساوي 180 درجة.
أيسرُّك أن يتمسك الكاتب بالرأي – مهما بدا قصوره – لمجرد أنه قال به يوما ما؟ فرقٌ بين تغيير المبادئ وتغيير المواقف، فإن كان هذا هو الثبات الذي تنشده فالموتى كذلك ثابتون، جامدون، لا يتحركون.
أيها القارئ، إن لك عِرضًا تغضب إن ينال منه سوءُ الكلم، وإن لك كرامة تنزعج من خَدْشها، ولك أهلًا تحترق إن يمسسهم سوء، وكذلك من يكتب إليك، يستاء مما تستاء منه.
ألا يستقيم أن تختلف مع الكاتب وتُبدي رأيك، بدون تجريح أو إساءة؟ ذاك هو المَحكّ، وذلك هو اختبار الأخلاق، فلا معنى لأن تختبر منظومتك القيمية في حال الرضا، فتُضفي على ما يروق لك أرفع الأوصاف، لكنك ستُمتَحن بما يخالفك فيه الكاتب، هنا ستظهر المعادن، فمن التزم حدود الأدب، وترفع عن مساوئ الألفاظ، فذاك هو القارئ الفارس، وبمثل هؤلاء يكون إثراء الفكر، ومن حاد فليعلم أنه بذلك يُعبّر عن رداءة ثقافته وضيق أفقه.

أخطأ من ظن أن كلماتي تندرج تحت الشأن الخاص، فجُلُّ ما أرجوه أن نرتقي بأنفسنا، سواءً الكاتب أو القارئ، لنجعل من ذلك الوسط تجهيزًا لنقلة حضارية بعيدة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق